كانت قصة تعذيب ربيع سليمان، التي وقعت في النصف الثاني من التسعينيات، البوابة الأهم التي أتاحت لي فهمًا عميقًا لمعنى التعذيب.
يطاردني شبح سليمان، الذي مات في مستشفى الدمرداش متأثرًا بالحروق التي تعرض لها بسبب التعذيب في قسم شرطة، مع كل مرة أستمع أو أقرأ فيها عن واقعة تعذيب جديدة. وأستعيد قصته المحفورة في ذاكرتي ووجداني، وأعيش تفاصيلها كلما شاركت في نقاشات عن آليات مناهضة التعذيب.
على صعوبة القصة ووحشيتها، ومشاعر الخوف والقلق والذعر من الصور التي وثقت قصة سليمان في الكتيب الصادر عن مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف، ومركز المساعدة القانونية، ورغم إبعاد الكتيب، الذي كان ضمن مكتبة والدي، عن عيوني؛ لم أنس يومًا الصور وشكل الكتاب الرمادي، وقصة ربيع التي انتهت بموته دون عقاب المسؤول عن تعذيبه.
مع اجتماع لجنة حقوق الإنسان في مجلس النواب، في 2 يناير/كانون الثاني الجاري، لمناقشة تقرير المجلس القومي لحقوق الإنسان في مصر، استرجعت صور ربيع وقصته مرة أخرى، ومعه مطالب المنظمات الحقوقية عبر سنوات وتاريخ طويل من العمل دعت خلاله لتعديلات تشريعية تساهم في الحد من جرائم التعذيب وتتفق مع المعايير الدولية الملزمة لمصر.
آلية وطنية لمناهضة التعذيب
خلال الاجتماع، توقف محمد عبد العزيز وكيل لجنة حقوق الإنسان أمام عدد من الملاحظات، كان أبرزها عدم وجود توصية في التقرير تشير إلى ضرورة وجود آلية وطنية لمناهضة التعذيب، فقاطعته رئيسة المجلس القومي لحقوق الإنسان مشيرة خطاب بنبرة إعجاب "يا سلاااام" واستطردت "أنا بساندك في الرأي"، بينما لم توضح أسباب خلو التقرير من هذه التوصية.
ويأتي التقرير الأخير للمجلس خاليًا من هذه التوصية، رغم أن تقرير المجلس 2019/2020 تضمن إعادة طرح تأسيس آلية وطنية مستقلة.
وأشار التقرير إلى أن مناقشات جرت بين المجلس القومي لحقوق الإنسان ومنظمات غير حكومية ومؤسسات رسمية، بشأن تشكيل الآلية وإتاحة تلقيها البلاغات بشأن ادعاءات التعذيب، وأوصى بإصدار قانون يمنح المجلس ولاية آلية قانونية للوقاية من التعذيب.
لا تزال مصر ترفض التصديق على البروتوكول الاختياري الملحق بالاتفاقية الدولية بذريعة عدم السماح بالتدخل في شؤون مصر
تنص المادة 17 من البروتوكول الاختياري لاتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللا إنسانية أو المهينة على أن "تستبقـي كل دولة طرف أو تعيّن أو تنشئ، في غضون فترة أقصاها سنة واحدة بعد بدء نفاذ هذا البروتوكول أو التصديق عليه أو الانضمام إليه، آلية وقائية وطنية مستقلة واحدة أو أكثر، لمنع التعذيب على المستوى المحلي. والآليات المنشأة بواسطة وحدات لا مركزية يمكن تعيينها آليات وقائية وطنية لأغراض هذا البروتوكول إذا كان نشاطها متفقًا مع ما ينص عليه من أحكام".
يتحدث وكيل لجنة حقوق الإنسان في مجلس النواب عن إنشاء آلية وطنية، بينما لا تزال مصر ترفض التصديق على البروتوكول الاختياري الملحق بالاتفاقية الدولية، وتتبنى الدولة وجهة نظر خلال رفضها توصيات الانضمام للبروتوكول وغيره من الاتفاقيات الدولية الأخرى تتعلق بالسيادة الوطنية، وعدم السماح بالتدخل في شؤون مصر.
ورغم رفض مصر التوقيع على البروتوكول إلا أن حديث وكيل اللجنة، واستحسان رئيسة المجلس القومي لحقوق الإنسان للتوصية، فتحا بابًا مغلقًا لمناقشة استحداث آلية وطنية تساهم في مناهضة التعذيب.
قالت خطاب خلال الاجتماع "دول عربية كثيرة اتخذت القرار وأنشأت الآلية"، مستنكرة تأخر مصر "دول عربية كثيرة سبقتنا".
تأتي لبنان وتونس والمغرب وفلسطين في قائمة الدول التي أنشأت هيئات وطنية لمناهضة التعذيب، بينما خطوات مصر بطيئة في ملف مناهضة التعذيب بشكل عام.
التقرير الذي ناقشه مجلس النواب يرصد وضع حقوق الإنسان من خلال رؤية المجلس وأنشطته منذ ديسمبر/كانون الأول 2020 حتى يونيو/حزيران 2032، ويتحدث عن رؤيته فيما يتعلق بالتعذيب في القسم الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، ويشير إلى "الحاجة لمعالجة تشريعية ومؤسسية شاملة للتعامل مع الممارسات التي تعد من قبيل التعذيب وتمثل انتهاكات لحرمة الجسد، سواء كان ذلك في مراكز الاحتجاز أو الأماكن العامة أو الخاصة الأخرى".
وفي الفصل المتعلق بالتشاور مع الجهات الأممية والأطراف الدولية، لفت التقرير إلى "جهود المجلس القومي لحقوق الإنسان في تنفيذ برامج تهدف إلى تدريب جهات إنفاذ القانون وجهات التحقيق على مناهضة ممارسات التعذيب، بالإضافة إلى الدعوة إلى التصديق على البروتوكول الإضافي لاتفاقية مناهضة التعذيب".
وطالبت توصيات التقرير بـ"التدريب المستمر لضباط وأفراد الجهاز المسؤولين لرفع مستوى الالتزام بالممارسات المستجيبة لحقوق الإنسان"، وهي التوصية التي تتعامل باستحياء وبمفردات ناعمة مع انتهاكات التعذيب، بينما لم يضع التقرير توصيات واضحة، سواء بإنشاء الآلية الوطنية أو تعديل القوانين لتتسق مع الاتفاقيات الدولية الملزمة لمصر.
اقتناص الفرص
ورغم عدم توقيع مصر على البروتوكول الاختياري الذي يُلزم الدول باستحداث هذه الآلية، أشارت رئيسة المجلس القومي لحقوق الإنسان في الاجتماع إلى مناقشات مختلفة مع أطراف ومؤسسات دولية بشأن الآلية.
تبنت خطّاب وجهة نظر تدعم إنشاء الآلية، لكنها تتخوف من أن هذه الخطوة تتطلب مقرات وتجهيزات مكلفة، بالتالي تقترح انطلاق الآلية من وحدة مكافحة التعذيب التي تكونت بالمجلس القومي لحقوق الإنسان، مع معالجة تشريعية ونص قانوني ينشئ الآلية الوطنية ويمكنها من ممارسة مهامها حتى لا تكون "خيال مآتة".
قد يكون الظرف السياسي غير مواتٍ للانضمام للبروتوكول الاختياري المنظم لإنشاء الآليات الوطنية، الذي يمكِّن هيئات دولية من زيارة أماكن الاحتجاز. وربما يكون الوضع في مصر غير مؤهل للوصول لآلية وطنية قادرة على تفعيل كافة أدوات منع التعذيب وملاحقة مرتكبيه.
لكن مبدأ ما لا يدرك كله لا يترك جله، يجعلنا ننتبه لوجود أصوات في البرلمان والمجلس القومي لحقوق الإنسان تتبنى تأسيس هذه الآلية. علينا دعم هذه الأصوات، والدفع في تأسيس الآلية، لتأتي لاحقًا محاولات جديدة لتعديلها وتحسينها أو تغييرها.
ولندفع معها بتوصيات سابقة للمجلس القومي لحقوق الإنسان، الذي طالب على مدار السنوات الماضية بتعديل المادتين 126 و129 من قانون العقوبات، ليكون تعريف جريمة التعذيب مطابقًا لما ورد في اتفاقية مناهضة التعذيب، التي أصبحت لها قوة القانون بمقتضى الدستور بعدما أصبحت مصر طرفًا فيها عام 1986.
تربط المادة 126 التعذيب بغرض الحصول على اعتراف، وما لم يتوفر هذا الركن في الجريمة يتحول التعذيب إلى سوء معاملة، على العكس من الاتفاقية الدولية التي تضع مفهومًا أوسع للتعذيب يتيح فرصًا أوسع لملاحقة ومعاقبة مرتكبي هذه الجرائم.
لم ينل عم ربيع حقه من جلاده حتى الآن، لكن ربما يحصل وغيره من مئات الضحايا على جزء من حقوقهم عبر تنفيذ توصيات تتجدد منذ الثمانينيات حتى الآن، بتعديلات تشريعية وآليات جادة تسعى للانتصار لحقوق الضحايا ووقف مزيد من الجرائم التي لا تسقط بالتقادم.