يقول السيسي: هذه ثورة الوعي الزائف.
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يتكلم فيها عن الوعي. أتذكر أنه قال فقرة مطولة عنه في حوار إبان ترشحه للرئاسة. وأتذكر أنني قلت لنفسي إن هذا الرجل ليس ساذجًا. لا يرتبط الاختلال النفسي بالسذاجة ولا يعنيها.
كل المعارك هي بالطبع معارك وعي، والرجل يدرك هذا جيدًا.
يستخدم السيسي أسلوبًا ماركسيًا، فيما يبدو، حين يستعمل عبارة الوعي الزائف باعتبار أن الأيدولوجيا هي وعي زائف كما قال إنجلز في مرة، بل ويمضي في عبارة مهمة للغاية فيما قاله ليتحدث تحديدًا عن "صياغة المشكلة". صياغة المشكلة هي ما يقود لحلولها المحتملة. وإن كانت صياغة المشكلة زائفة فكل حلولها المحتملة قبض ريح.
بالنسبة للسيسي فإن افتراض أن مشكلة مصر في غياب الحرية والديموقراطية، فالديموقراطية هي الحل. هو صياغة زائفة للمشكلة، بالضبط كما أن افتراض المشكلة في العدالة الاجتماعية الغائبة، فحلول اليسار على اختلاف انواعها هي الحل، كلاهما صياغات خاطئة للمشاكل تؤدي لتعقد المشكلة وليس إلى حلها. بالنسبة للسيسي فإن الديموقراطية جاءت بالإخوان المسلمين، والحلول اليسارية ستؤدي إلى عجز الموازنة.
هذا هو وعي السيسي الحقيقي، كما يراه.
اقرأ أيضًا: رئيس البواقي والفُضل
المسألة تتعقد أكثر لأنك ترى ثوريين ليبراليين فعلًا أيضًا. هناك من الناس من آمنوا بحق بأن يناير هي ثورة ليبرالية من الأساس، وإن استغربت ذلك فأرجو أن تلاحظ تبديل بعض الناس ومنهم البرادعي تعبير "الكرامة الانسانية" بـ"العدالة الاجتماعية" مثلًا. هناك من يجادل أنه إن كانت ثورة يناير هي ثورة ديموقراطية، فهي بالبداهة ثورة ليبرالية هدفها توسيع الحريات والاحتكام للصندوق الانتخابي بلا تغيير ثوري كلاسيكي لطبقات المجتمع ومراكز قوته.
جزء كبير من معركة الوعي هذه ما بين الثوريين هو ما أدى لخسارة المعسكر الثوري لأن الصراع كان كبيرًا ما بين الثوريين الديموقراطيين والثوريين الكلاسيكيين، بلا إرادة سياسية يمكنها احتواء مثل هذا البون الشاسع في الوعي والرؤية واستخدامه في السياسة.
نرى في ما يسمى بـ"النقد الذاتي" انعكاسات حقيقية لما سبق قوله، فيوجه الديموقراطيون اللوم للكلاسيكيين على معركة محمد محمود، ويلوم الكلاسيكيون الديموقراطيين على المسار السياسي. ولا يتذكر أحد أن محمد محمود هي من أزاحت العسكر بشكل جذري من سدة المشهد. وأيضًا لا يتذكر أحد أن المصريين كان مزاجهم الشعبي في إجراء الانتخابات، بلا مؤامرة ولا يحزنون.
هكذا يمكنك أن ترى ثوريين عن حق يؤيدون إجراءات السيسي النيوليبرالية ولكنّ مشكلتهم معه هي مسألة الحريات الفردية، وهكذا أيضًا يمكنك أن ترى ثوريين عن حق مشكلتهم ليست في القمع الأمني ضد "أعداء الوطن" ولكن في تخلي الدولة عن الفقراء.
وفي هذا الخضم، يصف السيسي ما حدث في يناير بالوعي الزائف.
ينطق الرجل بلسانه عن وعي زائف ولكنه، وبأفعاله، يصنع هو وعيه الخاص. وعيه الزائف الخاص الذي يريد أن يفرضه على جموع الناس والأفندية والمثقفين في أول الصف. لا يبدو أن الرجل يؤمن بأن هناك وعي حقيقي أو زائف حتى. كل الوعي هو مصنوع. والوعي الزائف ببساطة هو المهزوم أمام البنادق ثم ماكينات الإعلام، بينما الوعي "الحقيقي" هو الوعي المنتصر. هو رؤية العالم عبر عيني المهيمن. لا ينطلق السيسي هنا من رؤية تفكيكية ناقدة، بل ببساطة بسبب كونه مديرًا سابقا للمخابرات الحربية، ولطالما أدمنت اجهزة المخابرات ممارسة الدعاية.
يملك السيسي السيف، ولكنه يسعى لامتلاك القلم. تدور رصاصاته في الأجواء، ولكنه يفتقد اللسان الزلق. يمكنك أن تتخيل حجم المأساة في دولة متحدثها الإعلامي الأول هو السيسي نفسه. يمكنك قول إن أحمد موسى له أهميته وله جمهوره، لكن أن يكون المتحدث الإعلامي الأعلى هو الجنرال، بكل حوادثه الخطابية، فهو لكرب شديد.
ويبدو أن السيسي يدرك ذلك جيدًا، فتدريب الاشبال الجديدة على فن الخطابة يجري على قدم وساق. والبعثات التدريبية تنتشر هنا وهناك. وجنود الوعي الجديد. البشارة. إعادة تشكيل العالم. إعادة تعريف الأشياء تقوم بالإحماء في مدرجات داخلية وخارجية. يستمر الجهد الجهيد المصري والدولي على أمل أن تحدث في مصر "المعجزة المصرية" مثل المعجزة الشيلية، لنصنع الوعي الجديد في مصر السعيدة ذات الأرقام والإحصاءات الدولية التي يمكن تماما التلاعب بتفسيراتها ومعانيها.
تبدأ المسألة برئيس يحدثك عن وعيك الزائف لتنتهي غالبًا وأنت تمسك الوردة مبتسمًا بينما أنت منزرع في الخراء.
وفي وسط كل هذه الخطط الكبيرة والآمال الشريرة العظيمة، يُعيّن السيسي مهاب مميش رئيسًا لهيئة مشروعات قناة السويس، ويقصي احمد درويش. لكن لا تدع الوعي الزائف يخدعك، أنا الوعي الجديد. وأقول لك كل شيء سيصير على ما يرام. كل شيء سيصير على ما يرام.