أهدي هذا المقال إلى روح، محمد أبوالغيط، الذي لفت نظري إلى التجربة الجامبية، وأظن أنه كتب عنها، وها أنا أقتفيه وفاءً وحبًا واتفاقًا مع ما ارتآه.
مثل ذئبٍ أثخنته الجراح، فأخذ يلعقها، مفزوعًا يعوي من شدة الوجع، يتوارى الرئيس الجامبي السابق، يحيى جامع، خلف الأسوار العالية، بمقر إقامته في منفاه، عاصمة غينيا الاستوائية "مالابو".. وحيدًا يجترُّ خيبته الثقيلة، بعد أن زال سلطانه، فصار نسيًا منسيًا، يتحاشاه حتى "الطبّالون المأجورون"، أولئك الذين كانوا أذنابًا له، يُسبِّحون بحمده بُكرةً وعِشيا، ولم يعد له من متاع الدنيا، إلا اللُقمة يُمرّرها الحُرّاس، الذين يحتقرونه على الأرجح، ولا يرى ولا يكلم من دونهم إنسيًا.
"سبعٌ عجافٌ يا جامع، منذ غادرت السلطة.. آهٍ يا فخامة الرئيس، لا أحد يسأل عنك، أو يأبه بك، حتى زوجتك ذات الأصول المغربية، هجرتك إلى بلادها، وبعدما كانت السجاجيد الحمراء تُبسطُ تحت قدميك، والموسيقى العسكرية تُعزف لك، ها أنت تَرقُب مواقيت وجباتك كحيوان، في الأسر".
ربما تحدثه نفسه بذلك، في أيامه الرتيبة، إذ يتمعن دراما البداية والنهاية، المفعمة قبحًا وبؤسًا وتراجيديا.
صعد نجمه مبكرًا، إذ كان ضابطًا صغيرًا مجهولًا، فقاد انقلابًا غير دموي، عام 1996، وهو لم يبلغ الأربعين بعد، فاستأثر بالسلطة اثنتين وعشرين سنة، من دون مؤهلات، إلا مسدسه الحربي الذي يتدلى في جِراب، من جلد النمور المُرَّقطة، حول خاصرته.
لكن هذا الفارغ الأجوف، الذي بدت عليه أمارات الاضطراب الذهني، إلى درجة حدت بمعارضيه لاحقًا، إلى تلقيبه بقذافي القارة السمراء، صار طاووسًا منفوشًا، وسفاحًا عتيدًا، ووحشًا جارحًا، وشيخَ منسرٍ، متى تقلّد السلطة.
ادعى أن أبحاثه على النباتات العشبية، أفضت إلى اكتشافه علاجًا باتًا، لفيروس نقص المناعة المكتسب "الإيدز"، فأقام مستعمرة فأودع فيها تسعة آلاف مريض، ليُخضِعهم لبرنامجه الاستشفائي، فيما عدسات التليفزيونات المحلية، تبث مراحل العلاج، من دون موافقتهم، وبغير مراعاة للأخلاقيات الطبية، ثم أعلن أن بلاده إسلامية، ليقوي قبضته الباطشة.
الديكتاتور المُلهَم
إن الديكتاتوريات تحتاج عضدًا من الدين، هكذا جرت العادة، ساقته هلاوس سمعية وبصرية، إلى أن يقول "إن الله قد أعطاني السلطان، ووحده يمكنه نزعه مني"، والأغرب من ذلك أنه صرَّح ذات مرة، بأنه سيحكم مليار سنة، إن أراد الله. كما لو كانت أبحاثه تلك، ستحقق له الخلود، إلى يوم يُبعثون.
هكذا.. كان جامع بحقٍ، ديكتاتورًا مثاليًا نموذجيًا، هزليًا تافهًا ودمويًا، تنطبق عليه كلمات شاعرنا الكبير، نزار قباني "في حارتِنا ثمةُ ديكٌ أميٌ يرؤسُ إحدى الميليشياتْ/ لم يتعلم إلا الغزوَ وإلا الفتكَ وإلا زرعَ حشيشِ الكيفِ.. وتزويرَ العمُلاتْ/ في حارتِنا ديكٌ كلُّ مواهبِهِ أن يُطلقَ نارَ مُسدسِهِ الحربيِّ على رأسِ الكلماتْ".
بعد انقلابه العسكري، على داودا جاوارا، تولى رئاسة مجلس الحكم المؤقت، وأدار الأمور لعامين، وخلالهما طارد "فلول العصر البائد"، حتى استأصل شأفتهم، ولمّا حانت الانتخابات خاضها ففاز بأغلبية طفيفة، وقال مراقبون وقتها إنها كانت نزيهة، وإن لم تخلُ من ثغرات، ثم أعيد انتخابه ثلاث مرات، لم تعرف إلى النزاهة سبيلًا.
في فترته الرئاسية الأولى، استحوذ جامع بوتيرة نهمة، على مفاصل اتخاذ القرار، عبر القمع الوحشي، واصطناع نخبة من الفاسدين المستفيدين، ممن كانوا على استعداد للذود عنه، بمنتهى الضراوة، وفق قاعدة أن المصالح تتصالح.
وكان تعديل الدستور، بما يتيح للرئيس التحكم في القضاء، كخيوط عرائس الماريونيت، الخطوة الأكثر محورية، في مسيرته نحو "استرقاق الدولة الجامبية"، إذ صار بمقتضى التعديلات، المسؤول وحده دون منازع، عن تعيين وإنهاء خدمات القضاة، فعمد إلى استقطابهم من دول الكومنولث، بعقود ذات امتيازات استثنائية، فاستحالوا عصاه الغليظة التي تُكسّر عظام مناوئيه، وبالتوازي مع ذلك، تربص بالصحافة، فاعتقل كُتّابًا، وأغلق محطات إذاعية، وأرغم مستثمرين على بيع مؤسسات صحفية، إلى رجال الأعمال المقربين، فحوّلوها إلى أبواق تُزَمِّر لفلتة الزمان، حكيم العصر، فيلسوف الأوان، الحاكم بأمر الله، وأيضًا مكتشف علاج الإيدز.
أما وسائل الإعلام التي لم تنصع له، مثل راديو 1 إف إم، فبلعتها الحرائق، التي أرجعتها تقارير اللجان الفنية، إلى ماسٍ كهربائي، وكم من جرائم يقترفها ذاك الماس اللئيم، في بلدان الصوت الواحد.
جرائم تلو أخرى
"أي شخص يُعكِّر صفو الاستقرار، ينبغي أن يُدفن، على عمق ستة أقدام".. ذاك تصريح أطلقه القامع بأمره، ذات لقاء مع رؤساء تحرير، والمعروف بداهةً في الأنظمة السلطوية، أن الاستقرار لا يعني شيئًا، إلا استقرار مؤخرة الحاكم على كرسيه الوثير، إن الديمقراطية هي ديمومة الكراسي، كما كان الأخ العقيد الليبي يقول!
وفي أبريل/نيسان 2005، توعد الطاغية الصحفيين بغير مواربة "إما أن تنصاعوا لي، إما أن تستوطنوا الجحيم"، وطبيعي ألا يهاب الشرفاء الوعيد، فيعضوا على حريتهم بالنواجذ، وهؤلاء نُكِّل بهم جنائيًا، جراء جرائم ضبابية، على غرار التحريض على الفتنة.
فيما لقي آخرون مصيرًا أشد وحشية، إذ تكبدوا ثمن اعتصامهم بحبل الحرية، من دمائهم المراقة، ومنهم ديدا هيدرا، محرر ذا بوينت، الذي أعلن نيته الطعن على قوانين المستبد، فأُسِكت للأبد برصاصة، وهو يقود سيارته، إلى منزله في العاصمة بانجول. وقد قُيِّدت الجريمة ضد مجهول بالطبع.
كما اعتقلت قوات الأمن إبريما مانه، محرر ذي ديلي أوبزرفر، لنشره تقريرًا لم يحرره هو، بل نقله عن هيئة الإذاعة البريطانية.
وبعد اعتقاله تبخّر الرجل، ولم يبدِ نظام جامع استجابة لمناشدات دول غرب إفريقيا، أو دعوات منظمة العفو الدولية، إطلاق سراحه، بل إن وزير داخليته، صرَّح بأنه ليس مسجونًا من الأصل، وقال مصدر في الشرطة، إنه يعتقد أنه "لم يعد على قيد الحياة".
وعلى النحو ذاته، أوغل جامع في سفك دماء معارضيه، من غير الصحفيين، وطاش جنونًا بعد وفاة إحدى عماته، فألقى باللائمةِ على السحر الأسود، فإذا بالمعارضين يتساقطون برصاصة غادرة، أو طعنة في الظلام، أو جرعة سم في قدح ما، أو حادث سيارة، ذلك أنهم "سحرة أشرار" والإسلام يُحرّم السحر، "ولا يُفلح الساحرُ حيث أتى"، وجامبيا إسلامية، والله أكبر ولله الحمد.
وبلغت جرائم جامع من الكثرة والوحشية معًا، حد أن معرضًا أقيم العام الماضي لتوثيقها، تحت عنوان "دار الذاكرة"، وتضمن صورًا لعديد من الضحايا الذين لم يقترفوا ذنبًا، إلا الجهر برفض سياساته، ومنهم رجل الأعمال سول نداو، والذي كشفت التحقيقات مع قادة ميليشيات "غزاة الأدغال"، عن أن الديكتاتور، أمر بخطفه من السنغال، ثم تعذيبه فقتله فدفنه، في مزرعة كاجو كان يملكها في جامبيا.
ورغم قراراته حظر ختان الإناث، ومنعه تزويج القاصرات، وسنه تشريعًا يُغلِظ العقوبة حتى السجن عشرين عامًا، لمن يأتي ذلك، لم يكن الطاغية، في حياته الشخصية، مؤمنًا بكرامة المرأة، بل كان شهوانيًا غريزيًا، فاسد السريرة، حتى إن ملكة جمال جامبيا السابقة، فاتو جالو اتهمته باغتصابها، وذلك في شهادة أمام منظمتي هيومن رايتس واتش، وتريل إنترناشونال.
أما المشهد الدرامي الأكثر بربرية، فتجسّد فيما تعارف عليه باسم مذبحة الطلبة، والتي أنهت بالرصاص الحي، حيوات ستة عشرة مراهقًا بريئًا، لم يرتكبوا إثمًا إلا الاحتجاج سلميًا، على اغتيال زميل لهم، على يد قوات الشرطة.
بدأت المأساة إثر خلاف، بين معلم وطالب يدعى باري، فاستدعى الأول رجال الأمن، فاقتادوا الفتى إلى المخفر، وهناك أرادوا تلقينه درسًا، فدسوا الأسمنت طريًا في فمه، وأجبروه على ابتلاعه، وجردوه ملابسه، وحلقوا رأسه، وصعقوه مرةً تلو مرة، ثم ألقوه أمام بيته، لتفيض روحه بعد سويعات، ثم "طبخت" المشرحة تقريرها "مات لأسباب طبيعية"، وبذلك حظي سبعة من القتلة بالبراءة، لأنهم ببساطة من رجال الشرطة.
بالتزامن مع الجريمة المروعة، اغتصب ضابط آخر طفلة، في الثالثة عشرة من عمرها، ورغم أن تقريرًا طبيًا رسميًا، أقر بتعرض الفتاة لهتك عرض وحشي، لم تسعَ السلطات لمحاسبة "سيادة المغتصب"، بل إن جهات التحقيق، استنكفت عن تنفيذ طلب محامي ذوي الفتاة، مواجهتها بالجاني للتعرف عليه.
نهاية عزبة "جامع"
وهكذا، صارت جامبيا "عزبة" للرجل الرهيب، الذي طبع صورته على العملة النقدية "دلاسي"، في الذكرى العشرين لجثومه على صدر البلاد والعباد، وكأنه الأخ الكبير في رواية جورج أوريل 1984.
يفعل ما يريد، متى يريد، كما يريد. القضاء يحركه بأطراف بنانه، والصحافة مقموعة مقطوعة اللسان، والشرطة لا تبطش بالمعارضة السياسية فحسب، بل بعوام الناس أيضًا.
إنها جمهورية خوف، وإنه لجحيمٌ مستعر يصطليه الجميع، ولا عجب، فمع "السلطة المطلقة" تؤول شؤون السياسة والحياة، دائمًا وأبدًا، إلى "المفسدة المطلقة".
في هذا المناخ المرعب، قرر آداما بارو، الترشح في الانتخابات، عام 2017، مُمثلًا عن فصائل المعارضة، وهو الأمر الذي قوبل باستخفاف من جامع، فمن ذا الذي بوسعه أن ينزعه الحكم الذي منحه الله إياه؟ سيحكم مليار سنة.
ورغم أن المنطق كان يؤكد تهافت فرص بارو، ورغم تحالف الدولة العميقة والفاسدين ضده، سعى العوام المقهورون، زرافاتٍ ووحدانًا، إلى صناديق الاقتراع، وصوتوا بكثافة لصالحه، ما زاد من صعوبة عمليات التزوير المعهودة، في مثل هذه الحالات.
وفي الثاني من ديسمبر/كانون الأول، أعلنت الهيئة العليا للانتخابات، فوز بارو، وبعده اعترف قائد الجيش به، قائدًا أعلى للقوات المسلحة، وعقب مماطلة أقر الديكتاتور بالهزيمة، وشرع يفاوض على خروجه آمنًا، وهو الأمر الذي انتزعه، عبر وساطة موريتانية، وسرعان ما سرق من أموال الشعب، ما استطاع إليه وصولًا، ثم ولى الأدبار تلاحقه اللعنات، والدعاوى القضائية.
لقد حدث التغيير سلميًا إذن، من دون قطرة دم واحدة، وبعده شرعت لجان تقصي الحقائق، تستقي شهادات أعوان الطاغية، الذين ألحقوا به العار والشنار، وحمّلوه الموبقات كلها، حتى ينجوا برؤوسهم، فإذا بالمحكمة تصادر ممتلكاته، وتعرض أسطول طائراته الرئاسية، وسياراته الـرولز رويس للبيع، بغية إنقاذ ما يمكن إنقاذه، من البلاد المستنزفة اقتصاديًا.
وهكذا أثبت الدرس الجامبي أن "الأماني ممكنة"، وأن الفعل السياسي الإيجابي، إن لم يؤتِ ثماره في التو، سيصنع لا محالة في جدار الديكتاتورية ثغرة بعد ثغرة، حتى يصير هذا الجدار كالعصف المأكول.. وذلك فقط إذا الشعب يومًا أراد الحياة.