جاءت ثورة يوليو كصخرة تحطم عليها مشروع مصر الموسيقي الذي بدأ على يد كل من محمد عثمان، وعبده الحامولي، والشيخ محمد عبد الرحيم المسلوب في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. بدأ المشروع المصري كحركة استقلال وطنية، كان الهدف منها هو تحرير الموسيقى المصرية من تبعيتها للموسيقى التركية، بدأ هذا المشروع باستبعاد آلات موسيقية تركية كالبزق من الفرق المصرية، واستبدل بآلة القانون الصغير القانون الكبير المستخدم حاليًا في مصر.
ومع تطور هذا المشروع، شَرَع الموسيقيون المصريون في استبعاد القوالب الموسيقية التركية، كقالب البشرف التركي، والإيقاعات التركية.
تطور المشروع الموسيقى المصري وتبلور على يد أجيال موسيقية لاحقة مثل سيد درويش، والقصبجي. وفي الوقت الذي أصبح فيه الطريق ممهدًا للموسيقى المصرية للتنوع وخلق قوالب موسيقية مصرية حديثة ومتنوعة، قامت ثورة يوليو، وواجه مشروع الاستقلال الموسيقى حركة الضباط الأحرار ودولة يوليو التي أخذت الموسيقى المصرية إلى اتجاه آخر.
استطاعت دولة يوليو أن تستثمر علاقاتها وصداقاتها مع بعض الفنانين والموسيقيين للسيطرة على الأغنية المصرية وأدلجتها، لتصبح هناك أغنية رسمية وفنان سلطة كعبد الحليم حافظ، وبعد الخلافات المبكرة، تم تخليص أم كلثوم من تهمة الانتماء للعهد البائد، ونُقيَت أغانيها من "الفاروقيات" وهي مقاطع وفقرات من أغانيها مدحت فيها الملك، لتنضم إلى مسار الثورة نفسه.
ما حدث للموسيقى والغناء بعد يوليو 52، حدث مع باقي أنواع وأشكال الفنون ليصبح الفن بالنسبة للدولة مجرد أدوات تعبوية وتوجيهية في يد السلطة.
في ظل دعم الدولة تصاعدت النبرات الوطنية والقومية في الأغنية المصرية، كنوع من أنواع التعبئة العسكرية الدائمة للشعب المصري، وساعدت حرب 56 على نمو هذا الاتجاه في الأغنية، ومع سيطرة الدولة على الإعلام في ذلك الوقت، كان نجاح المغني يعتمد على مدى تبني الدولة له.
هزيمة 67.. والسح الدح أمبو
تغير كل شيء بعد الهزيمة التي كانت كزلزال بالنسبة للمجتمع المصري، لم تعد الأغنية الرسمية ترضي المزاج المصري، كانت الهزيمة بمثابة بداية ثورة على مشروع الدولة الموسيقي والفني، استطاعت الأغنية الرسمية الاستمرار بعد الهزيمة بقوة دفع السنوات والدولة، لكنها انهارت في النهاية بعد رحيل نجومها أم كلثوم، وعبد الحليم حافظ.
في المقابل صعدت أشكال جديدة في الغناء المصري بعد الهزيمة، أخذ هذا الصعود سنوات قبل أن نصل إلى تنويعات مختلفة في الموسيقى الشعبية المصرية، التي انتشرت بانتشار أشرطة الكاسيت، وتطور تكنولوجيا صناعة الموسيقى وسهولة استخدامها، ذلك الذي كَسَر احتكار الإذاعة المصرية للأصوات، ومن ثم اختيار أسماء بعينها وتبنيها.
كان هذا الاختلاف مثار انتقاد من صناع الموسيقى القدامى، يقول الملحن المصري حلمي بكر عن الموسيقى المصرية الحديثة في إحدى تصريحاته "هذا المستوى من الفن نتاج نكسة 1967 وكان يجب أن ينتهى عام 1973".
بالنسبة للفنانين التقليديين فإن ما وصلت إليه الموسيقى المصرية، الشعبية والمهرجانات، يعتبر امتدادًا للنكسة بحد تعبير حلمي بكر، فهو فن مهزوم كان يجب أن ينتهي بعد الانتصار والعودة للفن التوجيهي التعبوي المؤدلج.
بغض النظر عن القيمة الفنية للقوالب الموسيقية المصرية الحديثة، فإن التحول الذي حدث للموسيقى المصرية بعد هزيمة 67 لم يكن إلا تمردًا على مشروع الدولة الموسيقى، كان محاولة للاستقلال الموسيقي فيها تشابه مع حركة الاستقلال التي حدثت في القرن التاسع عشر، الفارق هنا أن الاستقلال هنا لم يكن عن الموسيقى التركية، ولكن عن المسار الذي تتبناه الدولة.
بطبيعة الحال نتج عن هزيمة 67 المزيد من الأغاني الوطنية المقاومة للهزيمة، لكن نتج عنها أيضًا تيار معارض وساخر من القيادة السياسية في مصر، ولأول مرة تعرف مصر منذ اندلاع ثورة يوليو 52 أغنية وطنية بديلة، غير منحازة للقيادة السياسية.
كان أبرز رواد هذا التيار الموسيقى هو الشيخ إمام، الذي يعد امتدادًا فنيًا لأجيال موسيقى ما قبل يوليو 52، ونتيجة لعدم انحياز هذا التيار للقيادة السياسية التي كانت لا ترضى بأي شكل من أشكال المعارضة، فقد تم تحريم هذا التيار الموسيقي في مصر، ولاحقت الدولة إمام والفاجومي أمنيًا، واعتقلتهما.
وبخلاف الأغاني الوطنية التقليدية وتيار المعارضة، ظهرت الأغنية الشعبية التي ظهرت بعد الهزيمة، التي تختلف في سماتها عن الأغاني الشعبية المنتشرة في الستينيات، وحتى مغنيها كانوا يرون مفهوم "الوطنية" بشكل مختلف.
في إحدى الحوارات الصحفية التي أجريت معه، سُئل أحمد عدوية عن عدم تقديمه ﻷي أعمال وطنية، وجاوب عدوية ببساطة أن أغنيته "سلامتها أم حسن" هي أغنية وطنية، وأم حسن هنا هي رمز لمصر بعد هزيمة 67.
الموسيقى الشعبية.. التمرد على الدولة
قبل هزيمة 67، كانت الفنون الشعبية في مصر كغيرها من الفنون التي تسيطر عليها الدولة، بما في ذلك الموسيقى والغناء، ففي عام 1955 أنشأت وزارة الإرشاد القومي مصلحة الفنون، كما أنشأت مركز الفنون الشعبية في 1957 الذي كان من ضمن مهامه التي ذكرها إبراهيم عبد الحافظ في كتابه الفنون الأدبية الشعبية: دراسة في ديناميات التغيير، "تدريب جيل من أهل الفن والأدب ليكونوا خبراء في الفنون الشعبية الوطنية"، ومصطلح الوطنية هنا يؤكد على ضرورة انحياز الفنون الشعبية لتوجهات الدولة.
فلم تكن هناك مساحة لكثير من الفنون الشعبية كالفنون النوبية في النوبة التي كانت في أزمة مع الدولة بسبب عمليات التهجير التي ساعدت على تطور الموسيقى النوبية وانتشارها، بعد انهيار دولة يوليو، بسبب هجرة الكثير من النوبيين إلى القاهرة، أو الفنون الأمازيغية في الصحراء الغربية التي تعد من الفنون المهمشة حتى هذه اللحظة بسبب مركزية الدولة المصرية. تلك الأعراق أيضًا تعرضت لتهميش بسبب المشروع القومي العربي الذي تبنته دولة يوليو.
تزامن كل هذا مع مشروع بليغ حمدي الموسيقي بالاعتماد على التراث الشعبي في ألحانه، وصعود نجم الشاعر عبد الرحمن الأبنودي، والمطرب محمد رشدي، لينتج لنا الثلاثي الأغنية الشعبية التي تدعمها الدولة، وهي أغان تعد ملتزمة على المستوى الاجتماعي والسياسي، فهي ترضي المزاج الشعبي الذي بدأ بالاتجاه نحو الموسيقى الشعبية وإيقاعاتها، وتسبح كلماتها في نفس مساحة المواضيع المسموح بها في الأغنية الرسمية مع اختلاف قاموس الكلمات.
جاءت الهزيمة محبطة ومهينة، لأنها كانت غير متوقعة بالنسبة للشعب الذي كان يستمع إلى أخبار الانتصارات في الإذاعة، نتج عن هذا الإحباط واقعًا جديدًا على المصريين الذين تم شحنهم بمكملات الوطنية وتضخيم الذات، فتغير المزاج العام في مصر بشكل كلي، فبدأ التوجه ناحية الموال الشعبي الذي يتميز بموضوعات فلكلورية عن الشكوى والحزن.
لم يجد الجمهور غايته عند رشدي أو العزبي بعد الهزيمة، وكان الوقت ملائمًا لأصوات شعبية جديدة كأحمد عدوية الذي بدأ مشواره في الغناء عام 1969، كانت ميزة عدوية التي ضمنت له الانتشار في ذلك الوقت هو الخروج عن المساحات المسموح بها على مستوى موضوعات الأغاني وكلماتها، لذلك تمت مهاجمته ومنعه من الغناء في الإذاعة.
تطور الغناء الشعبي في مصر بعد هزيمة 67، وساعد على انتشاره التغييرات الاجتماعية والاقتصادية التي شهدها المجتمع المصري في فترة السبعينيات، لكن ظل هذا اللون بعيدًا عن سيطرة الدولة وأجهزتها التي ما زالت تحاول جاهدة للسيطرة على صناعة الفنون والإعلام في مصر لإنتاج نفس التجربة التي أنتجتها تجربة الضباط الأحرار في أدلجة الفنون وجعلها أداة توجيه اجتماعي.
في الوقت الذي باتت فيه السيطرة على وسائل الإعلام وعملية الإنتاج الفني مستحيلة، ما زالت أذرع السلطة في مصر تحاول إنتاج ظروف الهزيمة مرة أخرى، فنجدها تجتهد في تقليص المساحات التي اُكتسبت بعد ثورة يناير، فمثلًا تم وقف تنظيم فعاليات الفن ميدان في أغسطس 2014 والتضييق على إقامة الحفلات الموسيقية وملاحقة أعضاء الفرق الموسيقية واتهامهم بتهم تسعينية مثل عبادة الشيطان، أو منع عرض الأفلام المستقلة بحجج مثل الإساءة لسمعة مصر.
تلك الأساليب في التضييق والسيطرة على صناعة الفنون والإعلام، بهدف إنتاج محتوى فني وإعلامي إرشادي وتوجيهي، ساهمت في الوصول إلى هزيمة دولة يوليو في يونيو 67، وما زلنا في 2017 نرى رؤوس الأموال المقربة من السلطة تجتهد في السيطرة على وسائل الإعلام، إلى جانب الدولة التي تريد فرض هيمنتها على الإنترنت.