ملك المجال العام
جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر

خمسون عامًا على الهزيمة| التاريخ الشعبي لحرب 67

منشور الأحد 4 يونيو 2017

"عمل إيه جمال عبد الناصر في البلد؟ خرب البلد.. عَمَل حراسات في العائلات الكبيرة، وعمل أعمال وحشة، هو عرف إن فيه رب موجود إلا من بعد ما الإسرائيليين إدته فوق نافوخه؟.. والله الظباط اللي جوه السجن (أبو زعبل) قالوا: الحمد الله، يا رب اليهود تخش، واحنا جوه السجن. دا إحنا شفنا أيام يعلم بيها ربنا.. أيام وحشة.. الله يخرب بيته، الله يفحره.. بعد كده جت اليهود.. جا الحرب إسرائيل هزمته.. أما انهزم شخصية كبيرة قالت: انت اللي ظلمت، سَيِّب العائلات.. فك العائلات كلها... السادات هوه فيه زيه؟ العائلات كلها بقت تحبه.. دُكها فقير.. أبوه بَصمجي.. كان بوسطجي".

هكذا يعلق أحد ملاك الأراضي علي هزيمة 67 ولا يخفي شماتته وكرهه لعبد الناصر نتيجة لقرارات الإصلاح الزراعي، التي انتزعت منه أرضه، شهادة يعرضها كتاب "التاريخ الشعبي لمصر في فترة الحكم الناصري.. رؤية جديدة من وجهة نظر المهمشين" لـ د.خالد أبو الليل، والذي أجرى حوارات مع فئات مهمشة من المواطنين الذين يتجاهلهم التاريخ المهتم بتاريخ الزعماء والقادة والكبار، نتعرف من الكتاب على هذه الذكريات بما فيها من تحيزات وأخطاء تاريخية. 

يعتمد الكتاب الصادر عن الهيئة العامة للكتاب علي فكرة "التاريخ من أسفل"، ويعرض لنماذج أسست لمثل هذا النوع من التأريخ، مثل كتاب "التاريخ الشعبي للولايات المتحدة الأمريكية" لهوارد زن. ويستعرض الكتاب تسجيلات أجراها الكاتب مع مجموعة من المواطنين عام 2010، أغلبهم لم يحصلوا على قدر كبير من التعليم، وأغلبهم مقيم في ريف محافظات خارج القاهرة، ليبتعد عن فكرة مركزية التاريخ. ويذكر الكتاب في مقدمته أنه بعد 25 يناير هناك من عدّلوا شهاداتهم وجعلوها أكثر صراحة حيث أنهم كانوا يشعرون ببعض القلق والخوف مما كان لا يشجعهم علي الشهادة كاملة الصراحة .

يستعرض الكتاب مراحل الحكم الناصري المختلفة، بل يبدأ حتى من قبل تولي عبد الناصر الحكم، إذ يبدأ منذ حريق القاهرة وحرب 48، مرورًا بصراع محمد نجيب وعبد الناصر، ثم الصراع مع الإخوان وحرب 1956 والوحدة مع سوريا وبزوغ القومية العربية، وصولًا لهزيمة 67 وحرب الاستنزاف.

ومن ضمن الكتاب الذي يبلغ عدد صفحاته 800 صفحة، نركز على الجزء المرتبط بالتأريخ الشعبي لفترة 1967، لنشاهد انعكاس الهزيمة على الفلاحين والمجندين، وانطباعاتهم التي تتفق أحيانًا وتختلف أحيانًا مع ما نعرفه عن تلك الفترة، كما يمزج الكتاب بين تلك الشهادات وبين المصادر من الكتب المختلفة التي تناولت نفس الفترات.

أسباب النكسة

تتنوع الأسباب التي يطرحها المبحوثون - ممن أُجريت معهم المقابلات - لهزيمة 67  بداية من حرب اليمن "كان نص الجيش بيحارب في اليمن، ومفيش موارد للجيش"، في حين يقول آخر "الجنود كانوا مش مستعدين، إزاي أجيب جنود طالعة من حرب اليمن، علشان ثورة السلال وأحطها تحارب مع اسرائيل"، وهناك مَن أرجع الهزيمة لوجود أخطاء في قيادات الجيش أو ما أسماه أحد المبحوثين ببعض "الاعوجاجات" الموجودة في الجيش المصري، وتعددت الاتهامات لعدد من الشخصيات أبرزها عبد الحكيم عامر وصلاح نصر وصدقي محمود قائد القوات الجوية.

ويُرجِع أحد المبحوثين الهزيمة إلى كلمة عامر الشائعة عنه: "إزاي قائد يحكم شعب ويرجع ياخد بكلمة واحد بيقول له (برقبتي)؟ يعني ايه برقبتي؟ يعني احنا قاعدين فين بالظبط؟ وعبد الحكيم عامر ليلة الحرب كان عامل حفلة مع وردة.. اللي بيقولوا كان متجوزها ..أو كدا". ويركّز آخر على صدقي محمود، قائد سلاح الطيران، الذي طمأن عبد الناصر على حالة القوات الجوية، ثم ضُربَت الطائرات والمطارات على الأرض.

في حين ترى الحاجة أم هيثم، من محافظة قنا، وهي لا تعرف القراءة والكتابة، أن سبب الهزيمة هو حقد المشير عامر على عبد الناصر، إذ "استكثر" عليه وهو ابن الطبقة الغنية أن يكون ناصر ابن الطبقة الفقيرة صاحب الجماهيرية والسلطة "فغيرة وحقد وكدا، جاله في دماغه انه لما يقع عبد الناصر في حرب زي دي الشعب ممكن يكرهه. وعبد الحكيم كان له حاشية جامدة".

ويري آخر أن سبب الهزيمة هو حالة الاسترخاء بعد النصر السياسي في حرب 1956: "الشعب كله نام، الناس كلها رحرحت علشان حسوا بنشوة 56". ولكن لم تخل شهادات أخرى من تبرئة لعامر، فيقول مبحوث آخر أن سبب الهزيمة هو عدم استجابة عبد الناصر لطلب عبد الحكيم بأن تكون مصر هي البادئة بالهجوم.

وظلت محاكمة القادة التي تلت الهزيمة غير مقنعة للبعض، وبالفعل أدت لمظاهرات للعمال والطلبة، لأنها جاءت بأحكام مخففة وتَطَلَّب الأمر من الدولة أن تعيد المحاكمات، وجاء تعليق أحد المبحوثين على ذلك قائلًا: "إزاي بعد ما كانوا سنتين وتلاته بقوا 20 و25 إلا إذا كان الأولانية كلام في كلام، والتانية أي كلام، والأحكام بتمشي علي الهوى وخلاص".

ويمثل حادث"انتحار" عبد الحكيم عامر لغزًا في الوجدان الشعبي: "يعلم الله همّا عدموه ولا هو عَدَم نفسه؟ معرفش" بينما يشهد توفيق مهدي سليمان، 67 سنة من قرية طناش وحاصل علي الابتدائية، بصفته كان واحدًا من حرس عبد الناصر، وقد حضر بنفسه مراسم غًسل المشير "والله أنا حاضر تشريح عبد الحكيم عامر.بقي الدكتور يشيل من على القلب كدا برشام أبيض.. دا هو اللي انتحر". بينما يري آخر أن صلاح نصر هو من قام بقتل المشير بسبب محاولته الانقلاب علي عبد الناصر "فعبد الناصر وصل له التخطيط بالكامل من الظباط اللي معاه.فحب يثبت صلاح نصر ولاءه الكامل له فقام بتسميم عبد الحكيم عامر.. ما انتحرش". ويوضح الرأي الثالث الحيرة والخوف من مثل هذه الأحداث "بس قالوا إن عبد الحكيم عامر انتحر، وناس قالت اغتالوه. بس في الوقت دا كان فيه تغمية على الكلام. ومحدّش في الوقت دا كان بيتكلم كتير. دا المعتقلات كانت مليانة والحبس من غير سبب واللي يتكلم يقولوا الأمن القومي".

تختلط الحقائق والشائعات في الوجدان الشعبي بين أسباب عسكرية ودولية وبين حكايات النميمة وسهرات الفن ونظريات المؤامرة الداخلية والخارجية، ومحاولة تبرئة أشخاص وإدانة آخرين تأثرَا بالميول العاطفية.

بين "إحنا معاك" و"يغور في داهية"

كان خطاب التنحي بمثابة الصدمة للشعب المصري الذي كان يعتقد أن الجيش يحقق انتصارات كبيرة في الحرب، قبل أن يظهر عبد الناصر في التلفزيون ليعلن عن الهزيمة وعن رغبته في التنحي وتولية زكريا محيي الدين للقيادة.

اكمن عبد الناصر طرد الانجليز وشال الفساد اللي كان في البلد الناس كانت غافرة له موضوع النكسة

اختلفت ردود الأفعال بين متمسك بعبد الناصر وبين مُرَحِّب للخلاص منه، يقول أحد المبحوثين "انت عارف أحمد اللي كان ساكن عند أم محمد؟.. كان الراديو بتاعه في إيدي وانا بسمع البيان. ساعة ما قال كدا رحت حادف الراديو راح اتكسر".وتضيف زوجته "كانت الناس كلها زعلانه وبتعيط وصعبانة عليها، مش عاوزينه يتنحي".

ويري آخر أن موافقة الشعب علي التنحي كانت ستعتبر نجاحًا لإسرائيل وهو ما جعل الشعب المصري يرفض التنحي لسببين "أول حاجة ما يشَمِّتش اليهود، ويعرّفهم إنهم نجحوا في خططهم، تاني حاجة إن هو السبب في الورطة، يبقى هو المسؤول عن حل الورطة. وقامت مظاهرات 9 و 10 يونيو، وأنا كنت عيل صغير وجريت في هذه المظاهرات".

ويؤكد آخر تمسك الشعب بعبد الناصر لأسباب أخرى "كانت الناس مهزومة، ونفسيتها كانت تعبانة جدًا. بس اكمن عبد الناصر طرد الانجليز وشال الفساد اللي كان في البلد الناس كانت غافرة له موضوع النكسة".

ويضيف "لأنه كان مع القاعدة العريضة.كان مع الغلابة.جاب الفلاحين اللي كانت شغالة بالأجر، وادّى كل واحد 5 فدادين، وعمل الإصلاح الزراعي وبدأ يبص للناس الغلابة". واعتبر آخرون إعلان عبد الناصر تحمل المسؤولية شجاعة منه تستحق التقدير "دي رجولة. يعني كونه انه يتنحي ويقول: أنا متحمل كل المسؤولية، دي رجولة ووطنية، وبعدين الشعب رَجّعُه".

علي الجانب الآخر هناك من يري أن المظاهرات كانت مصطنعة ومدبرة "الهتيفة والمستفيدين واصحاب المصالح وقتها هما اللي قاموا وقالوا لأ ما يمشيش. أنا كنت شاب وقتها وقلت (يغور في داهية) دول خربوا البلد، وقبضوا على خالي وقت أزمة عبد الحكيم عامر، وكان راجل كبير وأعرج عنده 60 سنة، ودخل السجن علشان فِرِح لما ناصر اتنحى، وما طلعش إلا لما جه السادات".

ويضيف آخر "كان اللي في الاتحاد الاشتراكي دا إله، ما كانش حد يقدر يخالف أو يعمل عصيان. السجون مفتوحة والقلعة موجودة، ويحبسوا فيها، والمعتقلات بالكوم، والسَلْخ بالكوم. كنا بهدلة، كان الأخ يخاف يتكلم مع أخوه تلات كلمات لَيكون في الاتحاد الاشتراكي يروح يبلّغ عنه يعدمه. الناس طلعت (لا تتنحي لا تتنحي)، وبعدين هو كان له كاريزما كدهوّت كانت بتعجب معظم الجُهَل.إنما هو ولا حاجة، من جوَا فاضي".

ويؤكد ثالث: "ما كانش فيه حاجة اسمها تنحي.. دي كانت تمثيلية، كانت تمثيلية، والاتحاد الاشتراكي هو اللي عمل التمثيلية دي، وما كانش فيه تنحي خالص. لو عاوز يتنحى كان يبعد عن البلد خالص، كان راح بعيد، كانت تمثيلية في التليفزيون".

وفي رأي متوازن يقول مبحوث آخر "فيه ناس زعلت، وفيه ناس فرحت. الناس اللي هيّه زعلت كانوا عايزين البلد تبقي زي ما هيّ. وفيه ناس كانت عاوزة تطور وتشوف البلد في فرحة وبهجة وتكون أحسن لما يسيبها".

يمثل التاريخ الشعبي أو تاريخ المهمشين بكل ما يحتويه من حكايات وآراء وحتي مغالطات كنزًا ثمينًا نري فيه تأثر المواطن بمدى استفادته من النظام، ومدي ميله الشخصي لقائد بعينه، وما قد يستتبع ذلك من رؤية منحازة للأحداث السياسية، ونرى فيه اختلاط الحكايات الأسطورية بوقائع ثابتة ونسج التاريخ السياسي كقصة درامية تشتمل علي بطل محبوب ومتآمرين وخيانات، وهو ما نري نموذجًا له في هزيمة 67، ويمكن ملاحظته ودراسته في غيرها من الأحداث الكبرى في تاريخ مصر.

هذه القصة من ملف  خمسون عامًا على الهزيمة


خمسون عامًا على الهزيمة| الجرح الذي لا يلتئم

أحمد الخميسي_  تم اعتقالي في مظاهرات الطلاب في فبراير 1968 التي دعمت مطالب عمال حلوان بتشديد الأحكام على قادة الطيران المسؤولين عن النكسة، وظللت بالمعتقل ثلاث سنوات لمجرد المشاركة في مظاهرة