حين تلقيت دعوة من معهد جوته بالقاهرة لحضور افتتاح تجربة الواقع الافتراضي تحت عنوان "المكتبة اللانهائية"، تصورت أن الأمر متعلق بتجربة فنية تحمل تصورًا لمستقبل المكتبات في العالم، وكيف يمكن أن تتحول الكتب إلى ما يشبه ألعاب الفيديو، لكن ما شاهدته كان مختلفًا تمامًا.
كنت إزاء تجربة فنية وفلسفية أكبر من مجرد تحول من وسيط لآخر، فالمخرج والموسيقي الأمريكي مايكا جونسون، المدير الإبداعي "للمكتبة اللانهائية" وفنان الوسائط المتعددة، لم يجد أهمية لنقل الكتب عبر العقل الاصطناعي، فهي متاحة فعلًا في المكتبات الواقعية، لكنه أراد أن يحكي عن قصة تطور المعرفة على كوكب الأرض.
كانت رغبة جونسون تقديم عمل يجسد إجابة سؤاله الافتراضي: ماذا لو أن هناك ذكاءً اصطناعيًا يعبر عن كل عناصر الطبيعة، التي لا تملك التعبير عن نفسها بلغة نفهمها؟ ماذا إن كان في إمكانه التواصل مع كل شيء في العالم مثل النباتات والحيوانات على سبيل المثال؟ وللإجابة على أسئلة المعرفة والوجود وأصله وإمكانية استمراره، لجأ إلى عناصر من الواقع الافتراضي ووسائط مختلفة ليسرد قصته.
داخل الكهف تحت ضوء القمر
وقفتُ على رمال منثورة في وسط مساحة مخصصة للتجربة، لتمنح الزائر شعورًا بوجوده داخل الكهف الذي يواجهه حين يضع نظارة العالم الافتراضي، فيجد نفسه داخل ما يُمثل حياة ما قبل الحضارات الإنسانية، ما قبل الوجود ذاته، تتناثر حوله برك الماء، ويُضيء له القمر.
أحاول لمس إحدى البرك المنتشرة عبر حركات الذراع بعصا أحملها كأنها من النار، لأنفذ إلى عالم آخر من ثلاث عوالم اختارهم مصمم ذلك الواقع، يمثلون حضارات إنسانية مختلفة، تملك أنظمة معرفية خاصة: مكتبة العناصر "الكيمياء الأوروبية"، ومكتبة الملاحة "الملاحة البولينيزية"، ومكتبة الظلال "فن مسرح العرائس في الهند"، ولا يستبعد جونسون إضافة عناصر أخرى من الحضارة المصرية القديمة على سبيل المثال، لاستكمال رحلة الحضارات، فهو يرى أن التجربة ما زالت قابلة للتطوير.
في تقديم مكتبة العناصر المُكرسة لكيمياء العصور الوسطى الأوروبية، التي تعرض المراحل الثلاث من التحولات الكيميائية، يؤكد أنه لا يوجد تعريف واحد بسيط للكيمياء التي نشأت وتطورت بأشكال مختلفة، ولا ترتبط ببعضها البعض، في الهند والصين والعالم العربي وأوروبا.
ببساطة، هي ليست سوى شكل من أشكال الفن وممارسة عملية تتعامل مع الطبيعة وتحولاتها، إذ ترجع جذور الكيمياء إلى عصر ما قبل الأدب، لتنقل المعارف من خلال الرموز والأحلام والطقوس ثم المخطوطات لاحقًا.
ويضيف في المنشور الخاص بالتجربة "يعد الانشغال بالكيمياء اليوم من الأمور الصعبة؛ لأنها تتعارض مع النظرة العلمية للعالم التي تفترض أن المادة والكون ميتان، بينما كانت المادة والكون يعتبران أثناء معظم تاريخ البشرية أحياء، وكان استخراج المواد الخام وتحويلها إلى معادن ممارسة مقدسة، أما اليوم فقد باتت المعادن وأهميتها أمرًا مفروغًا منه، فنحن لن نعتبر هاتفنا الجوال على سبيل المثال المصنوع من المعادن جهازًا مقدسًا يرتبط بالكوكب وتاريخه، كما لن نعتبر مكتبتي التي تعتمد على الإنترنت بكابلاتها المعدنية التي تمتد لمئات الملايين من الأميال عبر المحيطات والقارات حضورًا إلهيًا، بينما أصحاب الحضارات القديمة كانوا يربطون حياتهم وأدواتهم واستخداماتها بتلك الجوانب الروحية".
تعرض مكتبة الظلال عرائس ظل من الملحمة الهندوسية الشعبية سامودرا مانثان، التي تحكي قصة الصراع الأبدي بين الآلهة الديفا والشياطين الأسورا، تجربة من الواقع الافتراضي تتناول ما يسمى بـ"توجالا وجوممبياتا"، وهو شكل من أشكال الفن القديم وتقليد شعبي حي نشأ في الهند.
أما مكتبة الملاحة، أو الملاحة البولينيزية تحديدًا، حيث طورت مجموعة من البحارة الذين غزوا أكبر محيطات العالم منذ 3000 سنة نظامًا معرفيًا، وطوروا قدرتهم على قراءة الشمس والنجوم والرياح والطيور والأسماك. واستخدموا تقاليد شفهية لتشفير معارفهم ونقلها، وهو ما عده القائمون على التجربة إنجازًا لا يقل عن الاختراعات العظيمة للثورة الصناعية.
والسؤال هنا؛ كيف أنجز البشر الأوائل حركات الهجرة غير العادية، واستقروا في مساحات شاسعة من المحيطات دون خرائط أو بوصلات أو كتابة أو أدوات معدنية؟ الزائر يقود السفينة البولينيزية ويتجنب العقبات في طريقه في محيط شاسع حتى الإظلام.
لم أكن زائرة موفقة في عبور الطرق إلى المكتبات، لكن جونسون يشير إلى أهمية التجربة أكثر من مرة لتحقيق التفاعل الأمثل.
من دلهي إلى القاهرة
يهتم جونسون بمجالات متعددة، فقد درس علوم دينية وروحانيات في أوهايو، وسافر إلى بلاد مختلفة بحثًا عن المعرفة، ثم عاد إلى أوهايو ودرس مع قبائل لاكوتا، التي تعد من أهم قبائل السكان الأصليين في أمريكا، عاداتهم وتقاليدهم واحتفالاتهم وطقوسهم الدينية، كما درس ديانات مختلفة، ودرس كذلك ما يتعلق بالتنوع البيئي ودلالات أصوات الطيور والنباتات وغير ذلك، إلى جانب دراسته لصناعة الأفلام.
وشارك مايكا في صناعة 20 فيلمًا ما بين الروائي والوثائقي، وأثناء تدريسه لصناعة الأفلام في براج، عرض عليه أحد طلابه تجربة الواقع الافتراضي فانبهر بها، وبدأت رحلته مع ذلك الوسيط.
وله تجربتان سابقتان مع الواقع الافتراضي، إحداهما بعنوان "إليوس" نفذها أثناء كوفيد-19، والأخرى مستوحاة من رواية "المسخ" لفرانز كافكا، التي يفتخر بأن ميزانيتها كانت بسيطة، ومع ذلك حققت نجاحًا كبيرًا وعُرضت في 50 مدينة حول العالم. وهو ما لفت نظر معهد جوته إلى قدرة الواقع الافتراضي على حكي القصص المؤثرة.
كان ذلك أثناء جولته مع فيلمه في الهند، وفكر في تلك الأثناء في إعداد قصة بورخيس مكتبة بابل، لكن "جوته" أراد أن تتم معالجة فكرة المكتبة الافتراضية بطريقة أخرى، فاستغل كل تلك الطبقات المعرفية التي شغلته خلال سفره ودراسته وعمله في تجربته بشكلها الأخير.
قدم التجربة بداية سبتمبر/أيلول بالقاهرة بعد عامين من العمل مع فريق مكون من 20 شخصًا، على رأسهم المخرجة ومصممة العرائس أنوروبا روي، وهي مؤسسة فرقة مسرح عرائس كاتكاتا بابيت أرت تراست، في مدينة دلهي، وجاكوب هلافاتشيك، الحاصل على الدكتوراة في الأدب ومدير دار نشر مالفن، والمتخصص في كيمياء العصور الوسطى الأوروبية، والأكاديمية والمحررة كريستينا تومبسون، ولها كتاب عن تاريخ البحرية البولينيزية حصل على عدة جوائز أدبية.
يقول ميكا لـ المنصة "أهتم بالأدب وانتشار المعرفة، وإخبار العالم بالقصص، والتعريف باختلاف المكتبة الافتراضية عن غيرها، كيف نمزج بين الواقع الافتراضي والمكتبة؟ لن ندخل للواقع الافتراضي لنقرأ كتب، لكن نقدم العلم عن طريق الحكي مثلما فعلنا في الأمثلة الثلاثة المقدمة في التجربة".
الذكاء الاصطناعي يكتب التاريخ
خلال ورشة أقيمت لمدة يوم واحد على هامش العرض، قدم ميكا تصورًا لمفهومه عن المكتبة، التي يرى أنها ليست فقط مكانًا يضم الكتب، وإنما كل بيئة طبيعية تشكل مكتبة بما تقدمه من منظومة معرفية. وفي حين يمر العالم بتأثرات مناخية تعرض تلك البيئة للهلاك، فإن ذلك الشكل من المكتبة ربما يفنى قبل شكلها التقليدي العادي.
يقول جونسون لـ ـالمنصة "أعتقد أن كل ما يُهمنا الآن هو عبور هذه الكارثة التي تعيشها البشرية، فكل ما نفعله يقودنا إلى مزيد من الكوارث الطبيعية وانعدام التوازن البيئي، مما سيؤدي إلى اختفاء البشرية إن لم ننتبه. علينا التعامل مع الطبيعة والمناخ بجدية وإلا ستنهار الحضارة الإنسانية ومستقبل المكتبات مرتبط بكل ذلك".
كان الحوار يقودنا نحو الخيال/الواقع المستقبلي، ويطرح سؤالًا عن قدرة البشرية على الاستمرار رغم كل شيء، وهو ما أجاب عنه جونسون قائلًا "لا أستطيع أن أتخيل ولكن عندي آمال. كل الكوارث التي تحدث في العالم لا تُنذر بخير، والبشر هم السبب في ذلك. لكن إذا حدث فأعتقد أن المكتبات سوف تمزج بالذكاء الاصطناعي، وسوف يصبح هو المسيطر على القصص المروية، وأعظم حكاء في العالم لأنه سيستطيع الحكي لكل شخص بالأسلوب الذي يناسبه، ولديه القدرة على نشر المعرفة. الذكاء الاصطناعي سيسهل الوصول للعلم، كمشارك، وحامل لتاريخ البشرية وعلمها".
أن تنتقل وظيفة سرد التاريخ وكتابته للذكاء الاصطناعي في حد ذاته أمر مقلق، سواءً ظهر ذلك بسيناريو إيجابي أو مدمر، لكن مايكا يرى أن"الذكاء الاصطناعي لو بقي كجزء من القوة المحركة للحياة واتخاذ القرار، سيعمل على إيجاد مستقبل لوجوده، وبالتالي لن يسمح لنا باستخدام وسائل التكنولوجيا والرفاهية التي تسبب الإضرار بالكوكب".
ولكن ماذا لو ساد الأرض مثلما ساد الإنسان، فما الذي يضمن تحقيق التوازن؟ يجيب المخرج "أنا غير قلق ومتوافق مع فكرة أن يكون العقل الاصطناعي فوق البشر، لأن البشر لن يغيروا طريقتهم في تدمير الكوكب. خلال عشرة آلاف عام؛ لم يحدث أن اتجهت البشرية ونظامهما الاجتماعي والسياسي إلى إعطاء الفرد حقه وحريته".
ويضيف "ما يحدث من السياسيين الفاسدين في أمريكا لم يتغير منذ نظام الحكم في اليونان القديمة. ظل الفساد في النظام السياسي قائمًا عبر التاريخ. أنا مؤمن أن البشر يستخدمون الحروب والفساد للحفاظ على قوتهم لكن العقل الاصطناعي لن يفعل ذلك".
وحول طبيعة العلاقة المتوقعة، يقول جونسون "أعتقد أن العلاقة ستكون متبادلة النفع، والطرفان سيعتمدان على بعضهما لكي تستمر الحياة. لم نتطور كبشر بأسلوب يسمح لنا بالتشارك في كوكب الأرض مع النباتات والحيوانات وغيرها من عناصر الطبيعة، بل أننا لا نتشارك كما يجب مع بعضنا البعض كبشر، ونعيش على احتكار البعض للثروات والحياة، ونستخدم التكنولوجيا بصورة خاطئة، لكن أعتقد أن الاعتمادية المتبادلة بين الإنسان والذكاء الاصطناعي هي الفرصة المتاحة لاستمرار الحياة على الأرض".
"تستمتع الطبيعة بالطبيعة، وتهزم الطبيعة الطبيعة، وتهيمن الطبيعة على الطبيعة" من كتابات ديمقريطس أحد فلاسفة الطبيعة الأوائل، التي استخدمت في تقديم تجربة مكتبة العناصر، والذي يبدو تأثر مصمم الواقع الافتراضي الكبير به، من عدة جوانب، ولكن ربما أهمها نظرية ديمقريطس حول الكون والفساد؛ باتحاد الذرات ينشأ الكون، وبافتراقها يتم فساده وزواله. فهل يمكن أن يحدث هذا الاتحاد المثالي، كما يتخيله جونسون، بين الإنسان والعقل الاصطناعي؟