لا يمكنك تفادي الاندهاش والحيرة، حين تعرف أنَّ عشرات آلاف المصريين صاروا منخرطين في الرهان الإلكتروني في مجال الرياضة، قلّة منهم تراهن على المسابقات المحلية، والأغلبية في المسابقات العالمية، ليس فقط حُبًّا في الرياضة، إنما سعيًا وراء المال.
ورغم أنَّ دار الإفتاء المصرية وصفت تلك الرهانات بأنها نوع من القمار، المحرَّم شرعًا، طالما يدخل فيها ربح المال وخسارته، فإنَّها تجذب الكثيرين، وبعضهم يبحث عنها ويتخذها وسيلة لكسب المال. وهناك من اقتحم هذا البرنامج الموجود على الهواتف الذكية حياتهم، ثم فرض نفسه عليهم، وجعلهم يدمنونه. ويوجد من بين هؤلاء الذين أنصتوا إلى رفاقهم وأصدقائهم الذين سبقوهم على هذا الدرب، فأغروهم به، لتعم الكارثة.
تحول الأمر إلى ظاهرة، يتحدث أصحابها عن تجاربهم المريرة معها، التي تبدأ بالرغبة في الاكتشاف، ثم الدخول على استحياء أو بجرأة في المجال، والطمع في جمع مال بلا جهد عضلي أو عقلي كما يحدث في مجالات العمل الطبيعية، ثم إبداء الندم لدى من خسروا بعد كسب، أو أدمنوا بعد توغل في هذا العالم، الذي لا يفتقد بالطبع إلى السحر والجاذبية، بعد أن كانوا يقفون فقط على شاطئه مترقبين أو مترددين أو حائرين.
هذه الظاهرة هي واحدة من الظواهر الأخرى، إيجابية أو سلبية، التي اقتحمت حياتنا المحلية المألوفة، بفعل "ثورة الاتصالات" التي جاءت في ركاب عولمة الأشياء والموضوعات والأفكار والأخيلة، واتسعت وتعمقت في ظل الإنترنت، وراحت تكسب بمرور الأيام أرضًا جديدة، وزبائن جددًا.
الهجرة في المكان
لكن لظاهرة الرهانات الرياضية وجه آخر، له تجلياته وحضوره في مجالات أخرى، ألا وهو الشعور الزائف بالهجرة، التي لا يحتاج المرء في نوعها الحقيقي إلى رحيل جسده عن بلاده أو مسقط رأسه، حتى يلتقط بعض الأشياء، ويحقق بعض الأهداف التي يصبو إليها، ومنها بالطبع تحصيل مال في ظل ضيق العيش في مصر، مع ارتفاع معدلات البطالة بين الشباب، وفقدان الأمل في تحقيق الحد المناسب من الحياة اللائقة، التي إن لم يبلغ فيها المرء الكفاية، فعلى الأقل يسعى إلى الوقوف على حافة الكفاف، في ظل تدني الدخول وارتفاع الأسعار بلا هوادة.
قد بات الإنترنت ساحة لالتقاط الأرزاق بوسائل عدة، حيث وجدنا كثيرًا من الفتيان والفتيات في مصر، سواء كانوا لا يزالون في مراحل التعليم الجامعي، أو من بين الخريجين الذين أضناهم البحث عن عمل، أيِّ عمل، يعملون مندوبي مبيعات لشركات كبرى، متعددة الجنسيات، تبيع للناس كلَّ شيءٍ، وأيَّ مستلزمات صارت ضرورية في الحياة المعاصرة للجيل الجديد.
أصبحت الهواتف الذكية مصدر تشويق إلى هجرة من نوع آخر
وانخرط مهندسو البرمجيات وخاصة مصممو المواقع والألعاب الإلكترونية في وظائف من هذا القبيل، ازداد رونقها في ظل ضيق السوق المحلية عن استيعاب خريجي هذه المجالات المهمة، التي خلقتها اقتصادات المعرفة عبر العالم، وانهيار الجنيه أمام الدولار وغيره من العملات التي يتقاضى بها هؤلاء رواتبهم.
أدركنا كيف اتسع هذا المجال في مصر، حين انتفض بعض المنخرطين فيه يضجون بالشكوى من انقطاع الكهرباء المتكرر، ما يتسبب في تعطيلهم، ويثير مشكلات لهم مع أرباب العمل الذين لا يتفهمون هذه المشكلة، ويهددون الشباب الذي يعمل معهم بالاستغناء عنهم. كما أدركنا أيضًا حجم القيود المفروضة على بعض البرامج لأسباب أمنية تتذرع بها السلطة السياسية، وهي برامج مهمة لهؤلاء في أعمالهم، علاوة على بطء الإنترنت في مصر قياسًا بالدول الأخرى.
هؤلاء جميعًا، بدءًا من الرهانات الرياضية وحتى الأعمال الإلكترونية مرورًا بالتسويق عن بعد، يُعبِّرون عن وجهٍ آخر لحلم الهجرة الذي يداعب الشباب المصري، بإمكانهم تحقيقه وهم في بيوتهم دون سفر غير مضمون، يتطلب الوقوف أيامًا على أبواب السفارات الأجنبية بحثًا عن تأشيرة دخول إلى هذا البلد أو ذاك، أو المغامرة بالقفز في أحد مراكب الموت المروع عبر البحر المتوسط إلى أوروبا.
من قبل كان حُلم السفر الإلكتروني يقتصر على المتعة التي يحصل عليها أولئك الذين يستخدمون الإنترنت في عيش حياة أخرى، حيث تتيح بعض البرامج للشباب أن يتجولوا افتراضيًا في جادة الشانزلزيه أو شارع أوكسفورد، وبعضهم كان يُنصّب نفسه رئيس جمهورية، فيدخل قصر الإليزيه أو البيت الأبيض أو الكرملين ليدير شؤون الدولة من منزله.
وهناك من كان يتخيل نفسه قائد جيش عرمرم يخطط لحرب، ويخوضها دون أن يبرح مكانه، أو رجل أعمال يدير شركة كبرى، ويشبع بهذا بعض رغباته المكبوتة.
وأتذكر أنني في سنة 2010 حللت وقائع فيلم تسجيلي عن هذه الحياة لحساب قناة فضائية عربية، وقلت يومها "إن شبابنا قد ضاق بعيشه هنا، وأدرك أن أحلامه في بلادنا مجهضة، ولذا بدأ يردم الهوة الواسعة بين الرغبة والقدرة، بالهروب إلى الخيال الجامح، لكن ليس هناك ما يمنعه من أن ينفجر غضبًا في وجه الذين يبددون أحلامه، على الأقل في عيش كريم، ولذا لا أستبعد قيام انتفاضة أو ثورة عما قريب"، ولم تمر سوى شهور على هذه المقابلة، حتى فاضت شوارع بلدان عربية عدة بشباب غاضبين يطالبون بإسقاط أنظمة حكم، تقف حجر عثر أمام تحقيق أحلامهم.
في ركاب هذا كانت خرائط جوجل تتيح للشباب التجوال في بلاد يتعذر عليهم السفر إليها. بعض هؤلاء كانوا في الماضي يُشبعون هذه الرغبة بقراءة "أدب الرحلات" الذي يتيح لهم التعرف على أماكن سياحية يحلمون بالذهاب إليها، لكنهم عاجزون لضيق ذات اليد، أو صعوبة الإجراءات والشروط التي تُمكِّنهم من القيام بهذا بسهولة ويسر.
التحريم وحده لا ينفع
لهذا لا أتوقع أن يؤدي الاكتفاء بتحريم ظاهرة "الرهانات الرياضية"، أو تحذير أرباب الأسر وقادة المجتمع من آثارها الضارة، إلى تقليل عدد المقبلين عليها، طالما أن الشباب لا يجد البدائل الطبيعية لتحصيل المال.
وما يزيد الطين بلة أنَّ هذه الظاهرة لها وجه لا يقدِّره ويتفهمه القائمون بالتحريم والتحذير، وهو تحقيق الهجرة المتخيلة، التي بدأت بانشغال شبابنا بكرة القدم العالمية، حتى إنَّ بعضهم يشجع فرقًا أوروبية كبرى فقط، وانتهت إلى توظيف هذا الانشغال في تحقيق أي كسب مالي.
لم تصبح الهواتف الذكية، التي لم يعد بوسع أطفالنا الاستغناء عنها، أكثر من مجرد أداة تسلية أو تحصيل معرفة سريعة فحسب؛ بل أيضًا مصدر تشويق إلى هجرة من نوع آخر، هجرة الأذهان والوجدان التي يغذيها الخيال. والأفدح أنها تصنع بيننا ملايين المدمنين لألعاب خطرة ورهانات مدمّرة ومُحرَّمة ومُجرَّمة، إن أغرت البعض في البداية بكسبٍ سريع، فستسقط به حتمًا إلى قاع خسارة أسرع، لتصبح أحد مصادر تآكل موارد أسرٍ تئن أساسًا تحت وطأة حياة شديدة الصعوبة.