السينما من حيث طبيعتها وتاريخها، هي الفن الذي تلعب فيه فكرة الازدواج أو القرين دورًا رئيسيًا، لأنها فكرة لازمة لمادية السينما وأصلها، ولعل هذا ما جعل قصص الشبيه والقرين تنتشر عبر تاريخ السينما، لا سيما في عقودها الأولى، سواء كان القرين هو الشبيه بالبطل أو نقيضه.
والشخصيات السينمائية تتفاعل وكأنها معادلات لأنماط إنسانية موجودة في الحياة أو معادلات لشخصيات بعينها، وكثير منها تظهر في ثنائيات كأن تتشابه شخصيتان أو تتناقضان. الإخوة في الحياة وفي قصص الأفلام وفي عالم صناعة السينما الكلاسيكية المصرية والعالمية أيضًا قد يتشابهون وقد يكون أحدهم على طرف النقيض من الآخر.
فضلًا عن أنهم في الصناعة، كانوا أساسًا قام عليه عصرها الذهبي، فالإخوة ذو الفقار، مثلًا، أقوى مثال على تولي سلسلة من الأشقاء أعباء هامة في بناء وإثراء صناعة السينما، فمحمود كان نجمًا ومخرجًا وكاتب سيناريو مهمًا، وأخوه عز الدين كان مخرجا لامعًا، وثالثهما صلاح نجمًا كبيرًا.
ومن بين تلك الثنائيات والثلاثيات العائلية الكثيرة، يبرز اسما سراج منير وأخيه المخرج فطين عبد الوهاب كأحد الأمثلة الناجحة لذلك النموذج.
سراج فطين
عمل فطين عبد الوهاب أكثر من مرة مع أخيه سراج منير، ومثلا فريق عمل ناجح. يذكر المتفرج الذي تمتعه كلاسيكيات الكوميديا المصرية فيلم نهارك سعيد (1955) من إخراج فطين وبطولة منير مراد، ودور محوري أداه سراج في دور الأب المتحكم.
وبخلاف ذلك العمل، تعاون الشقيقان معًا في أفلام أخرى لم يبرز فيها دور سراج كثيرًا، مثلما في فيلم الغريب (1956) الذي اشترك في إخراجه كل من فطين عبد الوهاب وكمال الشيخ، وفيلم نساء في حياتي (1957) من إخراج فطين، ولعب سراج في الفيلمين دورًا صغيرًا: أب لفتى أول في "الغريب" وزوج متقدم في العمر لزوجة شابة في "نساء في حياتي".
لكن الفيلم الوحيد الذي أذكره وأخرجه فطين عبد الوهاب وقام ببطولته الأولى شقيقه سراج هو حكم قراقوش (1953)، الذي عرض بعد تسعة أشهر فقط من ثورة يوليو 1952، وتحديدًا في نهاية شهر أبريل/نيسان 1953. وهو ما أود التوقف أمامه بمزيد من التفصيل، حيث يبلور فكرة القرين في أكثر من صورة.
يمتلئ الفيلم بالثنائيات: ثنائية الفريق المكون من شقيقين، وثنائية إسقاط الفيلم الخيالي على الواقع السياسي، وثنائية بطل الفيلم الذي يعادل البطل التاريخي المعاصر لإنتاجه.
يكفي أن شخصية الوزير، بطل فيلم حكم قراقوش، التي يلعبها سراج منير، اسمها "ناصر". نعم هكذا بكل بساطة وصراحة، بعد وصول الضباط الأحرار للحكم بأشهر قليلة.
في الفيلم، قراقوش هو السلطان، بينما كان، في الواقع التاريخي، وزيرًا، وهو ما يعادل اليوم منصب رئيس الوزراء. وتاريخيًا، كان قراقوش أو "قرة قوش" وزيرًا في العصر الأيوبي، لا سيما لصلاح الدين وخلفائه، حتى إنه يعزو إليه الإشراف على بناء قلعة صلاح الدين.
أما في فيلم حكم قراقوش، فتدور الأحداث في جو العصور الوسطى المملوكي المتخيل الذي خلقته السينما وصار جزءًا من الخيال الجمعي، كما نراه مثلًا في فيلمي أمير الانتقام وأمير الدهاء لبركات. في فيلم حكم قراقوش، الوزير الذي يلعب دوره سراج منير، يسيطر على الجيش وينقلب على السلطان الظالم.
لا يبدو أن فطين التفت إلى تلك المفارقة، التي تبدو لنا اليوم إقرارًا بأن ناصر في الفيلم (سراج منير) مثل ناصر في الواقع المعاصر للفيلم دبر انقلابًا، وربما لم تكن المفارقة مهمة عام 1953، نظرًا للتأييد الشعبي الكبير لحركة الضباط الأحرار التي انقلبت على الملك وقتها.
قراقوش وفاروق ونجيب
لكن ثنائية سراج منير/جمال عبد الناصر تلك تؤكد تداخل عالم السينما مع عالم مؤسسات الدولة في ثنائية إضافية الجيش/القصر، أو بالتحديد، هي تصور الفن لمؤسسات الحكم الرشيد بين طرفي تلك الثنائية: من الأجدر والأوفق في الحكم؟ الجيش الذي لم يعد مجرد مؤسسة من المؤسسات التي يسيطر عليها الملك، أم القصر، بوصفه مؤسسة تحمل شرعية تاريخية؟
فكأن فيلم حكم قراقوش يقدم سابقة تاريخية، وقعت في عصور وسطى متخيلة، لقائد عسكري يستولي على السلطة ليخلص البلاد من فساد السلطان وليحكم بعده بالعدل، مقدمًا بذلك تبريرًا لحركة ناصر السياسية ومضفيًا على إزاحتها للقصر مشروعية أخلاقية و"تاريخية"، تطاول الشرعية التاريخية التي تأسس عليها حكم فاروق، باعتباره وريث عرش جلس عليه جده الأكبر وأجداده من بعده، لقرن ونصف.
من المثير أيضًا أن حكم قراقوش عُرض في لحظة لم يكن فيها الصراع بين ناصر ونجيب قد حسم، ولم يكن ناصر قد أطاح بعد بالأخير، وهو ما تم له في العام التالي لعرض الفيلم. وكأن حبكة النص تشير إلى إطاحة ناصر بالملك فاروق وتستشرف إطاحته بالرئيس محمد نجيب.
الفيلم من إنتاج أفلام سراج منير، ولا ينكر تعاون القوات المسلحة مع الشركة لإخراجه. بل إن أول لقطة فيه مكتوب عليها "تتقدم أفلام سراج منير بعظيم الشكر إلى إدارة الشؤون العامة للقوات المسلحة"، وهي المعادل لمؤسسة الشؤون المعنوية اليوم، وتنتهي اللوحة بأول شعار أطلقته حركة يوليو "الاتحاد والنظام والعمل"، وكأنه توقيع.
رغم النبرة الشوفينية في خطاب الفيلم، التي تشير من طرف خفي إلى فكرة المصريين "الأصليين" في مقابل غير المصريين من الحكام الدخلاء، فإن البطولة النسائية كانت من نصيب نور الهدى لبنانية الأصل، والمولودة بتركيا، إذ لم يكن المد القومي القُطري قد تصاعد بعد، فكان النظام يعتبر الشوام المصريين مثلها جزءًا من المجتمع، غير مشكوك في مصريتهم. لكن الفيلم قدم نموذجًا مبكرًا لثنائية عزيزة على الخطاب القومي القطري: المصري "الأصلي" في مقابل الأجنبي الوافد المقيم في مصر، والمتحالف مع الطبقة الحاكمة.
فعلى حين كانت شخصية ناصر الذي يلعبها سراج منير تمثل المصري الأصيل، فإن مكياج زكي رستم في دور قراقوش يجعل منه مغوليًا آسيويًا وفقًا للكليشيهات العنصرية الدارجة وقتها. بهذا يؤكد الفيلم أصوله التركية، لأن كثيرًا من القبائل التركية في وسط آسيا كان أفرادها يحملون ملامح آسيوية تقترب من كليشيه الملامح المغولية.
المهم في منطق "حكم قراقوش" أن السلطان كان غريبًا على البلاد، والحقيقة التاريخية أن قرة قوش وزير صلاح الدين كان بالفعل من أصول تركية. وتلك التيمة، حول كون فاروق وأسرته ونخبته الحاكمة محتلين أتراك، تحررت البلاد منهم على يد قائد المصريين الأصليين ناصر، هي تيمة عزيزة لدى الخطاب القومي وصارت غالبة في الستينات بالذات.
ناصر شجيع السيما
بعد نزول تترات الفيلم على صورة ثابتة لرجل أسود عاري الصدر يتعرض للجلد على يد عسكري، تظهر لوحات ثانية تتحدث عن قِدم ظاهرة الظلم وثورة الشعوب عليها عبر التاريخ، وهو استخدام مبكر لتعبير "الثورة" التي كانت تسمى في بداياتها حركة الجيش أو الحركة المباركة.
وتهيئ اللوحة المشهد لبداية الحكاية بالإشارة إلى أن الشعوب الكريمة تصبر على الظلم "حتى يهيئ لها الله من بين أبنائها رجالًا لا يقبلون الضيم ولا يخدعون بوعد (...) يتولون قيادتها لاسترداد حريتها وإصلاح ما أفسده المفسدون".
مرة أخرى، يقدم الفيلم صيغة مبكرة لفكرة النخبة الوطنية بين الضباط التي تتولى قيادة البلاد لتحقيق آمال الناس في الحرية والحياة الكريمة، ولفكرة توليهم تلك المسؤولية بإرادة إلهية، وهذه صيغ خطابية مؤسسة لخطاب نظام التحرر الوطني منذ يوليو 1952. وكأن فيلم حكم قراقوش يحتوي بشكل مكثف على كبسولات طورت فيما بعد في الخطاب القومي لدولة التحرر الوطني.
من اللافت للنظر أن الفيلم يبدأ برجل عارٍ واقف، مربوط إلى قائم ويتعرض للتعذيب، وقرب ختامه، نرى ناصر/سراج منير أيضًا عاريًا، مقيدًا بسلاسل، لكن راقدًا على طاولة تعذيب في سجن شديد الحراسة. شتان بين الرجلين. الأسمر الذي من ملح الأرض لا نرى له وجهًا، فهو تجسيد الضحية التي لا حيلة لها والتي تتلقى التعذيب ولا نعرف عنها سوى دورها كضحية. بينما ناصر في ذلك المشهد الذي يقع قبل تحرك الجيش بساعات للإطاحة بالسلطان الظالم، هو القائد الجريح، مطروح على مائدة، لكنه صلب، كأنه يجمع بين دور المسيح المصلوب، والقائد القوي المنتصر.
يقهقه سراج منير/ناصر عندما يزيد السلطان قراقوش/زكي رستم من ضغط السلاسل على جسده ليزيده ألمًا، ويجادل السلطان بكل صلابة وثبات، وبكل ثقة في أنه على حق وأنه سوف ينتصر.
كان أول ظهور لفكرة تمرد الجيش بقيادة قائده وإزاحته لسلطان فاسد على شاشة السينما، وقع في فيلم لاشين من إخراج فريتز كرامب عام 1937، أي قبل يوليو 1952 بخمسة عشر سنة، وكأن السينما -مرة أخرى- تتنبأ بالمستقبل. لكننا في لاشين نرى ثورة شعبية يقودها البطل وجنوده جزء منها، بل إن الشعب هو الذي يهاجم السجن الذي احتجز فيه لاشين، وبعد تحرير القائد ينضم على رأس جنوده إلى الجموع الثائرة. أما في فيلم قراقوش فالمشاهد يتابع تفاصيل تدبير خفي سري يقوده ناصر، يتوج بتحرك الجنود لإزاحة السلطان الفاسد الطاغية، وبعدها يخرج الشعب لدعمه، وهو السيناريو الذي وقع بالفعل في يوليو!