في نوفمبر/ تشرين الثاني 2019 في مستشفى العزيزية، جنوب طرابلس، لاحظ الأطباء أن الإصابات التي يعالجونها أكثر استهدافًا لمناطق الصدر والرأس، وأكثر دقة وبنوع متطور من الذحيرة التي تدخل ولا تخرج من الجسم. كان استخدام هذا النوع من الذخيرة خبر سيء للأطباء في مستشفى العزيزية، وكان خبرًا أسوأ لحكومة الوفاق الوطني بقيادة فايز السراج، فقد كانت نوعية الجروح ودقتها تكشف ببساطة أن الروس أصبحوا على خط النار وفي المواجهة، وأن الأمور أصبحت أكثر تعقيدًا من مجرد مواجهات شبه متكافئة مع قوات المشير خليفة حفتر. الأمر الذي لم ينفه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 11 يناير/ كانون الثاني، حينما أكد أن هناك بالفعل روس يقاتلون في ليبيا، لكنهم لا يمثلون الدولة الروسية ولا يتقاضون منها رواتب.
تحالف أوتوقراطي عابر للقارات
بطائرات سوخوي وميج في سماء طرابلس، وميليشيا شبه رسمية تتحرك بأوامر من الكرملين على أبواب العاصمة، وحلفاء محليين مسلحين بقاذفات روسية دقيقة التوجيه، تمدَّدت روسيا في فراغ أمني جديد في المنطقة العربية، وحجزت لنفسها مقعدًا على رأس موائد المفاوضات لتسوية المسألة الليبية، وأخذت خطوة أخرى في التقدم نحو عقيدتها الجيوبوليتيكية التي صاغها الاستراتيجي والمحلل الروسي ألكسندر دوجين Aleksandr Dugin سنة 1997 في كتابه أسس الجيوبولتيك: المستقبل الجيوبوليتيكي لروسيا (The Foundations of Geopolitics: The Geopolitical future of Russia) الكتاب الذي أثَّر على الوعي الاستراتيجي الروسي ويتم تدريسه في أكاديمية الأركان الروسية، وذلك لصياغة استراتيحية روسية تهدف إلى تطويق نفوذ حلف الناتو والولايات المتحدة الأمريكية، واستبدال هذا النفوذ بشبكة تحالفات روسية عابرة للقارات معادية للقيم الليبرالية، وداعمة لنظم حكم أوتوقراطية قوية، والتي اعتبرها الكاتب حلفاء محتملين ضد الهيمنة الأمريكية-الأطلنطية، أو ما أسماه "ثورة مضادة على الهيمنة الأمريكية Anti- American Revolution.
تكتيكات الرعب والحروب الهجينة
لتحقيق عقيدتها الجيوبولتيكية الجديدة، طورت روسيا تكتيكات متنوعة تسبب الصدمة والرعب والحروب غير المعلنة (الحرب في الظل) والتضليل المعلوماتي. طوَّرت روسيا هذه التكتيكات في حروبها الحديثة بداية من حرب الشيشان الثانية 1999، التي طوَّرت فيها سياسات القصف الجوي المركز للمدن والأهداف المدنية لأحداث أكبر قدر من الفزع بين المدنيين وتجفيف أي دعم شعبي محتمل للمقاومة، وهو نفس التكتيك الذي تم استنساخه في سوريا لدعم نظام بشار الأسد.
كما طورت روسيا ما يعرف بالحرب الهجينة "Hybrid Warfare" التي أشار لها قائد الأركان الروسي، الجنرال الروسي فاليري جيراسموف، سنة 2013 في مقال منشور له بعنوان The Value of Science Is in the Foresight والذي دعا فيه لاستخدام وسائل متباينة لا يظهر فيها الفروق القاطعة بين حالتي الحرب والسلام، ذلك المبدأ الذي عُرف لاحقًا في الغرب بمبدأ جيراسموف Gerasimov Doctrine.
وباستثناء الحروب الإلكترونية التي تستخدم فضاء الإنترنت، فالولايات المتحدة لها تاريخ طويل من استخدام بعض أشكال الحروب الهجينة، أثناء تدخلاتها في أمريكا اللاتينية في فترة الحرب الباردة، بينما يظهر المفهوم الروسي للحروب الهجينة كأسلوب يختلط فيه عدد من التكتيكات؛ مثل تكتيكات حروب الميليشيات شبه النظامية (الحرب في الظل) التي تتلقي أوامرها وتسليحها وتدريبها من الحكومة الروسية سرًا، وفي نفس الوقت تنكر الحكومة صلتها بهم في العلن، وهو نفس التكتيك الذي تم استخدامه لضم القرم والحرب في شرق أوكرانيا، فيما عُرف إعلاميًا بميليشيا الرجال الخضر الصغار "Little green men".
استنسخت روسيا عددًا من التكتيكات سيئة السمعة التي قامت بها الولايات المتحدة في العراق، مثل تجربة الشركات الأمنية المسلحة التي تُستخدم في العمليات القذرة، مثل شركة بلاك ووتر الأمريكية، التي أنشأ الكرملين معادلًا روسيًا لها، فاستخدم نفس التكتيك الذي مارسه في سوريا ويستخدمه الآن في ليبيا تحت مسمى مجموعة فاجنر Wagner Group التي يرأسها رجل الأعمال يفجيني بريجوزين Yevgeny Prigozhin المقرَّب لبوتين نفسه، والذين يشاركون في الحرب على مشارف طرابلس بداية من سبتمبر/ أيلول الماضي، ويدَّعي بوتين أن تواجدهم هناك للحرب كان بمبادرة منهم.
كما تم توظيف عدد من تكتيكات الحروب الإلكترونية لنشر الشائعات على مواقع التواصل الاجتماعي أو التجسس المعلوماتي أو تعقب المعارضين إلكترونيًا أو على الأرض، ودعم التوجهات الانعزالية داخل المجتمعات الغربية، لتقليص التواجد الأوروبي والأمريكي في المناطق التي تحاول روسيا ضمها لدوائر نفوذها (ربما يفسر هذا التفضيل الروسي لإدارة ترامب ذات التوجهات الانعزالية، والأحزاب اليمينية في أوروبا).
تستخدم روسيا ما يعرف بـThe Internet Research Agency وكالة أبحاث الإنترنت أو "مصنع الدعاية الروسية" وهي الوكالة التي كان لها دور في التدخل لتوجيه الانتخابات الأمريكية وفقًا لتقارير أمريكية، بعد نشر آلاف التدوينات والمنشورات والوسائط المرئية عبر حسابات مزيفة أو مسروقة.
الاستثمار في المعضلة الأمنية العربية
كان الشرق الأوسط والمنطقة العربية أحد أهم أهداف الجيوبوليتيك التوسعي الروسي، وذلك نظرًا لأهميته الاستراتيجية من ناحية، ومن ناحية أخرى لأنه كان بمثابة فرصة ذهبية للتمدّد في الفراغ الأمني الكبير الذي نتج عن المعضلة الأمنية العربية، التي ظهرت على إثر التنافس بين الدول والفاعلين الإقليميين فيما بينهم، مما خلق حالة عدم استقرار.
تكمن المعضلة الأمنية العربية في أن نظم الحكم في الإقليم تنتج كيانات غير قادرة على تحقيق استقرار أمني إقليمي طويل المدى، وذلك نظرًا لعدة أسباب؛ منها الهشاشة السياسية الداخلية للنظم العربية التي يعاني الكثير منها من مشاكل حول شرعية حكمها، وكذا الطبيعة الفردية للنظم العربية التي تمنعها من تطوير مؤسسات حكم عقلانية منفصلة عن شخص الحاكم أو الحكام.
تخلق تلك المعضلة الأمنية العربية حالة فراغ قابلة للملء من خارج المنطقة، وهو ما خلق موطىء قدم للعديد من القوى الدولية والإقليمية غير العربية، ومن بينهم روسيا التي تحاول أن تتمدد في الفراغ الذي خلَّفته إدارة ترامب ذات السياسات الانعزالية.
ليبيا نموذجًا
استغلت روسيا الفراغ الأمني الليبي لتحقيق عدة أهداف، منها التواجد في الخاصرة الرخوة لأوروبا في جنوب المتوسط؛ حيث تعد ليبيا المعبر الأساسي لموجات الهجرة غير النظامية من شمال إفريقيا وجنوب الصحراء إلى أوروبا. استغلت روسيا الانقسام الأوروبي حول الملف الليبي (خاصة بين إيطاليا وفرنسا) وعجز أوروبا عن الفعل على الأرض في منطقة تغلب فيها لغة المدافع على لغة الدبلوماسية، فاستغلت روسيا هذا الفراغ لتصعِّد الضغوط على الاتحاد الأوروبي كورقة ضغط لرفع العقوبات الأوروبية المفروضة على روسيا بعد ضم القرم والحرب في شرق أوكرانيا.
كما تظهر ليبيا كجائزة كبرى بما تملكه من ثروات بترولية، حيث تنتج حاليًا ما يقارب من 1.3 مليون برميل يوميًا من النفط رغم ظروف الحرب، بما يمثله ذلك من فرص استثمارية كبرى للشركات الروسية في مجال الطاقة أو إعادة البناء.
على خلاف فايز السراج، رئيس حكومة الوفاق الوطني في طرابلس، المشغول بتوازنات ميليشيات الغرب الليبي، ظهر الجنرال حفتر حليف أكثر ملائمة للسياسات الجيوبوليتيكية الروسية في المنطقة، فهو يقدم نفسه كجنرال عسكري يمنح ميليشياته اسمًا أكثر جاذبية للأوليجاركية الروسية وهو اسم "الجيش الوطني الليبي" (الذي لا يظهر كجيش ليبي تمامًا، حيث يضم بين صفوفه مرتزقة تشاديين وسودانيين ويقاتل إلى جوار شركة أمنية روسية، بدعم جوي إماراتي ودعم فني من مصر، ولا وطني تمامًا حيث يعتمد على دعم سلفي له ولاءات عابرة للحدود الليبية، وقبلي من قبائل الشرق الليبي، كما لا يظهر كجيش تمامًا حيث لا يتمتع بإنضباط مؤسسي هيراركي نظرًا لتضارب الولاءات خاصة بين الميليشيات السلفية المنضوية تحته)، غير أنه ورغم كل ذلك أظهر تماسكًا نسبيًا في فرض حكم أتوقراطي بسمت سلفي مدخلي في الشرق الليبي، ورغبة في قمع، لا استيعاب التبيانات الداخلية وهي الصفات المفضلة للروس في اختيار حلفائهم.
بدأت مساعدات روسيا لحفتر في 2015 غير معلنة ومقتصرة على التسليح والدعم الفني عن طريق مصر، ولكن بداية من سبتمبر 2019 وربما نظرًا للأداء غير المبشر من ميليشيات الجنرال حفتر، ألقت روسيا بكارت آخر بعد إرسال ما يزيد عن 200 فرد تابعين لمجموعة فاجنر المفضلة لدى الكرملين (وهو عدد يحدث فرقًا في حروب ميليشيات غير نظامية) وكان أغلبهم مدرب على القنص واستخدام الذخيرة الموجهة.
ورغم إنكار روسيا أي صفة رسمية لأفراد المجموعة، إلا أن فيديو تم تسريبه في نوفمبر الماضي يظهر اجتماعًا ثلاثيًا يضم حفتر ووزير الدفاع الروسي سيرجي شويجو وحفتر ويفجيني بريجوزين رئيس مجموعة فاجنر. كما دعمت روسيا تأسيس بنك مركزي موازٍ في الشرق الليبي، طبع 4.9 مليار دينار ليبي أو ما يعادل 3.2 مليار دولار في الفترة ما بين فبراير/ شباط ويونيو/ حزيران 2019.
غيَّر الدعم الروسي الجوي والأرضي موازين القوة لصالح قوات حفتر التي نجحت في السيطرة بسهولة على سرت في السادس من يناير الماضي بعد تحول ولاءات الميليشيا السلفية المدافعة عنها من حكومة السراج إلى قوات حفتر، وأصبحت طرابلس معرَّضة لسيناريو مشابه، لولا التدخل التركي الذي منح قبلة حياة لحكومة السراج.
لازالت الاحتمالات مفتوحة بعد مؤتمر برلين خاصة في ظل استمرار الهجمات وخرق اتفاق إطلاق النار، وعدم وجود التزام حقيقي من الأطراف بوقف تصدير الأسلحة إلى الأطراف المتحاربة، فحفتر المنتشي بتحولات القوة لصالحه، وفي ظل استمرار الهجمات الإماراتية بالطائرات الصينية المسيّرة، والتواجد الروسي في الأرض والسماء والعزلة الدولية للحليف التركي الوحيد الذي يدعم السراج عسكريًا، بعد تردد إيطاليا في تقديم أي دعم قوي لحكومة الوفاق، بعد الخلاف بين عملاق الطاقة الإيطالي شركة إيني وتركيا (حليف حكومة الوفاق) حول التنقيب قبالة السواحل القبرصية وحقول الغاز في البحر المتوسط، الأمر الذي أدى لزيادة حدة الخلاف بين الاتحاد الأوروبي من جهة وتركيا من جهة أخرى.
أصبحت حكومة طرابلس تواجه عزلة ربما لا تجعلها تستمر طويلًا، الأمر الذي ينذر بشتاء روسي طويل يخيم على المنطقة العربية بشكل يمثل خطرًا على أي تطور ديمقراطي مستقبلي بعد ربيع متردد وقصير.
لا مخرج من ذلك السيناريو إلا بالدفع باتجاه موازنة القوة الروسية والتركية على الأرض، وتسوية شاملة على أسسس وطنية غير جِهوية تجمع الفرقاء الليبين على مشروع لإدارة الخلاف السياسي سلميًا، وتبْني مؤسسات وطنية جامعة وتتخلص من المتطرفين على الجانبين، إذا كان هناك رغبة في استقرار دائم غير قائم على قمع طرف لصالح طرف في منطقة تكمن أزمتها الأساسية في أن التسويات القائمة على سحق إرادة الأطراف، تولّد بذور عنف كامن قابل للاشتعال في المستقبل.