أي قراءة للأوضاع الراهنة لا تتعامل مع الحراك الجماهيري الحاشد في الثلاثين من يونيو/حزيران 2013، وما تلاه من إجراءات استثنائية اتخذتها القيادة العامة للقوات المسلحة باعتبارها أصل المشكلة، وبالتالي لن تكون جزءًا من الحل، هي قراءة قاصرة بالضرورة.
ففي مساء الثالث من يوليو/تموز 2013 وبينما بدأ التلفزيون الحكومي بث بيان القيادة العامة للجيش الذي أعلن تعطيل العمل بالدستور والإطاحة بالرئيس الأسبق محمد مرسي، كانت سيارات الشرطة تتوجه إلى مدينة الإنتاج الإعلامي حيث أغلقت عدة قنوات فضائية تابعة أو مؤيدة لجماعة الإخوان المسلمين، وألقت القبض على صحفيين وإعلاميين واعتدت على آخرين، دون سند واضح من القانون.
كان المبرر وقتها أن "للثورة قانونها" الذي يبيح اتخاذ إجراءات استثنائية بحق من يحرضّون ضد المعارضين، وكانت المحطات الموالية لجماعة الإخوان المسلمين تحرّض بالفعل ضد المعارضين، ولكن في هذا الدفع ما يغفل السياق العام للأمور، فهل سُمح لـ"الثورة" أن تتخذ الإجراءات الاستثنائية بحق كل الإعلاميين الذين كانوا يحرضّون بحق المواطنين؟
السياق العام للأمور اكتمل في تلك الفترة التي شهدت الإرهاصات الأولى للتضييق على الصحفيين وعلى حرية تداول المعلومات بصفة عامة، فقد وثقت منظمة مراسلون بلاد حدود خلال الشهرين التاليين على استيلاء الجيش على السلطة مقتل خمس صحفيين بيد رجال الأمن بينهم بريطاني واحد، وسجن ثمانين صحفيًا آخرين، والاعتداء على أربعين ممن كانوا يقومون بتغطية ميدانية للأحداث.
ولم يكن الأمر مرتبطًا بصحفيين موالين لجماعة الإخوان المسلمين، فالصحفي البريطاني الذي قُتل كان يعمل لحساب سكاي نيوز، كما قُتل ضمن الخمسة صحفي يعمل بمؤسسة الأهرام.
بينما كان الحماس الثوري يبرر هذه الانتهاكات أو يتغاضى عنها في أحسن الأحوال، كانت الجمهورية الجديدة تستعيد أول حقوقها التي انتزعتها منها ثورة يناير، وهو حق التحكم فيما تبثه وسائل الإعلام.
والحاصل أن الحراك الجماهيري الذي انفجر في الثلاثين من يونيو، وما تلاه من إجراءات اتخذتها القيادة العسكرية، عقّدت الصورة وزادوها ارتباكًا، فالحراك لم يكن في جوهره حراكًا ثوريًا، ولكن الإجراءات التي تلته في الوقت نفسه لم تأتِ على شكل انقلاب عسكري، فكان السؤال الشاغل وقتها "ثورة أم انقلاب؟".
الحراك الثوري لا يُطالب بأي حالٍ وزير الدفاع بإقصاء الرئيس المنتخب ولو كان فاشلًا، ولا يرفع ضباط الشرطة على الأعناق بعد سنتين فقط من ثورة شعبية وجّهت غضبها نحو السلوك القمعي الممنهج لرجال الشرطة وفشلت في إصلاح هذا السلوك القمعي الممنهج، أما الانقلابات العسكرية بصورتها السائدة فلم تستند يومًا على الملايين في الشوارع، ولم تستدعِ أبدًا الرموز السياسية المعارضة على تنوعها إلى صدارة المشهد.
الحراك الثوري لا يضعُ بأي حالٍ المجال السياسي بيد المؤسسة العسكرية ويدعوها لإغلاقه، إلا إذا كان المزاج الشعبي تحت ضغطٍ وخوف من مصير أسوأ، وهو ما يمكن أن نتفهمه اليوم كدوافع لما جرى في صيف العام 2013، ولكن دون أن يمنعنا ذلك من محاولة فهمه.
كانت البلاد على حافة الغليان ليلة الثلاثين من يونيو، أزمات حادة في الوقود والكهرباء تعجز الحكومة عن التعامل معها أو تخفيفها، أحاديث كثيرة عن نية الرئيس بيع سيناء لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) وبيع أهرام الجيزة لإمارة قطر، ومخاوف لدى قطاعات واسعة من مراحل لاحقة يُفرض فيها نمط الحياة الإسلامي على المجتمع. إعلام استخدم حرّيته في اختيار الجهة السيادية التي سيكون مخلصًا لها، وقبل ذلك كله بأربعة أيام، رئيس الجمهورية يلقي خطابًا لأكثر من ساعتين ونصف لا يتحدث فيه سوى عن شرعيته، منزلقًا بالمقام الرئاسي إلى مهاترات خاصة وهو يلخص أزمات المواطنين في "واد شد سكّينة الكهربا".
في الأيام التالية على الإجراءات الاستثنائية، بدأت حدّة أزمات الطاقة تنكسر، أصبح الوقود متوفرًا في المحطات، دون أن يفهم أحد من أين جاء هذا البنزين، تمامًا مثلما لم يكتشف أحد ما هي الأدلة والوثائق التي جعلت الكثير من الإعلاميين والصحفيين قبل الثلاثين من يونيو يتحدثون بيقين عن نوايا بيع مصر إلى قطر وحماس وتركيا وكل حلفاء الإخوان المسلمين، إلى أن أصبح هذا الموضوع طيَّ النسيان مع ظهور مشترين آخرين، حقيقيين هذه المرّة.
الحراك الجماهيري المدفوع بالخوف الشديد من مصيرٍ لم يكُن ممكنًا بأي حال الذهاب إليه، ولكن غذّته مبالغات فجّة استندت على فشل وغباء قيادات جماعة الإخوان المسلمين الذين كانوا يحكمون هذا البلد، وجد هذا الحراك نفسه أمام خيار آخر أكثر جاذبية، جيشُ وطني يثق به المواطنون، يجمع حوله السياسيين المعارضين للإخوان مع رؤوس المؤسسات الدينية، ويؤكد أنه يأتمر بما يراه المواطنون في الميادين.
لم يكُن الخيار صعبًا على الناس الذين تعززت مخاوفهم بسبب غرور قيادات الإخوان، الذي كان في جوهره غرورًا على ضعفِ وهامشٍ ضيق للحركة السياسية. لا شك أن مرسي ونظامه كانوا يسعون بكل الطرق لإغلاق المجتمع المصري وأسلمته بالطريقة التي يفهمون بها الإسلام، ولكن في الوقت نفسه فإن السؤال الأهم الذي كان ينبغي طرحه لم يكُن عن رغبتهم ومساعيهم، ولكنه كان سؤال القدرة، هل كانوا قادرين؟
في حقيقة الأمر كانت قدرة الإخوان على البطش بالمصريين محدودة وهم على مقاعد السلطة، نظرًا لتوازنات كثيرة للقوى، ودليل ذلك، أن أغلب الإجراءات التي حاولوا من خلالها تأميم المجتمع لصالحهم، أو ضبطه على الأقل، باءت بالفشل.
النظام السياسي الذي فشل في حماية برلمانه من الحل، والذي رضخ لمطالب معارضيه وألغى إعلانًا دستوريًا أصدره رئيس الجمهرية يمنحه سلطة إصدار قرارات لا تخضع لرقابة القضاء، بل وفشل حتى في وقف بث برنامج تلفزيوني ساخر، لم يكُن قادرًا بأي حال على إجبار السيدات على زي معيّن ولا على بيع سيناء أو أهرام الجيزة لكائن من كان.
ولكن في وقتها، كان الخوف أعمى، فانفجر غضبًا منصبًا على السلطة السياسية، بحماية السلطات الأمنية في البلاد، التي عززت بهذه الحماية شعبيتها، كما عزز وزير الدفاع جماهيريته وهو يقف وحده، متحملًا أكبر قدر من المسؤولية بحكم منصبه الذي يفرض عليه التبعية لرئيس الجمهورية قائده الأعلى، ملقيًا بيانًا يستجيب فيه إلى مطالب الناس الذين دفعهم الخوف إلى الغضب من المقام الرئاسي، الذي لم يُهدره أحد كما أهدره من كان يشغله.
غرور قيادات الإخوان الذين انتقلوا من القصر الرئاسي إلى منصة رابعة العدوية يطلقون التهديد والوعيد وينذرون بإلقاء البلاد في آتون من النار مع تصاعد حالات العنف ضد أقسام الشرطة والكنائس، التي وثّقت قياداتها تقصيرًا أمنيًا واضحًا في حمايتها، عزز حالة الخوف، وأكد الانطباع العام بأن الحوار الآن بات مستحيلًا، ولا بد من التطهير.
وبعد أن سُنّت القاعدة الأولى بأن الأصوات الإعلامية التي تغرد خارج السرب العام يمكن إسكاتها دون اتباع إجراءات مرعية، سُنّت القاعدة الثانية وهي أن المواطنين الذين يغرّدون خارج السرب يمكن استئصالهم بالقوة، في هذه الأجواء التي بلغ الاستقطاب فيها مداه، لم يكُن صعبًا أن يُقتل 850 مواطنًا مصريًا معارضًا في اعتصامي رابعة العدوية ونهضة مصر، بدعوى أن بحوزتهم عشر بنادق وبضع رصاصات، دون أن يُفتح في ذلك الأمر أي تحقيق محايد يكشف لنا حقيقة ما جرى.
جمهورية الثالث من يوليو وضعت الآن الأسس التي ستُبنى عليها، هناك جموعٌ مؤيدة لا تريد أن تسمع أصواتًا معارضة، ولا تريد أن ترى معارضين في الأساس، والإخوان جماعة إرهابية، ما أنتج لاحقًا سياسات مكارثية فأصبح الاشتباه في انتماء أحدهم للإخوان مبررًا كافيًا لتصفيته، أو حبسه لسنوات طويلة.
هذه الجمهورية، التي تنهض على قدمٍ من الخوف من خطر مجهول جرى تضخيمه بأضعاف حجمه الحقيقي، وأخرى من الدماء التي لا يصعب أن تسيل دون حساب، تعاني من اختلال بنيوي في عقدها الاجتماعي، فشرعيتها تأسست على حماية المجتمع والدولة من خطر إرهاب لا ينتهي في العالم كله، وعلى إصلاح هيكل اقتصادي خَرِب يعاني منذ عشرات السنين، ومُنحت، في لحظة خوف نادرة، كل الصلاحيات الممكنة التي تنزع من المواطنين كلَّ الحقوق، ليبقى السؤال المنطقي، ما الذي يدعو هذه الجمهورية لتتنازل عن شرعيتها، وعن صلاحياتها؟