فيما ظهر أنه ردٌ على الهجمات الأمريكية في سوريا والعراق، أعلن ما يعرف بـ"المقاومة الإسلامية في العراق" عن غارة جديدة بالمسيَّرات الإيرانية لضرب قاعدة تدريب كردية تستخدمها قوات أمريكية، ما أدى لمقتل ستة من المتدربين التابعين لتحالف ما يُعرف بسوريا الديمقراطية، وهو تحالف ذو أغلبية كردية متحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية في شمال سوريا.
تأتي العملية في إطار رد الفصائل العراقية المتحالفة مع إيران على هجمات أمريكية جرت في 4 فبراير/شباط الجاري، عقب مقتل ثلاثة عسكريين أمريكيين في موقع برج 22 بالأردن، ضمن سلسلة هجمات استهدفت القوات الأمريكية في سوريا والعراق والأردن. كانت الهجمة على برج 22 فارقة حيث سجلت مقتل عسكريين أمريكيين في غارة جوية للمرة الأولى منذ الحرب الكورية، سنة 1953.
العملية معقدة، يتداخل فيها العراقي والإيراني والسوري والأمريكي والكردي، وفي الخلفية اليمني واللبناني والفلسطيني والإسرائيلي. يبدو أن الشرق الأوسط خرج عن قواعد الردع القديمة التي كان يكفي فيها ردع دولة ما بقوة عسكرية فائقة لفرض انتصار خاطف ونهائي. الأمور الآن تغيرت أمنيًا وصار للحرب في غزة ثمن تدفعه أمريكا.
يمكن رصد ظواهر عدة تجعل الردع الأمريكي في الشرق الأوسط في أزمة، منها رخص تكلفة الحرب، والتشتت على مساحة جغرافية واسعة، وعدم وضوح الأطراف بشكل قاطع، وصعوبة ردع جماعات ما دون الدولة.
حرب رخيصة لكن فعالة
استهداف جماعة الحوثي، المدعومة من إيران، للسفن التي على علاقة بإسرائيل أو متجهة إلى موانيها بأسلحة رخيصة، أحدث نقلة نوعية كبيرة في تاريخ الحصارات البحرية. فللمرة الأولى يُفرض حصار جزئي على بلد بعيد نسبيًا دون استخدام أسطول أو قطع بحرية متطورة.
نجح الحوثيون بأسلحة رخيصة نسبيًا في تحويل مسارات العديد من السفن إلى طريق أطول حول إفريقيا، ما زاد من تكلفة عملية الشحن والتأمين والوقود، فارتفعت تكلفة رحلة حاوية واحدة من آسيا إلى شمال أوروبا من حوالي 1500 دولار في ديسمبر/كانون أول الماضي إلى نحو 5500 دولار الآن، بعد زيادة مخاطر الملاحة حول باب المندب وخليج عدن.
وهو ما أثر بدوره في سلاسل الإمداد ومستويات التضخم العالمية، ويمكنه رفع أسعار السلع بين 1 و2% إذا استمرت مخاطر الملاحة لسنة. في الوقت نفسه تكلفت الولايات المتحدة وبريطانيا والتحالف الداعم لهما الكثير في اعتراض صواريخ الحوثيين أو تنفيذ غارات جوية على قواعدهم. وهي العمليات التي لم تمنع إلى الآن تهديد الملاحة نحو إسرائيل، بل على العكس جعلتهم يوسعون نطاق استهدافهم لتشمل السفن البريطانية والأمريكية أيضًا.
الأمر أشبه بمحاولات رجال إطفاء السيطرة على حريق في مساحة شاسعة من الأرض
وهنا تظهر أزمة الولايات المتحدة وبريطانيا وحلفائهما في التكلفة الرخيصة نسبيًا لأسلحة الحوثيين، مقابل الارتفاع الكبير لتكلفة اعتراضها. فعلى سبيل المثال، استخدمت السفن البريطانية صواريخ من طراز سي فايبر وأستر، تكلِّف ما بين مليون إلى مليوني جنيه إسترليني، لإسقاط مسيَّرات إيرانية ثمنها 16 ألف جنيه إسترليني فحسب.
كما استخدمت الميليشيات العراقية مسيَّرات شاهد الإيرانية الرخيصة في غاراتها الجوية التي أظهرت فاعلية في الاستهداف، ونجحت أكثر من مرة في تجاوز الدفاعات الجوية الأمريكية.
بشكل عام، حولت المسيَّرات الحرب إلى ممارسة أرخص وأكثر فاعلية، ما مكَّن جماعات فقيرة نسبيًا من إثارة متاعب لقوى عظمى، وهو ما يجعل للحرب ثمنًا مكلفًا على تلك القوى العظمى.
الحرب في مساحة جغرافية واسعة
أثبت مفهوم وحدة الساحات الذي استخدمه بكثافة التحالف المناوئ للولايات المتحدة وإسرائيل درجة من المصداقية بعد الحرب على غزة، فجرى تصعيد استهدافات على أهداف إسرائيلية وأمريكية في جبهة واسعة جغرافيًا تبدأ من خليج عدن جنوبًا حتى العراق شمالًا، مرورًا بسوريا ولبنان، بل في المحيط الهندي في بعض الأحيان.
هذا يشتت الجهود التي تُبذل لردع عدو متناثر على بقعة جغرافية كبيرة، وفي الوقت نفسه يهدد باشتعال أكبر في مساحة أوسع، وهو ما يجعل الأمر أشبه بمحاولات رجال إطفاء السيطرة على حريق في مساحة شاسعة من الأرض لا يستطيعون إطفاءها كلها في الوقت نفسه.
غابات من المسميات وعدم وضوح الأطراف
أعلن تحالف واسع تحت مسمى المقاومة الإٍسلامية في العراق مسؤوليته عن الهجمات التي استهدفت القوات الأمريكية في الأردن. ثم أعلن ما يسمى بكتائب حزب الله إيقاف عملياته. ومن قبل أعلنت إيران عدم مسؤولياتها عن الهجمات التي استهدفت القوات الأمريكية. في وقت لا ترغب فيه الولايات المتحدة بالدخول في حرب شاملة مع إيران، لذا فجهودها للرد على العمليات ضد قواتها أصبحت مبعثرة على جبهة كبيرة من الفاعلين الذين يستخدمون أسماء متغيرة وفضفاضة ومتجددة.
خلقت إيران غموضًا وتعقيدًا في شبكة وكلائها وتنظيماتها، ما يمثل صعوبة في استهدافها، نظرًا لارتباط بعضها بحكومات حليفة، مثل الحكومة العراقية صاحبة العلاقة القوية بالولايات المتحدة.
جماعات ما دون الدولة
تستطيع الولايات المتحدة ردع دول الشرق الأوسط، لكن نظرًا لهشاشة العديد من تلك الدول وضَعف بنيتها، فظهور جماعات ما دون الدولة، أو ما يُعرف بالفاعلين غير الحكوميين، يجعل الأمور أكثر تعقيدًا. فنظرًا للطبيعة الشعبوية والأيدلوجية لهؤلاء الفاعلين، التي تخلق لهم مصالح في الاستثمار في الغضب الشعبي من الممارسات الأمريكية، تكون قدرة الولايات المتحدة على ردعهم أقل بكثير من قدرتها على ردع الدول.
تواجه أمريكا تحديات جديدة ومربكة أثارتها قوى أضعف كثيرًا وأقل تسليحًا
شحنت الحرب على غزة درجات الغضب الشعبي الذي كان بمثابة استثمار سياسي كبير لتلك الجماعات لاكتساب أو تجديد الشرعية. فالحوثيون، الذين عانوا انقسامات قبائلية وعقائدية تهدد شرعية حكمهم، وجدوا في شرعية القضية الفلسطينية وسيلة لاكتساب مزيد من الأنصار والمؤيدين حتى فيما وراء الحدود اليمنية. وكانت الحرب أيضًا فرصة سانحة للجماعات العراقية المنقسمة داخليًا بعد الأزمات السياسية التي قوضت شرعية التحالف الشيعي الحاكم.
لا يعني ذلك أن الولايات المتحدة تعرضت لهزيمة حاسمة، أو أنها فقدت كل أدوات ردعها في المنطقة، لكنها تواجه تحديات جديدة ومربكة أثارتها قوى أضعف كثيرًا وأقل تسليحًا وتكنولوجيا، لكنها أخف حركة وفاعلية وأكثر انتشارًا في مناطق منوعة في المنطقة.
ظهرت الهجمات على الأهداف الأمريكية في هذه البقعة الكبيرة من الشرق الأوسط كتغيير في شروط اللعبة، حيث جعلت القواعد الأمريكية غير آمنة، حتى لو تحالفت مع كل الحكومات العربية في إقليم لا شك أن الحكومات فاعل مهم فيه، لكنها ليست فاعلًا وحيدًا، وهو ما جعل للحرب على غزة ثمنًا ربما لا تحب الولايات المتحدة دفعه.
صاحب ذلك تغيير في لهجة الإدارة الأمريكية، فللمرة الأولى نسمع عن جهود حثيثة لوقف مستديم للحرب على غزة وليس مجرد "هدنة". فهل تغيير اللهجة مرتبط بالرغبة في عدم دفع ثمن أكبر؟