أكثر من ثلاثة شهور مرّت على الحرب في غزة، تغيرت فيها صياغة العديد من القواعد على مستوى السياسة وحقوق الإنسان وحرية التعبير.
انعكس ذلك على الملاعب الرياضية، إذ غضت الاتحادات الدولية الطرف عن إسرائيل ولم تتخذ في حقها أي إجراء عقابي يتناسب مع حجم ما ترتكبه من مجازر في حق الفلسطينيين، بل على العكس منعت أي شكل للتضامن مع غزة بدعوى التزامها بقاعدة "لا لخلط الرياضة بالسياسة".
الملاعب ذاتها سبق وشهدت مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية كسرًا واضحًا لتلك القاعدة، فلم يتردد الاتحاد الدولي أو الأوروبي لكرة القدم في الثامن والعشرين من فبراير/شباط 2022 في اتخاذ قرار عاجل بإبعاد روسيا عن كل المسابقات على مستوى الأندية أو المنتخبات، كإجراء عقابي بعد 4 أيام فقط من بدء هجومها على أوكرانيا. لكنها اليوم تستعيد الاتحادات الدولية حيادها لتجبر كسر قانونها، في موقف لا يخلو من انحياز.
معايير منحازة
الإجراءات التي اتخذتها اتحادات عالمية وأوروبية تجاه روسيا على سبيل العقاب، تضامنًا مع أوكرانيا، هي ما فتحت الباب للتساؤل حول مدى جدية اتباع اللوائح، وعواقب خرقها، وقوة تأثير السياسة في ذلك كله.
وتمثلت تلك الإجراءات في منع عزف النشيد الوطني في بداية المباريات التي يشارك فيها فريق روسي، ومنع رفع العلم الروسي في محافل دولية.
أما في حالة الحرب على غزة، حدث النقيض، أعلن الاتحاد الألماني دعمه بشكل واضح لإسرائيل، وتبعه نادي بايرن ميونخ.
وفي فرنسا عاقب فريق نيس لاعبه الجزائري يوسف عطال بالإيقاف، وأُحيل للتحقيق مع إجباره على الاعتذار بعدما أبدى مساندته للشعب الفلسطيني. كما أن رابطة الدوري الفرنسي أصدرت قرارًا بإيقاف اللاعب، وهو إجراء أقل حدة مما جاء به نادي ماينز الألماني، الذي فسخ عقد لاعبه الهولندي ذي الأصول المغربية أنور الغازي، لدعمه فلسطين.
تكرر الأمر ذاته مع المصري سام مرسي لاعب إبسويتش تاون فريق الدرجة الأولى في إنجلترا، الذي نال عقوبة إيقاف لمباراة واحدة من اتحاد كرة القدم، بعدما واصل دعمه للقضية الفلسطينية، إذ قال عقب إحدى مباريات فريقه "سعداء بدعم جماهيرنا في هذه المباراة، من الجيد أن نحظى بدعم 30 ألف مشجع بينما تستمر معاناة الناس في فلسطين".
تلك التصريحات التي حتى لم تسئ للاحتلال الإسرائيلي، أثارت حفيظة اتحاد الكرة الإنجليزي، فوجه إليه تهم انتهاك قواعد ولوائح الاتحاد، والهجوم على حكم المباراة بتصريحات بعد نهاية اللقاء.
وتنص المادة رقم 4 من القانون الدولي لكرة القدم، الصادر عن الفيفا، على وجوب "ألا تحمل المعدات أي شعارات، أو بيانات، أو صور سياسية، أو دينية أو شخصية" داخل الملعب.
كما تنص على عدم كشف اللاعبين عن ملابس تحتية تحمل أي شعارات، أو بيانات، أو صور سياسية، أو دينية أو شخصية، أو إعلانات غير شعار الشركة المصنعة. وفي حال المخالفة، تشير المادة نفسها إلى وجوب معاقبة اللاعب أو الفريق بواسطة منظم المنافسة، أو الاتحاد الوطني لكرة القدم، أو الفيفا.
لا يتضمن القانون إشارة إلى التعبير عن الآراء السياسية خارج الملعب، لكن الاتحادات التي لا تفضل خلط السياسة بالرياضة، جعلت من التعبير عن الرأي جريمة تستحق العقاب.
تهديدات بالقتل
ولم يسلم السبَّاح عبد الرحمن سامح، الذي تُوّج بذهبية سباق 50 مترًا حرة في بطولة العالم باليونان، من المضايقات بعد إعلانه دعمه لفلسطين على منصة التتويج قائلًا "لا يمكنني الاحتفال بما حققته وهناك من يموتون كل يوم في غزة".
وكرد فعل، تعرض سامح لتعسف من الاتحاد الدولي للعبة، إذ حذف الاتحاد صوره من حساباته على السوشيال ميديا، وأبقى على صور باقي الأبطال المتوجين. فيما تقدم اتحاد السباحة الإسرائيلي بطلب إلى الاتحاد الدولي لشطب سامح من سجلاته، بزعم ارتكابه فعل مسيء. وتلقى سامح تهديدات بالقتل كشف عنها بنفسه.
يصف الدكتور طلال عبد اللطيف خبير اللوائح والتشريعات الرياضية الدولية، الأمر، بقوله "بقدر ما يحمله من تعسف، فإنه يعد شائكًا ومعقدًا".
يوضح عبد اللطيف في حديثه لـ المنصة "لو أن لاعبًا تعرض لإجراءات تعسفية أو قهرية من جانب نادٍ أو اتحاد فله حق اللجوء لهيئات تحكيم رياضية، أو حتى اتحادات دولية"، كما فعل الغازي.
ويستدرك "لكن التعقيد يكمن في أن بعض الأندية التي تتخذ إجراءات تعسفية ضد اللاعبين المتضامنين مع القضية الفلسطينية، تتذرع بالفصل بين الرياضة والسياسة، وأن ذلك خط أحمر غير مسموح بتجاوزه. والجهة الرياضية وحدها هي التي تحدد ما إذا كانت تلك الحالة تعد تجاوزًا أم لا".
انتشرت على مدى واسع ولافت للنظر أعلام فلسطين في مدرجات ملاعب أوروبية مختلفة
وهو ما حدث بسبب التعديلات التي أقرتها الفيفا بعد ما حدث عام 2016 عندما فرضت غرامة على إنجلترا وأسكتلندا وويلز وأيرلندا الشمالية لاستخدامهم زهرة الخشخاش، باعتبارها رمزًا سياسيًا للاحتفال بالذكرى المئوية للانتفاضة ضد الحكم البريطاني.
وبعد انتقادات لقرار الغرامة بسبب زهرة الخشخاش، غيّر فيفا صياغة قواعده المتعلقة بملابس اللاعبين للسماح بزهور الخشخاش، أو أي "شعارات مشابهة أو تصريحات أو صور مسموح بها" إذا وافقت الفرق المنافسة والجهة المنظمة للمسابقة على ذلك مسبقًا.
ما يبدو وكأنه محاولة لإعطاء مساحة للسياسة في الملاعب دون التصريح بذلك، ووفقًا للظرف العام.
حقوق المثليين
لكن عاد الاتحاد للالتزام بمبدأ منع الشعارات في مونديال قطر 2022، إذ رفضت قطر وجود لافتات تدعم المثلية الجنسية في مدرجات كأس العالم، وطبقت المنع حتى على الجماهير، فاعترضت فرق رياضية على تكميم الأفواه والحد من حرية التعبير.
كان المنتخب الألماني النموذج الأمثل في خرق قواعد اللجنة المنظمة للبطولة، إذ وقف لاعبو "المانشافت" صفًا قبل انطلاق مباراتهم ضد اليابان، مكممين أفواههم، اعتراضًا على رفض قطر إظهار أي شعارات لدعم المثلية.
المثير للدهشة أن حساب الاتحاد الألماني على إكس نشر بوست يدعم منتخبه "هذا ليس موقفًا سياسيًا، حقوق الإنسان غير قابلة للتفاوض، حظر الشارة (شارة المثليين) يضاهي حظر حقنا في التعبير". بينما عدلت منتخبات إنجلترا وبلجيكا وويلز والدنمارك وألمانيا وسويسرا وهولندا عن قرارها ارتداء شارة دعم المثليين، ما عُدَّ خضوعًا للوائح اللجنة المنظمة للمونديال.
تشددت وقتها قطر في تطبيق اللائحة، وفرضت عقوبات على أحد المشجعين الذي اقتحم مباراة البرتغال وأوروجواي حاملًا علم المثلية بمنعه من حضور بقية مباريات المونديال.
تبرز عبارات الاتحاد الألماني القوية التناقض الفج في المواقف، ففي الوقت الذي انتفض فيه للدفاع عن حرية التعبير، منع التعبير عن دعم غزة.
قوة الجمهور
على الرغم من تشدد الاتحادات الرياضية مع اللاعبين في تعبيرهم عن دعم غزة، انتشرت على مدى واسع أعلام فلسطين في مدرجات ملاعب أوروبية مختلفة، حتى كادت تتحول إلى ظاهرة. كسرت الجماهير الحصار وأدخلت السياسة إلى الملاعب، في مباريات الدوري الإسباني والدوري الإنجليزي ونهائيات كأس أمم أوروبا 2024.
كما طالبت العديد من الاتحادات العربية المجتمع الرياضي الدولي باتخاذ إجراءات ضد إسرائيل شبيهة بما فعلته مع روسيا فدعا الاتحاد السوري لكرة القدم إلى فرض عقوبات على الرياضة الإسرائيلية، وإبعاد منتخباتها وأنديتها ولاعبيها وممثليها عن أي بطولات أو تجمعات.
وسبق سوريا الاتحاد الأردني حين طالب بعزل كامل وفوري للاتحادات الإسرائيلية، في محاولة لتثبيت القاعدة التي اُتبعت حين شنت روسيا الحرب على أوكرانيا باعتبارها الدولة المعتدية. لكن تلك المحاولات لم تُجد نفعًا حتى الآن، فلا تزال القوى السياسية الفاعلة على المستوى الدولي ناجحة في فرض قواعدها، وترجيح كفة انحيازاتها في الملاعب الخضراء، لتستغل قوانينها وفق مصالحها.