في حرب "إسرائيل" المشتعلة على قطاع غزة منذ أكثر من ثلاثة أسابيع؛ كشف كامل لصورة مصر في لحظة تاريخية صعبة ومشتعلة ومختلفة عن كل ما مضى.
مع كلِّ قذيفة سقطت على أطفال ونساء غزة، وكلِّ بيت هُدم على روؤس ساكنيه، وكلِّ حرمان من الماء والكهرباء والوقود، وكلِّ صورة من صور العدوان الذي يشبه الإبادة الجماعية لأكثر من مليوني مواطن في القطاع المحاصر، كانت صورة مصر بسلطتها وأحزابها ومواطنيها تتضح أكثر، وكانت اللحظة التاريخية الحزينة التي نعيشها في هذا البلد تفرض نفسها على الصورة أكثر، ونبدو جميعًا معها محاصرين وضعفاء أكثر مما ينبغي، وكما لم يحدث من قبل.
وسط العدوان المتصاعد على غزة، برز في الصورة المصرية مشهدان واضحان تمامًا بلا مواربة أو مساحيق تجميل، هما مشهدا السلطة والمعارضة.
مشهد لسلطة مرتبكة
وسط أزمة كبيرة ظهرت السلطة المصرية بشكل مرتبك، وتراوحت خطواتها ومواقفها بين الإقدام والإحجام، وبين الفعل واللافعل، وكأن الأحداث باغتتها بما جعلها تبدو على هذه الصورة المرتبكة.
والحقيقة أن السلطة في مصر سعت لأن تحافظ على موقف متوازن بعد وقوع العدوان، فلم تصطدم معه بشكل مباشر، ولم تستخدم ضده لهجة خشنة أكثر مما ينبغي، لكنها في الوقت نفسه كانت تدينه ولا تقبله.
هذا الموقف، وإن بدا متوازنًا، كشف عن مساحة من الارتباك في إدارة الأزمة، لا سيما أن السلطة حافظت على اللهجة المتوازنة ذاتها في أوقات كانت تتطلب لهجة وموقف أكثر خشونة وحسمًا، كوقت إصابة جنود مصريين في رفح إثر قصف "إسرائيلي"، وصفه جيش الاحتلال وقتها بأنه جاء بالخطأ وأعرب عن أسفه.
ثم إن الارتباك ظهر أيضًا مع التعامل الرسمي مع تصريحات "إسرائيلية" ألمحت لسيناريو تهجير أهل غزة إلى سيناء. فرغم أن الموقف الرسمي المصري الرافض لذلك السيناريو أُعلِن أكثر من مرة، فإن اللهجة تراوحت بين الرفض الحاسم حينًا، والحديث عن إمكانية تهجير الفلسطينين لأماكن أخرى أحيانًا، وكأن مطلوبًا منا تقديم حلول لـ"إسرائيل"، وهو أمر يكشف عدم الاستقرار على لهجة واحدة وحاسمة، رغم الرفض الواضح لسيناريو التهجير.
الارتباك في الإدارة الرسمية للأزمة ظهر أيضًا في السماح لعدة أيام بمظاهرات شعبية واسعة وغاضبة ضد العدوان، دعت إلى بعضها أحزاب مؤيدة للسلطة. لكن سرعان ما قررت الأخيرة التوقف عن التظاهر ومنعت الآخرين منه.
المشهد المصري بطرفيه؛ سلطة ومعارضة، كان يمكن أن يبدو في صورة أفضل كثيرًا
فبحسب شهود حضروا محاولة التحرك من الجامع الأزهر يوم الجمعة الماضي، تحولت المنطقة إلى ما يشبه الثكنة العسكرية، وتعاملت الشرطة بعنف مع كل من حاول التجمع والهتاف لفلسطين، وهو أمر لا يمكن فهمه إلا في إطار ارتباك إدارة الأزمة، وعدم القدرة على وضع خطة واضحة أو خريطة طريق، تُوازِن بين دور الحكومة من جانب، والدور الشعبي المهم والمطلوب من جانب آخر.
بشكل عام؛ ظهر الموقف الرسمي بشكل متوازن ومختلف عن مواقف سابقة لم تكن على القدر المناسب، لكنه في اللحظة نفسها افتقد إلى الوضوح والحسم في أوقات لا تقبل التردد أو الارتباك أو الخوف من إعلان موقف حاسم، لا يتغير حسب مجريات الأحداث.
.. ومشهد لمعارضة باهتة
على الجانب الآخر لم تكن المعارضة المدنية أفضل حالًا من السلطة في تعاملها مع العدوان "الإسرائيلي"، بل نستطيع القول إنها لم تكن على مستوى الحدث الكبير بأي شكل، وظهرت بصورة باهتة وضعيفة، وغابت عن أدوار طالما لعبتها المعارضة المصرية على مدار تاريخها فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية.
فمنذ اللحظة الأولى من العدوان اكتفت المعارضة المدنية بإصدار البيانات، وهو أمر يمكن تفهمه في إطار إعلان الموقف، لكن لا يمكننا اعتباره أبدًا فعلًا سياسيًا؛ لا سيما إذا كان الحدث كبيرًا كما ظهر في تفاصيل العدوان واتساعه، وعدم التزامه بخطوط حمراء سياسية أو قانونية أو أخلاقية.
لم تدعُ المعارضة لمؤتمر شعبي جاد تحشد فيه آلاف المواطنين، وتصدر عنه رسالة واضحة تعبر عن موقف سياسي وشعبي غاضب وداعم للمقاومة الفلسطينية، ويرفض سيناريو تهجير الفلسطينين إلى سيناء، وهو السيناريو الخبيث الذي خرج من أدراج الدول الغربية، ومضى وكأنه سيتحول شيئًا فشيئًا إلى واقع.
هذا المؤتمر الشعبي هو أبسط أداة من أدوات العمل السياسي؛ يحمل الموقف والرسالة، ويُظهِر البلد بشكل يؤكد أن به أحزاب معارضة حية ونشيطة وتستطيع في الأوقات الصعبة أن تعلن مواقفها دون مواربة.
المعارضة المدنية لم تعلن عن مظاهرة طوال أكثر من ثلاثة أسابيع؛ اللهم إلا مظاهرة واحدة خرجت من مسجد مصطفى محمود في وقت سماح السلطة بالتظاهر، غير ذلك لم نر وقفة احتجاجية واحدة دعت لها أو نظمتها الأحزاب المدنية دعمًا لفلسطين ومقاومتها، وهو أمر غير مفهوم ولا مبرر تحت أي ظرف.
غياب المعارضة استمر أيضًا حتى عن ممارسة أدوار تقليدية كانت تقوم بها على الدوام، مثل تجهيز القوافل المحملة بالغذاء أو الدواء وإرسالها لغزة، حتى مع صعوبة الدخول من المعبر، فإن فعل تجهيز هذه القوافل في حد ذاته كان كافيًا لأن يؤكد أن هناك معارضة حية، كان دور الأحزاب المعارضة هو جمع وتجهيز القوافل وترك أمر دخولها إلى السلطات المختصة عند المعبر.
ربما كان الحدث كبيرًا ومفاجئًا للجميع، لكنَّ المشهد المصري بطرفيه؛ سلطة ومعارضة، كان يمكن أن يبدو في صورة أفضل كثيرًا، بقليل من التنظيم، وبالإصرار على التفاعل مع العدوان بشكل يليق ببلد كبير في المنطقة يستحق أن يكون دوره وموقفه دائمًا معبرًا عن حجمه وتاريخه.