في إطار عملي كصحفي، زُرت غالبية الدول العربية من المشرق إلى المغرب. وفي كل بلد زرته، كان يُطرب أذني مدح مصر ومكانتها والدعم الذي قدمته للعرب تاريخيًا. وفي أزقة وشوارع القدس المحتلة ومختلف المدن الفلسطينية، كنت أرى صور الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في العديد من البيوت والمحلات، بينما تصدح أغاني أم كلثوم وعبد الحليم والشيخ إمام. وكذلك كان الحال في الأردن ولبنان وسوريا والعراق، حيث لا تزال العديد من الشوارع والميادين تحمل حتى الآن اسم جمال عبد الناصر.
وفي دول الخليج، سمعت الكثير من كلمات العرفان، خاصة من الجيل الأكبر سنًا، للدور الذي لعبته مصر في إنشاء تلك الدول عمليًا، خاصة في أعقاب تدفق الثروة النفطية الهائلة في السبعينيات من القرن الماضي. فالمصريون هم من بنوا المدارس والجامعات والمستشفيات في دول الخليج، ووضعوا النظم القانونية والقضائية التي تحكمها حتى الآن. ولم يكن أمرًا مستغربًا في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي أن تجد قضاة مصريين يفصلون في المنازعات، فلم تكن الخبرات المحلية للقيام بتلك المهمة تبلورتْ بعد.
أما في اليمن العزيز، فكان يكفي أن أقول إني مصري لأتلقى كل أنواع الترحيب وكرم الضيافة، وكأن الناس هناك يودون لو يحملونني على الأكتاف. وبالرغم من كل ما قد يُثار من تحفظات حول التدخل العسكري المصري المباشر في اليمن، وكيف أثر ذلك في قدرة الجيش المصري على مواجهة العدو الإسرائيلي في حرب 1967، فإنَّ غالبية اليمنيين يُقرون بأنه لولا التدخل المصري لما انتهى حكم الأئمة المنتمي للعصور الوسطى، ولما تمكنوا من بناء جمهوريتهم التي تمتعت ببعض مظاهر الحداثة.
وفي الجزائر، كان يستوقفني عاملون في الفندق والأماكن التي أزورها، فقط ليستمعوا إلى لهجتي المصرية قائلين "كلمنا مصري". كنت أتلقى الأسئلة عن أحوال الفنان عادل إمام، ولاعبي نادي الزمالك، الذي يبدو أنَّ شعبيته في العالم العربي تفوق شعبية الأهلي، بعكس الحال في مصر. ويقر الجزائريون أنه لولا الدعم المصري لثورتهم الخالدة ضد الاحتلال الفرنسي الوحشي، لما تحقق لهم الاستقلال.
ومن كل تلك الدول وغيرها، تلقى مئات الألوف تعليمهم في المدارس والجامعات المصرية، وكانوا يتحدثون معي بعواطف جياشة عن ذكريات الإقامة الطيبة في مصر، وكيف أنهم لم يشعروا يومًا أنهم غرباء أو أجانب. هؤلاء الذين تعلموا في مصر صاروا عمليًا سفراءنا في دولهم عندما عادوا إليها، وانعكس ذلك لاحقًا في الدعم الذي تلقته مصر من تلك الدول عندما احتاجت، سواء في حرب أكتوبر 1973، أو الدعم الاقتصادي في أعقاب الحرب.
الكراهية المريبة
لكل ذلك، أشعر باستغراب شديد من الحملة المتنامية وغير المفهومة على مدى الشهور الماضية التي ترفع شعارات معاداة "اللاجئين" العرب الذين اضطرتهم الحروب الأهلية في بلادهم إلى الإقامة في مصر، من العراق وسوريا واليمن والسودان.
تراجعت أعداد العراقيين الذين لجأوا إلى مصر في أعقاب الغزو والاحتلال الأمريكي لبلادهم في 2003 بعد تحسن الأوضاع نسبيًا هناك. ولكن لم يكن من الممكن لمصر، الدولة الأكبر في العالم العربي، سوى أن ترحب بهم وتستقبلهم، من دون أن ننسى بالطبع أنَّ ملايين المصريين بدورهم أقاموا في العراق في الفترة التي سبقت الاحتلال الأمريكي، وهو ما وفّر دعمًا ماديًا لأسرهم لم يكن من الممكن الاستغناء عنه، في ظل ظروف اقتصادية شديدة الصعوبة.
الترحيب بضيوفنا وأشقائنا بالروح المصرية المشهورة بالطيبة وخفة الدم يجعلهم يذكرون مصر بالخير
أما الأشقاء الأعزاء من سوريا، التي دمرها نظامها الديكتاتوري الدموي فقط للحفاظ على بقائه، فكيف ننسى أننا كنا يومًا دولةً واحدةً تحمل اسم "الجمهورية العربية المتحدة"؟ نعم لم تكن هذه التجربة ناجحةً أو نموذجيةً، وتحفَّظ الكثير من السوريين على ما اعتبروه هيمنة مصرية على شؤونهم، ولكن في النهاية لا يوجد عمليًا شعب أقرب لنا من السوريين في العادات والتقاليد.
أما السودان، فلن أكرر شعارات أننا دولة واحدة وشعبان نشرب سويًا من مياه النيل. فهذه الشعارات لا تروق للكثير من الأشقاء السودانيين الذين يرون أن المصريين يتعاملون معهم بتعالٍ، وربما ببعض العنصرية، بسبب لون بشرتهم. لكنَّ الواقع هو أن ملايين السودانيين اعتادوا الإقامة في مصر على مدى عقود طويلة، وقبل اندلاع الحرب الأخيرة بين البرهان وحميدتي قبل عام.
وبالتالي، لا يمكن اعتبار السودانيين لاجئين، بل هم ضيوف دائمون في البلد الأقرب لهم، بسبب ظروف الحروب التي عاشوها قبل انفصال الجنوب عن الشمال، وكذلك لتلقي التعليم والعلاج والخدمات التي لا تتوافر في السودان.
الحملة المريبة الحالية ضد من يتم وصفهم بـ"اللاجئين العرب" تتجاهل كذلك الفائدة التي عادت على مصر منذ قدومهم، من خلال ضخ الأموال التي فروا بها من بلادهم في عجلة الاقتصاد المصري. فالعراقيون والسوريون واليمنيون والسودانيون يقومون بشراء آلاف من العقارات التي كانت ستبقى خالية تذروها الرياح، خاصة في المدن الجديدة، بجانب ما ينفقونه على تعليم أبنائهم في المدارس والجامعات، وما يتلقونه من علاج في المستشفيات.
والسوريون تحديدًا نالوا استحسان المصريين بسلاسل المطاعم التي قاموا بتشغيلها وما تتميز به من نظافة وجودة، وكذلك المصانع الصغيرة التي تنتج المنسوجات. وربما يكون ذلك أحد أسباب الهجوم عليهم من قِبَل منافسيهم المحليين.
أين قوتنا الناعمة؟
من ناحية أخرى، فإنَّ كل هؤلاء الضيوف العرب لا يتلقون دعمًا ماديًا من الحكومة المصرية كـ"لاجئين"، بل العكس، فحكومتنا تتلقى دعمًا ماديًا من عدة دول أوروبية للمساعدة في تقديم المساعدات والخدمات للاجئين، وكذلك من أجل منع استخدام أراضيها منطلقًا للهجرة غير الشرعية لأوروبا، التي تتنامى فيها مظاهر العنصرية ومعاداة الأجانب.
ولكن الأهم من كل ذلك هو أنَّ حملات الهجوم العنصرية الأخيرة على ضيوفنا، تتجاهل الأثر الإيجابي لتلك الاستضافة على المدى البعيد، تحديدًا من ناحية استعادة مكانة مصر؛ ما نصفه بـ"قوتها الناعمة".
لم نعد نعيش في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، ولم يعد لدى مصر الكثير تقدمه لتلك الدول في ظل ظروفنا الاقتصادية الصعبة، وحقيقة أننا دولة تدفع نحو عشرة ملايين مواطن للهجرة سعيًا وراء الرزق، وفقًا للأرقام الرسمية. فالأوضاع تغيرت كثيرًا في تلك الدول قبل انهيارها بسبب الحروب الأهلية والنزاعات، وأصبحت لديها أجيال جديدة لا تعرف شيئًا عن مصر ودورها التاريخي في دعم دولهم.
ومن المؤكد أنَّ الترحيب بضيوفنا من سوريا والعراق واليمن والسودان واحتواءهم، ولو على الأقل بالروح المصرية المشهورة بالطيبة وخفة الدم، في ضوء أن مصر الرسمية لا تقدم أي دعم مادي، سيترك لديهم ذكريات طيبة تجعل أجيالهم الجديدة تذكر مصر بالخير، وتجعلهم، كما آباءهم وأجدادهم، سفراء مصر لدى بلدانهم بعد انتهاء ما تعانيه دولهم من حروب ونزاعات.
في النهاية، لا يراودني أي شك أنَّ غالبية المصريين الطيبين الكرماء يرحبون بضيوفهم من الدول العربية الشقيقة في ظل ظروفهم الحالية، ولا يمانعون أن يقتطعوا من قوتهم مؤقتًا مقابل تقديم العون لهم. ولكن تبقى المشكلة في السوشيال ميديا التي تضخم من الحملة العنصرية الحالية ضد ضيوفنا العرب.
ولديَّ بعض الثقة أنَّ ما يلقاه السوريون والعراقيون واليمنيون والسودانيون من ترحاب من المواطنين العاديين البسطاء في حياتهم اليومية، سيدفعهم لتجاهل هذه الحملة العنصرية البغيضة التي لا تعبر سوى عن أقلية من المصريين.