مع تواصل الحرب الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة منذ نحو ثلاثة أسابيع، تنصبُّ غالبية التحليلات على الجوانب العسكرية والجيوسياسية لما يحدث دون أن يحضر الاقتصاد في النقاش، إلا على نطاق ضيق أثناء شرح الوضع الإنساني المأساوي لسكان القطاع البالغ عددهم 2.2 مليون نسمة.
ولكنَّ الاقتصاد السياسي طالما كان عنصرًا رئيسيًا فاعلًا في قلب الصراع الحالي، بما يُمَكِّن من فهم كيف ولماذا تحول قطاع غزة إلى قاعدة للمقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، خلال العقدين الماضيين على وجه الخصوص، خاصة بعدما فرض الاحتلال حصاره عقب استيلاء حركة حماس على السلطة هناك في 2007.
اقتصاد تحت حصار دائم
تبلغ مساحة قطاع غزة 365 كيلومترًا مربعًا، وهي مساحة صغيرة جدًا قياسًا إلى عدد المقيمين فيها، ما يجعل القطاع أحد أكثر المناطق المكتظة بالسكان في العالم، بمعدل نحو 21 ألف شخص لكل كيلومتر مربع.
أصبح القطاع مكتظًا على هذا النحو، بالمعنى الديموغرافي، منذ أن نزح إليه آلاف الفلسطينيين مع نكبة 1948 قادمين من المناطق التي أصبحت اليوم دولة إسرائيل، وهو ما عُدَّ تطهيرًا عرقيًا ضدَّ العرب قامت على أساسه الدولة العبرية. وحاليًا يُشكِّل اللاجئون وأبناؤهم وأحفادهم 70% من سكان القطاع.
هذا التركّز الشديد للاجئين يُفسر أسباب ارتفاع معدلات الفقر في القطاع، كون اللاجئين أصلًا نزحوا إلى القطاع بعدما فقدوا أراضيهم وممتلكاتهم لصالح المستوطنين الذين حلوا محلهم.
تنسجم بيانات الدخل في غزة مع الحياة تحت الحصار الاقتصادي والتعرُّض للتخريب
ولكن بجانب الظرف التاريخي والديموغرافي وفقر الموارد الطبيعية في القطاع، فإن معدلات الفقر وسوء التغذية وانعدام الأمان الغذائي خلال العقدين الماضيين، ناتجة بالأساس عن الحصار الدائم الذي فرضه الإسرائيليون على سكان غزة بحرًا وجوًا وبرًا على نحو كامل منذ 2009.
يجعل ذلك إسرائيل دولة احتلال للقطاع من الزاوية القانونية رغم انسحابها في 2005، لأن نفاذ السكان في القطاع إلى العالم الخارجي لا يمر إلا من خلال إسرائيل، وكذلك نفاذ كلُّ ما في العالم الخارجي إليهم، بما في ذلك مياه الشرب والكهرباء والوقود والسلع الأساسية.
من زاوية نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، بلغ المتوسط في إسرائيل 42594 دولارًا عام 2022، وهو يساوي نحو خمسين ضعف المتوسط في قطاع غزة والبالغ 299 دولارًا، ما يظهر بجلاء ميل الكفة لصالح المحتل/المستوطن على حساب السكان الأصليين، خاصة مع تمتع إسرائيل بدرجة عالية من الاندماج الاقتصادي مع الولايات المتحدة الأمريكية.
وتُخفي غزة قدرًا أكبرَ من البؤس مقارنة حتى بالضفة الغربية المحتلة، حيث بلغ نصيب الفرد في الربع الأول من العام الجاري 1119 دولارًا، أي أنَّ الفلسطيني في الضفة يحصل على أربعة أضعاف ما يحصل عليه الفلسطيني في القطاع.
تنسجم بيانات الدخل في غزة تمامًا مع أحوال قطاع يعيش تحت الحصار الاقتصادي، ويتعرض لموجات تخريب إسرائيلية هائلة كلَّ عدة سنوات (2008 ثم 2014 ثم 2021 وأخيرًا الحرب الجارية في 2023)، ما يعني أنَّ اقتصاد غزة هو حرفيًا اقتصاد إعاشة، تقوم آليات عمله على مجرد إبقاء السكان على قيد الحياة لا أكثر، بما لا يشمل تحسين مستويات معيشتهم أو خلق فرص عمل أو زيادة في الدخل.
واعتمدت إسرائيل في حربها الأخيرة على ضعف الاقتصاد الغزَّاوي، فجعلت من ضغوطها أداة لقطع أسس الحياة المادية عن سكان القطاع، من ماء وغذاء ودواء ووقود.
وبلغت البطالة في قطاع غزة 45% من قوة العمل، أي أنَّ نحو نصف من هم في سن العمل لا يجدون عملًا، ومن هنا يمكن فهم لماذا يعتمد أغلب السكان هناك على المعونات والمساعدات السلعية والخدمية التي تقدمها الجهات الأممية الإغاثية، وعلى رأسها وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا).
ثقافة التسامح مع الموت
تتماشى الظروف المعيشية بالغة التدني عادة مع أنماط اقتصادية تشجع على الزيادة السكانية، علاوة بالطبع على سياق الصراع العرقي بين السكّان الفلسطينيين والمهاجرين اليهود، حيث تظهر أهمية الحجم النسبي لكل مجموعة في مواجهة الأخرى على المدى البعيد، وهو ربما يكون الأمر الوحيد الذي تميل فيه الكفة لصالح الفلسطينيين داخل فلسطين التاريخية، أي الضفة وقطاع غزة والأراضي التي احتلت عام 1948 وتأسست عليها دولة إسرائيل.
أسهمت هذه الظروف الاقتصادية في تعزيز ثقافة التسامح مع الموت
وبالفعل يقترب معدل النمو السكاني في غزة من 2%، وهو ضمن أعلى 40 معدلًا في العالم، ويُشكل الأطفال دون 14 عامًا نحو 40% من السكان في 2021، ويبلغ متوسط السن في القطاع 18 سنة ما يجعل التعداد شابًا للغاية، وأغلب السكان ولدوا غالبهم في ظل الاحتلال الإسرائيلي، وقسم كبير منهم لا يعرف العالم دون حصار.
شكَّلت إسرائيل في المقام الأول الحقائق الاقتصادية والديمغرافية في قطاع غزة، بدءًا من موجات التطهير العرقي المبكرة التي جعلت من القطاع آخر شريط ساحلي يسكنه سكان فلسطين الأصليين، مرورًا بسنوات الاحتلال (1967-2005)، نهاية بالحصار الممتد المؤبد منذ 2009.
لا يعني هذا بالضرورة أنَّ تحول غزة إلى مقر وقاعدة للمقاومة المسلحة ضد دولة الاستيطان/الاحتلال/الحصار، هو فعل مدفوع باليأس وفقدان الأمل، لأن غزة طالما كانت مصدر إزعاج للاحتلال الإسرائيلي منذ 1967، وسرعان ما تخلوا عن حكمها مع بداية عملية أوسلو، بل ودفعت مقاومة الفلسطينيين رئيس الوزراء اليميني المتطرف إلى إخلاء مستوطنات غزة والانسحاب الأحادي من القطاع عام 2005، وهو الأمر نفسه الذي يجعل الإسرائيليين اليوم غير راغبين إطلاقًا في إعادة احتلال القطاع.
لقد استغل الفلسطينيون، لا حماس وحدها بالمناسبة، الظروف غير الإنسانية التي فرضتها عليهم إسرائيل لكي تكون دافعًا لمقاومة الحرمان والحصار، بالاعتماد على قوة بشرية من الشباب متاحة وجاهزة للانخراط في العمل المسلح ضد إسرائيل.
كما أسهمت هذه الظروف الاقتصادية في تعزيز ثقافة التسامح مع الموت الزؤام الذي تذيقه إسرائيل لعموم السكان بشكل ممنهج ومنتظم، ولنتذكر أنه في 2014 قُتل 2251 فلسطينيًا مقابل 72 إسرائيلي (66 منهم جنود) أي بمعدل 31 فلسطيني لكل إسرائيلي، وفي 2021 كان المعدل 19.6 فلسطيني لكل إسرائيل (256 مقابل 13 شخصًا في كل جانب).
إنَّ تردِّي مستويات المعيشة والحضور النشط لإسرائيل كأداة للحصار والقتل الموسمي لعموم السكان وتخريب بنيته الأساسية المحدودة، لا شك تهيئ الكثير من الفلسطينيين لتقبل أنه لا بديل عن موت الكثير منهم، على أمل تحسين ظروفهم النسبية، بما يجعلهم إلى حدٍّ ما في عِداد البشر، في طريقهم إلى مراتب البشر العاديين يومًا ما.