"إلى أحمد إبراهيم القاطن بدير النحاس، لا تشرب الدواء الذي أرسلت ابنتك في طلبه. الدواء فيه سم قاتل" بهذه الجملة الشهيرة كان حكمدار العاصمة فى فيلم حياة أو موت يحذر شخصًا من تناول دواء تحوّل إلى سم قاتل بعد أن تغيرت جرعات مكوناته، وهذا شبيه بما نحن بصدد الحديث عنه إنه التفوق المسمم أيضا.
هذه طفلة متفوقة فى جميع مراحلها الدراسية. الأولى دائما على فصلها ومدرستها وربما على مستوى المحافظة أو حتى الجمهورية. يتم تكريمها كثيرًا وتحصل على شهادات تقدير وجوائز؛ وحينما تقترب منها تكتشف كوارثَ لا تعد ولا تحصي. فهى لا تعرف شيئًا في حياتها سوي المذاكرة والتفوق. لا تضيع درجة واحدة وإلا تصبح حياتها كلها فى خطر.
فحالة الهلع التي تحيط بالطفل ودراسته تجعله يشعر أنه بلا قيمة دون هذه الدرجات التي تضمن له التفوق المزعوم. وغالبا ما تكون هذه الحالة بسبب رغبة الأم أو الأب أو كليهما في رؤية أحلامه الشخصية التي فشل فيها تتحقق في أبنائه.
لذا، يستمر الضغط وتظل المعاناة قائمة حتى يصبح الطفل مدفونًا داخل نفسه. وهناك مشهد شهير يلخص هذه الحالة؛ حالة "دفن الذات" هو مشهد الطفل المثالي في كل شيء؛ الأول دراسيًا. الهادئ المؤدب. الذى إذا جلس على كرسي يظل ساكنًا بلا حركة إلى الأبد؛ كأنه "طفل خشب" لا حياة فيه، كيفما تُحرّكه يتحرك. ومع الاقتراب أكثر من هذا الطفل. تجده شديدَ الخجل والانطوائية. وربما إن تحدثت معه ستجده متلعثمًا، وإن نطق سيخبرك بما تريد أن تسمعه منه.
هكذا، نصنع شخصًا يظهر بصورة مثالية لكنّه سهل التوجيه والسيطرة عليه بعد أن فقد إنسانيته لحساب إرضاء الآخرين. هكذا نصنع، بجدارة، شخصًا يعاني من اضطراب نفسي!
وإذا وصل هذا الشخص، بأي وسيلةٍ، إلي طريق المخدرات فستكون هى سبيله الوحيد ليُسكّن بها ألم دفن ذاته التى لم ترَ النور. وقد يصبح مدمنا خفيًّا حتي يكشف عن نفسه بعد سنوات عندما تسوء حالته.
ويمكننا أن نرصد أيضًا ارتفاع معدلات الهروب من البيت أو الانتحار أو حتي نوبات الاضطراب النفسي المواكِبة لمواسم الامتحانات وظهور النتائج، والتي ما هي إلا محاولات غير ناضجة للتمرد على ما يحدث.
وعادة ما يصاحب تلك المسيرة المريضة المزيدُ من الإيذاء مثل مقارنة الطفل بأقرانه من أبناء الخالة أو أبناء العم أو حتى الجيران, وحرمانه من أن يحيا مراحل حياته (الطفولة. المراهقة. الشباب) بشكل طبيعيّ.
ويظل هناك احتمال أن يُكمل الطفل السير فى دوائر مغلقة من مرحلة تعليمية إلى أخرى حتى ينتهى من الدوامة بعد الجامعة ككائنٍ مُشوّه تائه؛ وبعدها غالبا ما يدخل فى علاقة غير سوية لتستمر المعاناة.
ومن قبل ذلك، ماذا نتوقع من شخص إنجازه الوحيد في الحياة التفوق فى نظامِ تعليمٍ فاقد الصلاحية بشهادة المسؤولين الحكوميين قبل الجهات الدولية؟ ولن نردد هنا المعلومات البائسة التي تتحدث عن ترتيب التعليم المصري عالميًا وخاصة عند مقارنته بدول مُجاورة لنا. ولن نُعرّج للحديث عن أنظمة التربية والتعليم في دول مثل فنلندا والنرويج إلى غير ذلك من المعلومات والحقائق المعروفة.
ليس هدفنا هنا أن يُهمل أطفالنا التعليم أو أن يتركوا مدارسهم أو أن نترك لهم الحبل على الغارب؛ ولكنّ الهدف أن نضبط الجرعة من التعليم والتفوق حتى لا يُصبح تفوقًا مسمومًا. بل تفوق يراعي الاحتياجات الحقيقة للطفل، تلك الاحتياجات التي كلما ساعدناه على إشباعها كلما تمتع بصحة نفسية أفضل.
فالتعامل بشكل صحيّ مع أطفالنا يبدأ من ضرورة أن نواجه أنفسنا بمدى الإيذاء الذي لحق بهم بسبب بعض أفكارنا التى تحتاج للمراجعة. يجب أن نتحاور معهم لتحديد أهداف مرحلية نرى فيها طفلنا "كله على بعضه" باحتياجاته الحقيقية دون أن نُثقل حياته بتوجيهاتنا الأنانية وأحلامنا الشخصية التي فشلنا نحن فى تحقيقها.
وأعتقد أن المناقشة الحرة المسؤولة ستغير نوعية العلاقة بينك وبين طفلك وستسمح للطفل "الخشب" أن يعود للحياة من جديد.
وفيما يخص الجانب التعليمي، فمن المهم الحصول على الشهادة التعليمية الحكومية كخطوة شكلية لا سبيل لتجاهلها. فكما يقولون "بلد بتاعت شهادات صحيح"وإلى جانب ذلك، هناك أيضًا مسارات مهمة يجب ألا يتم إغفالها مثل دراسة اللغات وتنمية المهارات الاجتماعية من خلال الأنشطة الثقافية والفنية والرياضية وغيرها.