حتى كتابة هذه السطور، بلغت أعداد القتلى الإسرائيليين، جراء عملية "طوفان الأقصى" أكثر من 1000 مستوطن، فيما قفز عدد الضحايا، من الجانب الفلسطيني، إلى أكثر من ستة آلاف شهيد، فضلًا عن الجرحى ومنهم نسبة معتبرة في حالة حرجة، والأسرى من الإسرائيليين الذين يقدِّرهم الإعلام العبري، بما لا يقل عن 130 أسيرًا، فيما تقول حركة المقاومة الإسلامية "حماس" إن عددهم يصل إلى 250 ما بين مدني وعسكري.
المؤكد أن الخسائر في الأرواح مرشحة للارتفاع، إلى حدود مؤلمة، فالحرب لا تزال مشتعلة أوارها، والحديث عن غزو بري إسرائيلي لقطاع غزة، لا ينقطع، فضلًا عن خطط التهجير إلى شبه جزيرة سيناء، وما يقابلها من رفض مصري رسمي وشعبي، في توافق قلما رأيناه، منذ 30 يونيو.
دعوات التهدئة أو قل الدعوات إلى نزع الفتيل، لا تجد صدىً، نظرًا للضغط الثقيل على رئيس الائتلاف الحكومي المتطرف، بنيامين نتنياهو، الذي لا يجد بُدًا عن الرد عسكريًا بقسوة، ذلك على أقل تقديرٍ، لذر الرماد في عيون المعارضة المتربصة، في حين أن حركة حماس لا تستطيع بدورها التخلي عن خيار التصدي، وهو خيار لا علاقة له بثنائية الخطأ والصواب، وجدلية جدوى "طوفان الأقصى" أو خطورتها، لكنها حتميات اللحظة الراهنة، بعد أن سبق السيف العزل.
على أن هناك فارقًا حادًا بين موقف دولة الاحتلال والمقاومة، فالأولى لم تعد العدة للحرب، وهذا ما تؤكده تصريحات المسؤولين الأمنيين في الكيان، ومنها تصريح رئيس جهاز الأمن القومي الإسرائيلي، تساحي هنجبي، قبل أيام من "الطوفان" بأن "حماس مكبوحة جدًا"، في حين أن حركة المقاومة كانت تدرك إذ تشن هجماتها أن فاتورة العملية ستكون فادحة، ومن ثم يفترض أنها تحسبت لها، أو على الأقل وطنت النفس على قبولها.
استراتيجيًا. وبعيدًا عن حجم الخسائر البشرية والمادية، هذا وضع يمنح المقاومة أفضلية نسبية ما، في الصراع العسكري على الأرض، وفي المناورات السياسية كذلك.
ما يتجلى من تمعن ردود فعل المقاومة الفلسطينية، بعد العملية، يفضي إلى أن هناك ما يوحي بالثقة في النفس؛ من حيث التصريحات، ومن حيث التهديدات ثم تنفيذها.
الخسارة الإسرائيلية إذن، لها ظاهر فادح، ولها باطن أكثر فداحة
في حين يجتاح طوفان تخبط موازٍ مراكز صنع القرار في تل أبيب، فإذا بالسياسيين والعسكريين والإعلاميين، يرددون "في نفَس واحد"، مثل أفراد الجوقة "إسرائيل في حرب مفتوحة"، وهو الأمر الذي تبدو فاتورته أفدح من أن يتحملها الاستيطان، رغم استدعاء جنود الاحتياط، ورغم "الشيك الأمريكي العسكري المفتوح" الذي "تبرع به" الرئيس جو بايدن في مؤتمر صحفي، من البيت الأبيض، ورغم ترديده لدى زيارته دولة الاحتلال، الذريعة المعلبة المكررة أن إسرائيل تتصدى لما سماه الإرهاب، وتبريره جريمة قصف المستشفى المعمداني، ذلك من دون أن يستنكف عن التشدق بأن "حماس" ذبحت 40 طفلًا، مستندًا إلى الخبر الذي بثته شبكة سي إن إن، ثم عادت لتعتذر عنه، كونه كاذبًا.
إن المسألة ليست كم شهيدًا فلسطينيًا سيسقط؟ وكم مستوطنًا سيلقى حتفه؟ بل في الخسارة المعنوية التي تبدو أعمق وأخطر من الخسائر في الأرواح، والنزيف الاقتصادي. لنتأمل مشاهد عناصر المقاومة، إذ يهبطون بالمظلات فيحكمون الخناق علي الثكنات العسكرية الإسرائيلية، فيقتادون الأسرى كما يقتاد راعٍ خرافه، وفي الصدارة منهم الجنرال نمرود ألوني، الذي نقلت الشبكات الإخبارية في الشرق والغرب، وكذلك مواقع التواصل المختلفة مشهد "جرجرته" إذ لم يكن يرتدِي إلا ملابسه الداخلية، ونظارته الشمسية، في هيئة رثة وكوميدية في آن.. هذه المشاهد وما نحوها في فسيفساء الصورة الكلية، قد أظهرت رغبة المقاومة وقدرتها معًا، على إذلال جيش الاحتلال و"تجريسه دوليًا".
كما أن تعمد المقاومة توثيق انتصارها إعلاميًا، باحترافية أدهشت العدو والصديق معًا، كلها عوامل في تضافرها وانفصالها، تهزم الروح المعنوية للاستيطان، وترفع معنويات المقاومة، وكذلك معنويات المواطن العربي الذي يرفض التطبيع، ولو بقلبه سرًا، خشية بطشة نظام، لا يقيم لشعبه وزنًا.
الخسارة الإسرائيلية إذن، لها ظاهر فادح، ولها باطن أكثر فداحة، وأغلب الظن أن الإجراءات العسكرية الانتقامية، لن تستطيع تعويضها، مهما كانت فظة وشرسة وعنيفة.
القبة "المثقوبة"
أدخلت دولة الاحتلال القبة الحديدية، إلى منظومة دفاعها الجوي، في النصف الثاني من سنة 2010، ورغم الانتقادات الإسرائيلية الداخلية للمشروع بأنه غير مجدٍ، وباهظ التكلفة، إلى درجة أن تكلفة كل صاروخ معترض تبلغ في المتوسط 40 ألف دولار، رفض المسؤولون العسكريون أن يمنحوا أذنًا صاغية لأحد، وأخذوا يطنطنون بأن القبة ستمثل الوسيلة الناجعة الحاسمة، لصد صواريخ كتائب القسام، قصيرة المدى.
على أن النظام الدفاعي لم يحصد نجاحًا منذ يومه الأول، وكشفت أعمال المقاومة المبكرة عن "خيبته الثقيلة"، فإذا بصواريخ القسام تتجاوزه إلى أهدافها، وإذا بالطائرات المسيرة تحلق فوقه آمنةً مطمئنة، لكن تلك العمليات كانت محدودة النطاق والأهداف، قياسًا بعملية "طوفان الأقصى" التي امتدت جوًا وبحرًا وجوًا.
بعبارة أخرى: إن المقاومة شنت للمرة الأولى، حربًا بالمعنى الحقيقي للحرب، ثمة إنزال مظلي، وسيطرة على ثكنات عسكرية، وصواريخ أصابت أهدافها، وقادة عسكريون في الأسر، كل ذلك رغم بدائية الأسلحة، ورغم أن عدد الذين نفذوا الهجوم، لم يربُ عن بضعة مئات.
على هذا الأساس كان منطقيًا، أن تقرن الذاكرة هنا وهناك، بين العملية وبين العبور المجيد في السادس من أكتوبر، قبل نصف قرن، أو أن يستعيد العرب والإسرائيليون معًا، روح أكتوبر، كنصر مؤزر هنا، وهزيمة مذلة هناك، وكبرهان موثق "صوتًا وصورة"، على قدرة الإنسان العربي على اجتراح المعجزة، وأخيرًا كدليل على هشاشة الداخل الإسرائيلي.
ما يغري بالمقارنة بين السادس من أكتوبر، وطوفان الأقصى، لا يقتصر على اندلاع الثانية في السابع من أكتوبر، وإن كانت هذه دلالة مهمة، فالأهم من ذلك، أن انهيار "القبة" يستدعي مشاهد خط بارليف الذي جعلته خراطيم المياه هباءً منثورًا، في محض دقائق.. هذه واحدة.
مرةً ثانية، تستدعي الذاكرة العربية والإسرائيلية حرب السادس من أكتوبر، وما اكتنفها من فشل استخباراتي للموساد
كما إن العملية بددت الهالات الخرافية بشأن المجتمع الذي يتشكل بأسره من جنود الاحتياط، وأسقطت أسطورة الجيش الإسرائيلي المتفوق، إذ رأى العالم جنوده يخرجون من الدبابات مستسلمين، وهم يرتعشون كفئران في مصيدة، وهذه واحدة ثانية.
ويفتح الانهيار آفاقًا جديدة للمقاومة فكرًا ومنهجًا وفلسفة، وينسف بالتوازي مقولات عواصم عربية تهرول نحو تل أبيب، تحت ذرائع الواقعية، فلا شيء أكثر واقعية ومصداقية من الصور والمواد الفيلمية لتمريغ أنف الاستعلاء الإسرائيلي في التراب.
"لقد زلزلت الأرض زلزالها".. وأميط اللثام عن الحقائق المسكوت عنها أو التي كان مسكوتًا عنها، وأهمها على الإطلاق أن الأنظمة العربية التي تفتقر إلى الشرعية المعنوية في الداخل، ولا تحظى برضا شعوبها، إنما تسعى لستر عوراتها بورقة التطبيع، عبر الانبطاح للعدو.. انبطاح ليس قبله إلا الانبطاح، وليس بعده إلا الانبطاح.
سقوط الموساد
إلى جوار ذلك، ثمة مكسب مادي ومعنوي معًا، ألا وهو أن جهاز الاستخبارات الإسرائيلية "الموساد" ظهر على حقيقته، محض فقاعة إعلامية، دأبت الدعاية العبرية على تضخيمها، فإذا بها تتبدد أو "تُفرقع" أمام سيناريوهات الهزيمة، التي كشفت عن دقة في التخطيط، وبراعة في التنفيذ.
الأمر يفوق الخيال لسوء الحظ، هكذا لخص رئيس الموساد الأسبق، إفرايم هاليفي الفضيحة الإسرائيلية، في تعليقه لشبكة "سي إن إن الأمريكية"، وهناك حديث ما بين الجهر والهمهمة الإعلامية، في الكيان، بشأن الأسباب التي جعلت الجهاز الاستخباراتي الذي يحصل على موازنة مفتوحة، يقف كالخشب المسندة، أمام الهجمة التي يقدر خبراء عسكريون أن الاستعداد لها استغرق ما لا يقل عن شهرين.
مرةً ثانية، تستدعي الذاكرة العربية والإسرائيلية حرب السادس من أكتوبر، وما اكتنفها من فشل استخباراتي للموساد، الذي أفرج مؤخرًا عن وثائق حديثة، كشفت عن أن تقاريره لتقييم الموقف قبيل العبور، جزمت بأن العرب لا يخططون لشن حرب.
سقوط القبة الحديدية، وتعطل قطار التطبيع، وهزيمة الموساد، وافتضاح هشاشة المجتمع الإسرائيلي، كلها مكتسبات حققتها المقاومة الفلسطينية بضربة واحدة، هذا بغض النظر عما ستحمله الأيام المقبلة، من مآسٍ وأحزان.