في القرن التاسع عشر، أبدع شخص ألماني لعبةً للأطفال، ستنتشر نهايات القرن العشرين في بيوت أوروبية كثيرة، وتتحول إلى تقليد جديد من ضمن طقوس الاحتفال بعيد الكريسماس.
لهذه اللعبة/التقليد اسم هو "تقويم القدوم" أو "تقويم المجيء"، وفكرتها الأساسية أن تكون عدًا تنازليًا بانتظار عيد الميلاد، يبدأ في أول ديسمبر/كانون الأول، وينتهي يوم 24 ديسمبر، ليلة العيد في التقويم الغربي.
في شكلها الحالي، تتخذ اللعبة هيئة لوحة متوسطة الحجم مقسمة لأربع وعشرين نافذة صغيرة ملونة، وتكون مُعلَّقة على الحائط. حين تُفتح كل نافذة في التاريخ المُدوَّن عليها، يكتشف أطفال البيت مفاجأة؛ قطعة حلوى أو لعبة شديدة الصغر، أو مجرد رسم جديد يحفزهم على انتظار عيد الهدايا والأطفال، فكلُّ طفل منهم هو يسوع صغير، سيتلقى هديته الأكبر يوم العيد، مثلما أحضر ملوك المجوس الهدايا ليسوع الطفل بعد أن شاهدوا نجم ميلاده في السماء.
وعادةً ما يكون خلف النافذة الأخيرة رسمٌ لمذود البقر، حيث وُلد يسوع في فلسطين محاطًا بعائلته المقدسة.
اليوم الأول
قطعة صغيرة من الشكولاتة، مغلفة في ورق ذهبي لامع.
اليوم الثاني
أبٌ يرتِّل ترنيمة من ترانيم الميلاد. ربما تكون "انظروا كيف تشرب الأسماك في النهر.. تشرب وتشرب ثم تشرب من جديد.. لترى يسوع الصغير المولود توًا".
اليوم الثالث
تسطع الأضواء لتُزيّن شوارع المدن الأوروبية بانتظار عيد الميلاد. طوابير لمشاهدة مجسمات مختلفة لمذود البقر. الأنوار من كل الألوان والأشكال، العالم كله فرح. لكن في ضواحي بعض هذه المدن هناك أحياء قطعت عنها الكهرباء بحجة أنها عشوائية، أغلب سكانها من الغجر والعرب وأفارقة جنوب الصحراء.
اليوم الرابع
رسم لبيتٍ ريفيٍّ دافئٍ، مُضاء من الداخل، وحوله غابة مكسوة بالثلوج، بها حيوانات مسالمة تنظر إلى المنزل.
اليوم الخامس
توقفت المنظمات الإنسانية الدولية عن المطالبة بوقف إطلاق النار في غزة. تحولت نداءاتها لما يشبه الصرخات، تُنبِّه للآلاف من أطفال ونساء غزة المقتولين، وتحذر العالم من مصير مئات الآلاف الآخرين. لم تعد هناك مستشفيات. وبعد قليل لن تكون هناك بيوت، لا دافئة ولا باردة. لا كهرباء، لا وقود، لا ماء، لا طعام. لا شيء سوى القنابل والصواريخ ورصاص القناصة.
اليوم السادس
طفلة بضفائر تستيقظ فرِحةً في فراش صغير. تلعق قطتها خدها، وكأنها تمنحها قبلةً صباحيةً.
اليوم السابع
شجرة كريسماس مُزيَّنة ومضيئة، مُعلقةٌ فوق أفرعها نجومٌ وكراتٌ ملونة.
اليوم الثامن
في نشرات الأخبار مشهد مُصوَّر لحُوْشِ مزارعين فلسطينيين قُتلت حيواناتهم خلال القصف. تقترب الكاميرا من حمارهم الأبيض، يبدو وكأنه نائم في سلام.
اليوم التاسع
يتساءل البعض من جديد عن أطفال الحضانات الذين أُخرِجوا من مستشفى الشفاء بعد مفاوضات دولية. لم نعرف تفسيرًا لتغيِّر الأرقام خلال الساعات والأيام الماضية، كانوا 38، ثم 32. كم بقي منهم الآن؟!
اليوم العاشر
جادلت كاتبًا/طبيبًا في مواقف الأنظمة العربية، أو للدقة غياب مواقفها، وورد اسم الحاكم الحالي لما كان يُعرف بأنه البلد العربي الأكبر. ورد على لساني تعبير "المصلحة"؛ مصلحة البلد، مصلحة النظام، مصلحة الحاكم. فقاطعني الكاتب/الطبيب بحسم وبجملة مختصرة عن الحاكم: إنه ضد نفسه.
اليوم الحادي عشر
فجوة هائلة الحجم، وكأنها نتيجة صاروخ إسرائيلي، تفصل بين ما نقوله في جلساتنا في بيوت الأصدقاء ودردشتنا مع سائقي التاكسي أو كباتن شركة أوبر الأمريكية التي لم يقاطعها الكثيرون، وما يُكتب في المقالات.
الخوف، الرقابة، المنع، المصلحة. (المصلحة مجددًا، لكن الشخصية هذه المرة).
اليوم الثاني عشر
يتلصص بابا نويل من النافذة على طفلة تأخذ بين يديها حذاء التزحلق على الجليد، وهي خارجة من غرفتها.
سيتمكن بعض الأطفال العرب، من أبناء الأغنياء، من التزحلق على الجليد مثلها ولكن في المول الشهير في دبي، حيث بنيت أكبر صالة للتزحلق في العالم، في وسط الصحراء.
اليوم الثالث عشر
عليَّ ألَّا أكتب كلَّ ما أودُّ قوله. على الرغم من أنه لا يزيد عما يقوله الكثيرون في الشوارع والبيوت عن الشراكة في المذبحة. أن تكون شريكًا للإسرائيلي والأمريكي في القتل، سواء بالصمت، أو بعدم إدخال المساعدات دون إذن الإسرائيلي، أو بالامتناع عن استخدام كلِّ عوامل قوتك الموضوعية لإنقاذ الفلسطينيين من الموت والجوع، أو بالمبادرات ذات الرائحة الكريهة. فلا أريد أن أتسبب في حجب المنصة مجددًا.
اليوم الرابع عشر
يستدعي الحمار المقتول في غزة رسمًا لأبٍ يعمل نجارًا في نافذة اليوم من التقويم، يصنع لطفله حصانًا خشبيًا.
اليوم الخامس عشر
يُوقف الشرطي العربي شابة غطت كتفيها بعلم فلسطين. يأمرها أن تخلعه، تجادله، فيهددها بأنه سيطلب عبر جهازه اللاسلكي حضور "الباشا".
اليوم السادس عشر
"عندما توفي الملك خالد، أعلنت الإذاعات العربية الحداد لثلاثة أيام على الأقل. ستين يومًا وفقراء بيروت يموتون، وما من إذاعة تجد فيما يجري مناسبة للحداد".
هذا ما كتبه في يومياته الكاتب والمؤرخ اللبناني فواز طرابلسي يوم السادس من أغسطس/آب من عام 1982، ونشره لاحقًا في كتاب عن أمل لا شفاء منه.. من دفاتر حصار بيروت. حزيران-تشرين 1982.
توفي اليوم أمير الكويت نواف الأحمد جابر الصباح عن 85 عامًا، بعد أن حكم بلده في الأعوام الثلاث الأخيرة، ولم يعرف أغلبنا اسمه حتى. واليوم، وبمناسبة وفاته، وليس بمناسبة مرور سبعين يومًا على مذبحة غزة، أعلنت بعض القنوات التليفزيونية المصرية، (أو كلها، لا أعلم، ولست مهتمًا بالبحث)، الحداد. ولمعت على شاشاتها الشارة السوداء لمدة ثلاثة أيام.
اليوم السابع عشر
لا أزال حريصًا على ألا أتسبب في "مضايقات" للموقع الذي سينشر هذا النص، أو في حجبه.
اليوم الثامن عشر
توفي ملك السعودية خالد بن عبد العزيز آل سعود بعد أيام من بداية الغزو الإسرائيلي للبنان وحصار بيروت صيف 1982، بعد أن حكم بلده لسبعة أعوام مضطربة عربيًا، شهدت المقاطعة العربية لمصر بعد زيارة السادات للكنيست الإسرائيلي وعقد اتفاقيات كامب ديفيد. لعبت السعودية دورًا في حملة المقاطعة، بالرغم من أنها لم تكن أبدًا ضمن ما عُرف بدول المواجهة.
كسر أيامها وفد من الفنانين المصريين ضمَّ نادية لطفي ويوسف شاهين وعلي بدرخان وغيرهم الحصار الإسرائيلي على بيروت. لم يعلنوا الحداد على الملك السعودي، بل ذهبوا إلى المدينة المحاصرة ليعلنوا تضامن الشعب المصري مع المقاومة الفلسطينية واللبنانية، وأنه لم يخرج بعد من ساحة الصراع العربي الإسرائيلي.
اليوم التاسع عشر
داخل نافذة "تقويم القدوم" التي يفتحها الأطفال اليوم وجه مهرج مبتسم.
لا تزال حملة المهرجين مستمرة ضد ممثل مصري تجرأ على الاعتذار عن عدم الذهاب لموسم الرياض الفني في وقت المذبحة.
على الأغلب لن يعمل مرة أخرى.
اليوم العشرون
كوب من الشكولاتة الساخنة، سيشربه هذا الطفل الأشقر قبل الذهاب للمدرسة بصحبة كلبه المرح، وأمه التي تمنحه الطمأنينة آخذةً كفه الصغير في يدها.
اليوم الحادي والعشرون
حسب ثقافتنا القانونية البدائية، إن ارتكب أحدهم جريمة، ووُجِد في مكانها شخص صاحب سلطة، وقادر على منعها، أو التقليل من ضررها، ولم يفعل، أصبح متورطًا فيها.
اليوم الثاني والعشرون
رسم لكلب يشبه كلبي نيلو يتطلع لقطعةٍ صغيرةٍ من الحلوى.
هل أذهب للعب مع نيلو؟!
اليوم الثالث والعشرون
عادة ما تتجه أنظار العالم مع اقتراب ليلة العيد إلى بيت لحم في الضفة الغربية المحتلة، حيث ولد الطفل يسوع. لكن هذه السنة، تتجنب الأنظار عمدًا هذه الجهة.
يُبنى في كل سنة بساحة كنيسة المهد ببيت لحم مجسمٌ احتفاليٌّ لمذود البقر، أو تُنصب شجرة كريسماس هائلة. لكنَّ إدارة الكنيسة استبدلت بهما هذه السنة مجسمًا حزينًا، رماديًا، لأكفان أطفال، وشخوصٍ دون ملامح، وأسمته "الميلاد تحت الأنقاض".
قرر العالم ألَّا يرى المجسم، لم يظهر كثيرًا في أغلب شبكات الأخبار مثلما يحدث دائمًا. ولا يزال البعض بانتظار أن تُعلن الكنيسة الأرثوذوكسية المصرية، أكبر كنائس شرقنا، إلغاء احتفالات الميلاد لهذا العام.
اليوم الرابع والعشرون
ليلة ميلاد يسوع.
قرر هيرودس الملك أن يقتل كلَّ الأطفال الذين ولدوا خلال السنتين الأخيرتين في منطقة بيت لحم ونواحيها، بعد أن علم بميلاد الطفل الذي أسماه ملوكُ المجوس "ملكَ اليهود". نفَّذ هيرودس مذبحة الأطفال الرضع ليقتل طفلًا واحدًا. ولم يحظَ به.
لا يزال العداد يتتابع، مثل هذه الجمل القصيرة التي نتابعها منذ السابع من أكتوبر كملخصات للأخبار عن غزة، عن فلسطين. جمل متشظية، مثل هذا النص، أحيانًا لا تكتمل، تمنحنا كلٌّ منها خبرًا واحدًا، أو نصف خبر. ننسى ما قرأناه توًا بسبب تتابعها السريع. لكننا لا ننسى عداد الأطفال الفلسطينيين المقتولين بالآلاف، بحجة مشابهة: أن يقضي الملك على منظمة واحدة.
مات أطفال بيت لحم ونواحيها. وهربت مريم العذراء ويوسف النجار بالطفل الذي لن يُصبح ملك اليهود، بل سيُصلب، ليغيَّر مستقبل العالم.
يوم 1 يناير 2024
يُدوِّن فواز طرابلسي في يومياته لحصار بيروت جملة كتبها بريخت عام 1938، خلال الأيام السوداء التي أعقبت انتصار النازية في ألمانيا "لن يقولوا كانت الأزمنة رديئة.. بل سيقولون لماذا صمت الشعراء؟".
يُدوِّن الكاتب هذه الكلمات ليحكي عن صديقه الشاعر خليل حاوي، الذي انتحر في بيته برصاصة في الرأس احتجاجًا على زمنه، وحصار عاصمة بلاده، وصمت العواصم العربية الأخرى.
لا يعرف خليل حاوي كيف تطورت المجازر بعد أربعين سنة من رحيله، وكيف تتشكل المجازر الحداثية الكبرى من مجازر كثيرة متنوعة الشكل والأسلوب، وجرائم حرب كل يوم جديد. ولن يعرف المدى الذي وصل إليه الصمت والتواطؤ والشراكة. لكنه ترك قصيدة يقولون إنها تحيته للمقاومين.
يعبرون الجسر في الصبح خفافًا
أضلعي امتدت لهم جسرًا وطيد
من كهوف الشرق
من مستنقع الشرق
إلى الشرق الجديد