"إن أي تدخل مباشر من الدولة المصرية باتت تتوفر له الشرعية الدولية، سواء في إطار ميثاق الأمم المتحدة حق الدفاع عن النفس، أو بناءً على السلطة الشرعية الوحيدة المنتخبة من الشعب الليبي، مجلس النواب".
الرئيس عبد الفتاح السيسي، السبت 20 يونيو/ حزيران 2020.
في ذلك اليوم الذي تفقد فيه وحدات المنطقة الغربية العسكرية، أعلن الرئيس صراحة أن التدخل العسكري في ليبيا بات "شرعيًا"، بعد أن لجأت مصر للمسارات الدبلوماسية لحل اﻷزمة الليبية، ومنها مشاركتها في مؤتمر برلين الذي انعقد أوائل العام الجاري، أو مؤخرًا بإطلاقها إعلان القاهرة الليبية- الليبية.
يتحدث الرئيس عن ليبيا بلهجة تميل إلى تغليب الخيار العسكري، لكن لهجته فيما يتعلق بأزمة أخرى هي المتعلقة بسد النهضة الإثيوبي كانت أقل حدّة، موضحًا أن مصر حين قررت الاتجاه إلى مجلس الأمن الدولي للبت في هذا الملّف، كان "للحفاظ على التفاوض وفق المسار الدولي والدبلوماسي والسياسي حتى النهاية".
بين معطيات تشير إلى التدخل العسكري في الغرب وتميل إلى استمرار اتباع النمط السياسي والدبلوماسي مع الجنوب، رسم خبراء مسارات وسيناريوهات لمصر التي تقف الآن بين أزمتين، اﻷولى تتعلق بحماية الحدود، والثانية تتعلق بالحفاظ على حصتها من نهر النيل الذي يمثل 90% من مواردها المائية.
خيار عسكري
ترى عضوة الهيئة الاستشارية للمجلس المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، الدكتورة نهى أبو بكر، أن الوضع الحالي بالنسبة للأزمة الليبية "سيئ، ولا يوجد كتالوج محدد للتعامل معه، حتى وإن وصل الأمر لنزاع مسلّح، لاسيما وأن الطرف الآخر يفتقد لقيادة رشيدة تنظر لمصالحها دون الإضرار بجيرانها وتراعي السلام في المنطقة".
يتفق مع رؤيتها أستاذ العلوم السياسية في جامعتي القاهرة واﻷمريكية، الدكتور طارق فهمي، الذي يرى أنه "في ظل الوضع الحالي لا يوجد ما يُمكن تسميته بسيناريوهات واضحة كاملة أو قابلة للتحقق في ظل الظروف الحالية، وما يمكن التعامل معه الآن هو احتمالات".
عن ليبيا يقول فهمي للمنصّة "احتمال اللجوء للخيار العسكري هو الأقرب عن السياسي، كما بدا من خطاب الرئيس، خاصة لو تمادى الجانب التركي في خطواته التي تسعى إلى تغيير قواعد اللعبة في المنطقة، وقرر مواصلة العمل على بناء قاعدتيه العسكريتين في ليبيا".
وتخطط أنقرة لإقامة قاعدتين عسكريتين في ليبيا، الأولى جويّة في قاعدة الوطية جنوب غربي العاصِمة طرابلس، والثّانية بحَريّة في مدينة مصراتة، وفقًا لما كشفته مؤخرًا صحيفة "يني شفق" المقربة من حزب العدالة والتنمية الحاكم.
وعلى الرغم من ترجيحه لاحتمال التدخل العسكري المصري، إلاّ أن أستاذ العلوم السياسية يرفض رسم سيناريوهات سواء للضربة العسكرية أو ما بعدها، قائلًا "من المبكر الحديث عنها، وإن كان من الواضح أن القبائل المصرية سيكون لها دور مهم على خط المواجهة".
الباحث السياسي في مركز كارنيجي بالشرق الأوسط يزيد صايغ، رسم سيناريو للحرب، إذ ذكر أن "احتمال تدخل مصر بشكل مباشر يزداد، على الرغم من عدم تفضيل الرئاسة المصرية لهذا الأمر إلاّ كملاذ أخير. وفي هذه الحالة ستكون أول الخطوات هي عبور الحدود بقوة والانتشار ثم التوقف، وذلك للإشارة إلى جدية مصر في التعامل ولإثناء القوات الموالية لحكومة الوفاق الوطني عن التقدم إلى خط سرت- الجفرة، دون أي اضطرار لتقدم الجيش المصري إليه أو تجاوزه ومواجهة قوات الوفاق".
ووفقًا لتصور صايغ حول الوضع الحالي، فإن موقف الجيش المصري أقوى، إذ يرى الباحث أن "القوات المصرية ستبقى في المنطقة الحدودية الشرقية لليبيا"، وأنه في حال ساءت الأمور "فإن مصر لديها القدرة على نقل عدد كبير من القوات إلى ليبيا، ما يعني أن قدراتها أكبر من قدرات تركيا".
لا إدانات
في خطابه حول ليبيا والذي حظي بتأييد أمريكي ومن بعض الدول العربية، حذّر السيسي القوات الموالية لحكومة الوفاق الوطني في طرابلس من عبور خط الجبهة الحالي مع قوات شرق ليبيا (الجيش الوطني الليبي) بقيادة خليفة حفتر"، فيما وصفت "الوفاق" تصريحاته بأنها "انتهاك للمواثيق الدولية".
لكن "الانتهاك" تهمة ينفيها متابعو الموقف ممن تحدثوا للمنصّة، إذ قال أستاذ القانون الدولي، الدكتور محمد عطالله، إن "تدخل مصر ليس للاحتلال أو لتحقيق مكاسب، بل لدواعي حماية أمنها القومي الذي ربطته بمنطقتي الجفرة وسرت، في ظل محاولات تركيا التدخل في شؤون ليبيا بدعم مليشيات مسلحة ومرتزقة. كما أن الرئيس أكد في حديثه أن الجيش الوطني الليبي سيكون في المقدمة، في حال حدوث تحرك عسكري".
يقود الجيش الليبي المشير خليفة حفتر، والذي يحظى بدعم كل من روسيا ومصر والسعودية والإمارات، وقد خسر على مدار الفترة اﻷخيرة في المواجهات الدائرة بينه وبين حكومة الوفاق- المعترف بها أمميًا- إذ سيطرت القوات المسلحة الموالية لهذه الأخيرة، مطلع يونيو/ حزيران الجاري، على غرب ليبيا، لتنسحب قوات حفتر من مشارف طرابلس.
وبدعم تركي، تمكنت الجماعات المسلحة الموالية للوفاق على مدينة ترهونة- آخر معاقل حفتر في غربي البلاد- وعلى كل من طرابلس، ومطار العاصمة.
وفي 6 يونيو وبعد اجتماع بين السيسي وحفتر، خرج للنور "إعلان القاهرة" مستندًا على نتائج قمة برلين، ويتضمن "مقترحا بوقف لإطلاق النار اعتبارًا من يوم 8 يونيو، واستكمال مسار أعمال اللجنة العسكرية (5+5) التي ترعاها الأمم المتحدة وتضم خمسة مسؤولين عسكريين من كل طرف من طرفي النزاع"، وهو ما حظي بتأييد روسي.
وسبق إعلان القاهرة، تحديدًا في يناير/ كانون الثاني الماضي، قمة برلين التي انتهت إلى دعوة أطراف الصراع بالالتزام بحظر تصدير السلاح إلى ليبيا، والعمل على الوصول لتسوية سياسية.
تستند الدكتورة نهى أبو بكر في التدليل على مشروعية التدخل العسكري المصري، حال حدوثه، في ليبيا إلى قواعد سياسية دولية، ذكرتها للمنصّة "حق الدولة في استخدام القوة وفقًا للقانون الدولي يكون في حالتين، اﻷولى هي وجود خطر وشيك ضدها، أو في حالة صدور قرار من مجلس الأمن ضد خصمها. ومصر ينطبق عليها الحالة الأولى، فهي هنا تحمي أمنها القومي وحدودها الداخلية".
بالمثل، يقول الدكتور طارق فهمي إنه "لا يمكن إدانة مصر على تدخلها عسكريًا، خاصة وأن الطرف الآخر (الوفاق) ليس لديه آليات لحماية الحدود وضمان أمن الجيران من المليشيات وخطره".
تشكلت حكومة الوفاق الوطني التي يرأسها فايز السراج، في فبراير/ شباط 2016، بموجب اتفاق الصخيرات للسلام، والموقع من جانب برلمانيين ليبيين في 17 ديسمبر/ كانون الأول 2015 برعاية الأمم المتحدة بمدينة الصخيرات المغربية، ونص على أن"تكون هناك مرحلة انتقال جديدة تستمر 18 شهرا، وفي حال عدم انتهاء الحكومة من مهامها (إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية وقبل ذلك وضع مشروع دستور وطرحه في استفتاء شعبي)، قد يتم تمديد المدة 6 أشهر إضافية".
تحظى "الوفاق" باعتراف دولي ودعم أممي، لكنه أمر ليس ذي تأثير في شرعية الموقف المصري، وفقًا لما يذكره فهمي "القواعد الدولية تقف في صف مصر لو قررت التحرك عسكريًا، بالإضافة إلى أن هذه الحكومة تشكلت من أجل أهداف معينة، لكن أمرها انتهى، والتحركات الحالية تأتي وفقًا لمسار برلين".
في أواخر أبريل/ نيسان 2020، أعلن حفتر "إسقاط اتفاق الصخيرات وتولي قيادة البلاد بتفويض من الشعب"، وسبق هذه الخطوة تصويت برلمان شرق ليبيا ضدها في أغسطس/ آب 2016.
يقول الدكتور عطالله للمنصّة عن سيناريو التدخل العسكري إن موقف مصر يدعمه بموجب القانون الدولي أمرين "اﻷول هو ميثاق الأمم المتحدة الذي يعطي للدولة الحق في الدفاع الشرعي عن أمنها وحدودها، والثاني هو أن مجلس النواب الليبي، الذي مثّله كأي برلمان في العالم يعد الممثل الشرعي للشعب، طالب مصر بالتدخل".
ويتابع أستاذ القانون الدولي "إذًا، التدخل المصري له سند شرعي، بينما الوجود التركي يعدّ بمثابة وجود محتل وفقًا لما أقرّه البرلمان الليبي واتحاد القبائل الليبية، بينما اتفاق حكومة الوفاق، مع تركيا هو والعدم سواء ﻷنه لم يحظى بموافقة البرلمان الليبي".
سيناريو دبلوماسي
وعلى النقيض من أزمة ليبيا، يبدو الخيار المصري الأول في التعامل مع قضية سد النهضة هو اللجوء للدبلوماسية والهيئات الدولية، ويوضح ذلك الدكتور طارق فهمي قائلًا "هنا الخيار السياسي ما زال مقدَّمًا على العسكري، خاصة وأن ما ستُقدم عليه أديس أبابا في يوليو/ تموز المقبل هو ملء أولّي وتشغيل تجريبي، والحديث عن إجراء بعيدًا عن المسار السياسي سابق ﻷوانه، وما زال هناك مسارات للتحرك وأوراق ضغط في يد مصر، من بينها ما يتعلّق بالتعامل مع الشركات المساهمة في مشروع السد".
بموجب اتفاقية مياه النيل لعام 1959، تحصل مصر على 55.5 مليار متر مكعب من مياه النيل سنويًّا، فيما تحصل السودان على 18.5 مليار متر مكعب.
وأعلنت مصر مطلع الأسبوع الجاري إحالة ملف سد النهضة إلى مجلس الأمن الدولي، وذلك بعد إعلان توقف المفاوضات مع أديس أبابا دون التوصل إلى اتفاق حول قواعد الملء والتشغيل.
يثني فهمي على هذه الخطوة من جانب مصر، باعتبارها "تعني إصرارًا على مواصلة انتهاج السبل الشرعية للحصول على الحقوق المشروعة"، إلّا أنه توقّع فيما يخص بسيناريو مباحثات مجلس الأمن أنه "من المبكر صدور قرار عن المجلس بخصوص هذه القضية، وحين صدوره لن يكون تنفيذه باﻷمر السهل. أما القرار نفسه فلن يكون بعقوبات، بل بتفاصيل عن تقنيات الملء والتشغيل. ومن المبكّر الحديث عن الالتزام بالقرار أو ما بعده من تحركات".
أما الدكتورة نهى أبو بكر، فكان لديها سيناريو مختلف قالت عنه "لو أن هناك عدل ومراعاة من المجتمع الدولي لأمن وسلامة المنطقة؛ فالقرار المتوقع من المجلس سيكون ملزمًا لإثيوبيا بملء السد على فترات، مع وضع آلية لتشغيله بالاتفاق مع دولتي المصب، وإلّا سينقلب السيناريو إلى الضد، وتفعل أديس أبابا ما يحلو لها".
واستبعدت أبو بكر السيناريو العسكري في حالة قضية السد باعتباره "ليس المفضّل لدى صُناع القرار، ﻷنه يعني نزيف دم ومزيد من الإنهاك لاقتصاد منهك بالفعل بسبب كورونا".
لجأت مصر إلى مجلس الأمن، بموجب ما تمنحه لها المادة 35 من ميثاق الأمم المتحدة، والذي يتيج لأعضائها "تنبيه مجلس الأمن أو الجمعية العامة لفحص أي نزاع أو موقف قد يؤدي إلى احتكاك دولي أو يُثير نزاعًا، لكي يقرر ما إذا كان استمرار هذا النزاع أو الموقف من شأنه أن يعرض للخطر حفظ السلم والأمن الدولي".
بحسب الدكتور عطالله، فإن دور مجلس الأمن في هذه المرحلة يتمثّل في "تشكيل لجنة مختصة لدراسة الملف وإبلاغ إثيوبيا بضرورة التفاوض بمتابعة من الأمم المتحدة، وفي حال فشل هذه المفاوضات سيحق لمصر الدفاع عن أمنها وسلامتها".
والسيناريو الذي يرسمه أستاذ القانون الدولي بعد هذه الخطوة يشمل أكثر من مرحلة "في البداية يتعامل مجلس الأمن بموجب الفصل السادس، المعنّي بإصدار توصيات لكنها غير ملزمة. لكن إذا تمادت إثيوبيا؛ فيحق لمجلس الأمن في هذه الحالة اﻷمر سيحال إلى الفصل السابع والخاص بإصدار قرارات تتبعها عقوبات ضد من يحاول تهديد الأمن والسلم الدوليين، وهنا سيتحول الأمر من التوصية إلى الإلزام".
في حوار أجرته معه أمس الاثنين وكالة أسوشيتد برس اﻷمريكية، قال وزير الخارجية سامح شكري إن مصر "ستتعامل"، في حال عجز مجلس الأمن عن حل أزمة سد النهضة، دون أن يوضح ماهية هذا التعامل.
وكما استبعد عطالله سيناريو الحرب "لما لها من حسابات وكلفة باهظة"، واختتم كذلك باستبعاد سيناريو التحكيم الدولي الذي تحدَّث البعض عن إمكانية لجوء مصر إليه كما كان في قضية استرداد طابا، بقوله "هذا يتطلب مشاركة الدول الثلاث بإشراف أممي، لكن إثيوبيا وبعدما تبيّن من مواقفها السابقة، من المؤكد سترفض المثول لهذا اﻷمر".