أضفت نادين صليب حالة من التجريد علي حكاية "أم غايب" عن طريق إخفاء اسم وجغرافيا القرية التي دارت بها الأحداث، فجعلت بذلك فيلمها تحفة سينمائية يستمتع بها المشاهد مهما اختلفت ثقافته.
أكثر من ثلاثمائة ساعة سجلتها المخرجة نادين صليب وهي تتردد على إحدى القرى المصرية خلال ثلاث سنوات، لتقدم لنا في النهاية تجربة سينمائية مليئة بالمشاعر الإنسانية، في أولى تجاربها الإخراجية عام 2014.
"أم غايب" فيلم مصري ينتمي إلى نوعية السينما التسجيلية، وهو واحد من الأفلام المصرية التي حققت نجاحًا في الأوساط السينمائية المحلية والعالمية في السنوات الأخيرة. فقد نال الفيلم إعجاب الجمهور والنقاد في عرضه الأول بمهرجان أبوظبي السينمائي. كما حاز على جائزة الاتحاد الدولي للنقاد (الفيبريسي) كأفضل فيلم تسجيلي، ورشح أيضًا لجائزة "اللؤلؤة السوداء" من المهرجان نفسه.
يروي الفيلم حكاية "حنان"، وحلمها بالأمومة والإنجاب الذي تأخر 12 عامًا، قضتها هي بين عيادة الطبيب في (أسيوط) و"الداية" في قريتها، والكثير من الأدوية والعمليات الجراحية والوصفات الشعبية، تلك التي حملت جميعًا طابع الخرافة المتوارثة منذ نشأة القرية المصرية، وخَبِرتها من قبلها نساءً أُخريات حلمن جميعًا بالأمومة.
ولكن إذا زهد الزوج في الأطفال ولم يرض الزواج من أخرى واكتفى بالحب والرضا بقضاء الله، فلِم كل هذا السعي الذي بذلته حنان طوال تلك الفترة؟ ولِم كل هذا الإيذاء النفسي والبدني الذي تعرضت له مع كل محاولة؟ حتى عندما كادت تفقد حياتها في إحدى المرات، لم يُثنها ذلك عن الاستمرار في المحاولة أو أضعف عزيمتها.
"أم غايب"، ذلك الطفل الموجود في علم الغيب، والذي طال انتظاره ولم يأت بعد، هكذا أطلقوا عليها أو هكذا ارتبط اسم حنان بحلمها. ففي أحد مشاهد الفيلم، تجلس أمام الكاميرا معلنة عن رغبتها في أن تصبح أمًا كي يكون لها كيان، فمَن هي إذا لم تصبح أمًا، أليس هذا هو حلم كل امرأة؟ وتداعب المخرجة نادين صليب قائلة: "ما نفسكيش انتي؟"، وفي مشهد آخر تستكمل الحديث عن حلمها قائلة إنها تريد أن تصبح أمًا حتى لا يجرحها أحدًا بكلمة أو نظرة.
يقودك الفيلم بهذين المشهدين إلى ما وراء الحكاية التي يقدمها، فهي لم تكن عن امرأة أرادت طفلًا، بل إن أزمة بطلة الحكاية هي أزمة "وجودية"، فذلك الطفل هو الذي سيحقق لها كيانها وسط مجتمعها الصغير الذي يُعتبر امرأة بلا طفل هي امرأة في ورطة.
التجربةالتسجيلية
لم تكن تجربة الحكي في فيلم "أم غايب" تجربة تقليدية كما هو متعارف عليه في الأفلام التسجيلية الأخري. فقد تركت المخرجة نادين صليب الكاميرا لشخصيات الحكاية يروونها كيفما شاءوا، فكانت حكاياتهم أشبه بالدردشة التي يفصح كل منهم من خلالها عن مشاعره وأحلامه الخاصة، والتي تدور جميعها حول مفهوم الحب والسعادة في حياة كل منهم. حتي لتندهش كيف عبر هؤلاء، وخاصة "حنان"، عن أنفسهم بهذا الوعي وتلك البلاغة الشديدة، رغم بساطة البيئة التي نشأوا فيها.
قدمت المخرجة لقطة سينمائية لخصت بها مفهوم السعادة من وجهة نظر شخصيات فيلمها، والتي دائمًا ما كان الإنجاب هو أهم مسبباتها، فكانت اللقطة عبارة عن أريكة خشب مفروش عليها بطانية، كُتِب عليها "بطانية السعادة"، وفوقها حقائب مدرسية للأطفال.
وتخلل تلك الأحاديث داخل الفيلم الكثير من المشاهد التي رصدت الحياة اليومية لهؤلاء. كمشاهد إعداد الطعام، أو لهو الأطفال داخل المنزل وخارجه، أو مشاهد الجد والجدة وكيف أظهر كلا منهما حبًا وتعلقًا بالآخر. وربما تتساءل كيف استطاعت نادين صليب أن تجعل أشخاصًا ليس لهم علاقة من قريب أو بعيد بمجال السينما، أن يتعاملوا مع الكاميرا بتلك البساطة والتلقائية. وقد يرجع ذلك إلى طبيعة الفيلم التسجيلية التي كان لها أثرها في إضفاء جانب كبير من الحرية في تعامل الشخصيات مع الكاميرا. فنجد ذلك مثلًا في مشهد حنان والداية في بداية الأحداث، كيف لم تستطع أي منهما أن تمنع نفسها من اختلاس النظر إلى الكاميرا.
فصول الحكاية
استعانت نادين ببعض المشاهد من واقع البيئة لتصنع منها فصول حكايتها علي شاشة السينما، كمشهد القارب في بداية الفيلم، وهو يشق مياه النيل بقوة مبحرًا فيه، وقد ركزت الكاميرا علي مياه النيل في جريانها، وكأن هذا المشهد هو المدخل الذي سنعبر منه إلى العالم الذي ستدور فيه الحكاية.
وبعد أن تعرفنا علي حكاية "أم غايب"، يأتي مشهد القرية في الليل وقد خَلَت شوارعها من المارة، إلا من ذلك الصبي الذي امتطى فرسه ورحل ليترك خلفه الكادر هادئًا كما كان. وكأنه ذلك الصبي الذي تتمناه "حنان" ولكنه رحل إلى علم الغيب، وظلت هي في انتظاره. ليأتي بعده مشهد للجد يتحدث عن حكمة الله في تأخر إنجابها، يعقبه مشهد "الداية" تروي حكاية عن المرأة التي دفنت "خلاصها" وهي أشبه بحكايات "الخضر" ونبي الله "موسي".
هناك أيضًا مشهد "المقام" الذي ذهبت حنان لزيارته في أسيوط، لتستنجد به وكأنه آخر أمل لها، وهو المشهد الوحيد الذي دارت أحداثه خارج القرية، ليكون هو الـClimax أو لحظة الذروة التي أتى بعدها "الفَرَج" لبطلة الحكاية. وقد عَبَّرَت نادين عن ذلك من خلال مشهد عباد الشمس والنحلة وهي تمتص العسل من إحدى أزهاره، في إشارة إلي الحياة السعيدة التي ستنعم بها حنان.
واختتمت "نادين" فيلمها كما بدأته بلقطة بالحجم الكبير للنيل، ولكن هذه المرة وقد خَلَت صفحته من الحياة، ليتناسب المشهد مع النهاية الصادمة للأحداث.
أسطورة "عربي"
قدمت المخرجة نادين صليب مشهد ذلك الصبي الصغير الذي يصارع مياه النهر محاولًا الخروج ، وكأنه ذلك الطفل الذي تمنته حنان وهو يحاول الخروج من ماء الرحم إلي الدنيا، ليكون ذلك المشهد ملازمًا لسرد حنان عن نفسها ومشاعرها الخاصة، أو ما يعبر عن اللا وعي الخاص بها. وقد قامت المخرجة بمونتاج ذلك المشهد ليظهر في كل مرة بطريقة مختلفة تتناسب مع ما تسرده حنان عن نفسها.
وقد ساهم عرض المخرجة لتباين الحالة النفسية لبطلتها في التعبير عن أزمتها الوجودية. فتتحدث حنان كيف وقعت في حب زوجها "عربي" وكيف كافحت القدر لتتزوجه، وكيف تمكن منها اليأس حتي أنها فقدت الإيمان بالحب وسلمت للقدر بعد كل تلك السنوات. ثم تناقض نفسها مرة أخرى لتحكي وقد علا وجهها شبح ابتسامة، كيف رفض هو الزواج من أخرى حين عرضت عليه ذلك، أو كيف حَمَلَها وظل يجري بها لكي ينقذها حين كادت تفقد حياتها أثناء إحدى محاولاتها للإنجاب.
وكان لاختفاء زوج حنان من على الشاشة قرابة النصف الأول من الفيلم أثره في إضفاء جانب من الأسطورة على شخصية هذا الرجل وعلي قصة الحب التي جمعت بينهما. فلم يظهر سوى في بعض الصور الموضوعة في المنزل والتي جمعت بينه وبين زوجته، ولم نتعرف عليه سوى من خلال تلك الحكايات التي كانت ترويها حنان عنهما.
واستمرارًا لطابع الأسطورة التي أرادت المخرجة فرضها علي الفيلم، أضفت نادين حالة من التجريد علي حكاية "أم غايب" عن طريق إخفاء اسم وجغرافيا القرية التي دارت بها الأحداث، فجعلت بذلك فيلمها تحفة سينمائية يستمتع بها المشاهد مهما اختلفت ثقافته، ليجد نفسه أمام تجربة فيلمية يرى فيها انعكاسًا لروحه.