يتناقل الآثاريون مروية تاريخية، تحكي أنه في العام 2600 قبل الميلاد، وقف الملك سنفرو - والد الملك خوفو- يحدث رجاله قائلاً "أريده خالدا، يبقى ما بقي الزمان بزمان".
هكذا عبر الملك عن حلمه في بناء أثر شامخ لا يزول، وهو الحلم الذي تحقق في صورة أول "هرم مكتمل" غير مبني بطريقة المصاطب في التاريخ: "هرم سنفرو". لكن التجربة الأولى شهدت خطأً في حساب زوايا الهرم، ما استوجب تعديل التصميم أثناء العمل فبدا الهرم مائلا للداخل قرب قمته، ولذلك سمى باسم "الهرم المائل"، فقرر الملك بناء هرم آخر على مقربة منه مستفيدا من أخطاء تجربته الأولى.
"الهرم المائل" هو هرم فريد ويعد معجزة المصري القديم التي صمدت أكثر من 4500 عام. لكن هذه الأعجوبة صارت الآن مهددة بالانهيار، لا بفعل الزمن الذي تحداه سنفرو عند البناء، بل بفعل الإهمال، وعلى مرأى ومسمع من وزارة الآثار المصرية!
دهشور المنسية
رغم الأهمية البالغة لمنطقة دهشور الأثرية ، إلا أنها عانت التجاهل غير مبرر، سواء من القائمين على الآثار أو من العاملين بالسياحة. فلا هؤلاء بذلوا الاهتمام المناسب بالتنقيب فيها، ولا هؤلاء وضعوها على خريطة المزارات السياحية المعتادة، فنجد الأفواج تزور سقارة وممفيس وأهرامات الجيزة، متجاهلة دهشور.
لكن النقلة النوعية في انتهاك دهشور كانت في أكتوبر 2012، حينما هاجمت عائلة أبو اسماعيل حرم المنطقة الأثرية بدهشور وقاموا ببناء مدافن لعائلاتهم على مساحة 250 متر، انتظر أهالي القرى المجاورة (منشية دهشور- المزاريق - مزغونة ) ثلاثة أيام ليروا رد فعل الدولة على ما فعلته عائلة أبو اسماعيل، وحين تيقنوا أن أحدًا لا يبالي؛ حدث هجوم كاسح على المنطقة، ووضع الأهالي أيديهم على على مساحة شاسعة (5 فدادين) داخل الحرم الأثري، وقاموا ببناء مقابر لعائلاتهم على تلك المساحة.
فماذا فعلت الدولة عندما بدأت التعديات؟
للأسف كان أداء الدولة صادمًا، فرغم أن القانون يلزم الحكومة في حالة الاعتداء على أثر باتخاذ قرار إزالة التعدي وتنفيذه بشكل فوري لا يتجاوز عشرة أيام من تاريخ الصدور، حتى لا تتغير طبيعة الأثر أو يتعرض للتشويه، إلا أن الذي حدث كان عكس ذلك تماما.
فأول محضر تعدي على المنطقة الأثرية كان في أكتوبر 2012، أما قرار الإزالة فصدر في يوليو 2013، أي بعد 9 أشهر. والمدهش أنه حتى الآن لم يُنفَّذ، ولا تزال المقابر المستحدثة رابضة على قلب المنطقة الأثرية.
وهيبة صالح مدير منطقة آثار دهشور تؤكد أن المنطقة الأثرية بالكامل مُعيّن لها 9 حراس فقط غير مسلحين، يعملون على ورديتين، أي أننا نتحدث تقريبا عن 5 أفراد منوط بهم حماية تلك المساحة الشاسعة. وللأسف؛ إذا ما حدث أي تعدي أو هجوم على المنطقة الأثرية، "نتصل بالشرطه ولا أحد يجيبنا، وإن أجاب أحدهم فالرد يكون: عندنا أوامر ما نطلعش الجبل يا أستاذة!".
متاهة الإجراءات
وعن إزالة التعديات على المنطقة الأثرية تقول وهيبة: "أنا لا أملك سلطة الإزالة، دورنا كمنطقة ينحصر في عمل محضر، ورفعه الى السيد رئيس الإدارة المركزية، الذي يحيله إلى السيد رئيس القطاع، ليشكل الأخير لجنة دائمة لها سلطة اتخاذ قرار الإزالة. أما الإزالة نفسها فتتم بمعرفة المحافظة والأمن وبإشراف منا".
تضيف مدير منطقة آثار دهشور: "أرسلنا طلبات ومحاضر وشكاوى للوزارة [الداخلية]، نطالبهم بسرعة تنفيذ إزالة التعديات حفاظا على المنطقة الأثرية وكنوزها التي لم تستخرج بعد، لكن للأسف لا مجيب، وأكثر من مرة يتم إخبارنا بالاستعداد لتنفيذ قرار الإزالة الصادر في 2015، وفي آخر لحظه يتم التأجيل لدواعي أمنية كما يقولون".
ما حدث في دهشور هو انتهاك واضح لحرمة المنطقة الأثرية لا أحد ينكر ذلك، لكنه ليس وليد اللحظة، فطوال الأعوال الـ15 الماضية دأب أهالي قرى دهشور على مناشدة الدولة -ممثلة في مجلس المدينة- بتوسعه مدافنهم. فمع الزيادة السكانية أصبحت المقابر الحالية لا تكفي، وحيث أنه لا يوجد ظهير صحراوي لتلك القرى إلا المنطقة الأثرية؛ فكان الحل هو أن تقوم وزارة الآثار بعمل مجسات لقطعة أرض تختارها هي بعناية، وفور تأكدها من خلو تلك القطعة من أي قطع أثرية، تسلمها لمحافظة الجيزة التي تقدمها للأهالي لإجراء التوسعة المطلوبة لمدافنهم.
الحل بسيط ومعروف للجميع إذن؛ لكن الحكومة تجاهلته، وتجاهلت قبله تلك المطالب الشعبية ولم تعرها أي انتباه. المضحك المبكي في القصة أن وزارة الآثار شكلت بالفعل لجنة ووضعت لها ميزانية، ووجدت بالفعل فدانين مناسبين لطلب الأهالي وتم التأكد من خلوهما من أية قطع أثرية.
لكن تلك اللجنة لم تتشكل إلا بعد أن قام الأهالي بوضع أيديهم بالفعل على مساحة 5 فدادين، وبنوا مدافنهم عنوة عليها، هنا فقط تحركت الدولة وبحثت عن بديل، لكن بعد فوات الأوان. هذه قصة حزينة أخرى تكشف لنا عن حجم الترهل وغياب التنسيق بين أجهزة الدولة المصرية.
اللوادر تهاجم المنطقة
لأن المصائب لا تأتي فرادى، فقد كانت دهشور على موعد مع انتهاك آخر أشد وطأة، فقد وجدت مافيا المحاجر القريبة من المنطقة الأثرية، أن أراضي دهشور تصلح للتحول إلى محجر مجاني، وبالفعل بدأت لوادرهم في الدخول داخل الحرم الأثري، وتفجير التربة وتحميل الرمل والزلط والطفلة.
تخيل أن أرض واحدة من أقدم البقاع الأثرية في العالم؛ تحولت بفعل اللوادر وغياب الدولة إلى مجرد محجر طفلة ورمل. وبلغ الفُجْر بأصحاب المحاجر واستهتارهم بالدولة، أنهم أنشأوا محجرًا "حفرة" بعمق 15 متر على مسافة 500 متر فقط من هرم المائل، وهو ما ينذر بكارثة حضارية وفضيحة دولية لمصر حال تأثر الهرم بأعمال الحفر وتجريف التربة.
في مكالمة هاتفية مع د. فكري حسن -أستاذ الآثار بجامعة لندن - قال "الأزمة الكبرى هي استخدام الديناميت، وهو حتما يحدث، حيث يقوم عمال المحاجر بعمل ثقب في الأرض أقرب ما يكون لشكل ماسورة، ثم يتم ملؤه بالديناميت، ويُنسف عن بعد، فتتكسر صخور المنطقة بشكل يسمح لهم بالحفر وتحميل الرمل والطفلة وخلافه".
تلك التفجيرات كارثية، فخلخلة التربة بهذا الشكل ستؤثر على الهرم، وقد تسقط كسوته الخارجية. والهرم المائل ليس وحده المعرض للخطر في دهشور، بل المنطقة كلها، حيث لا زالت تخبئ في جوفها الكثير من الآثار غير المكتشفة، وتلك الخلخلات سوف تدمرالآثار المدفونة بلاشك. فضلا عن أن لوادرهم أثناء تحميل الرمل والطفلة قد تصطدم بأثر وتدمره دون أن تشعر أو تهتم.
ما حذر منه دكتور فكري حسن حدث بالفعل للأسف.
ففي نوفمبر الماضي، ونتيجة لأعمال التحجير العشوائي، اكتشف "سور هرم مزغونة"، السور الذي صمد لآلاف السنين بعد بنائه في نهايات عصر الدولة الوسطى، يتفتت هذا السور الآن تحت وطأة لوادر عمال المحاجر، فما الذي فعلته وزارة الآثار لانقاذ السور؟ لا شيء. وللأسف السور دُمر ومحي من الوجود تماما.
بعد عدة محاولات نجحنا في التواصل مع د/ محمود عفيفي - رئيس قطاع الآثار المصرية بوزارة الدولة للآثار، وبسؤاله أين كنتم من شهر نوفمبر الماضي، منذ علمتم أن سور هرم مزغونة يُدمَّر بفعل لوادر المحاجر، وماذا فعلتم لإيقاف تلك الكارثة؟
أجاب سيادته: أنه تم القبض على المذنبين وتحويلهم للنيابة، "ليسوا هم فقط بل والمقصرين من موظفي منطقة دهشور". و بتكرار نفس السؤال، "لماذا لم تتحركوا لإنقاذ أثر هام مثل سور هرم مزغونة؟" أجاب: "الحفر توقف نهائيا والموضوع في النيابة".
المفاجأة أن وهيبة صالح مدير منطقة دهشور تُكذِّب تماما كل ما قاله السيد رئيس القطاع: "التحجير لم يتوقف، ولم يتم التحقيق في النيابة مع أي من موظفي دهشور، بالعكس لقد تم ترقيتي"، تقولها وهيبة مشددة على نفي قصة تحويلهم للنيابة، والأهم، نفت أن يكون التحجير توقف: "مين قال إنه وقف؟ الحفر لسه شغال لحد دلوقتى ولوادر المحاجر بتحفر طول الليل!".
قد يكون رئيس القطاع قد أخطر النيابة فعلا وأخلى مسؤوليته "الوظيفية" ، لكن هذا لا يهم الآن، المفجع أن السور الأثري دمر تماما ولم يتحرك احد، المهم "الورق متستف"، أما الأثر نفسه؛ فتلك قصة أخرى يمكن مناقشتها لاحقا.
الحل موجود
لكن بعيدا عن مهازل البيروقراطية المصرية، وعقلية الجزر المنعزلة التي تحكم الأجهزة الرسمية، هل هناك حل سريع لإيقاف تلك المهزلة، ووقف نزيف الآثار التي تدمر كل يوم بفعل التفجير والحفر؟
الإجابه: نعم هناك حل ومعروف للجميع، كمين ثابت من الشرطة أو الجيش بالمنطقة الأثرية. فمجرد وجود "برميل وجوز عساكر"، سيمنع اللوادر من المرور الى داخل المنطقة، ويؤمن كنز حضاري لا يعوض.
السؤال لماذا لم يتخذ هذا الإجراء حتى الآن، رغم المطالبات المتكررة به؟ بدل الحملات التي يقوم بها الجيش من حين لآخر ولا تسفر عن شيء. فبمجرد تحرك الحملة من منطقة دهشور العسكرية إلى موضع التعديات، يكون الخبر قد وصل لعمال المحاجر، فيتحركوا بمعداتهم، ويصل الجيش ليجد المنطقة خالية تمامًا. اللافت أن تكلفة الكمين الثابت أرخص ألف مرة من تلك الحملات العبثية.
منذ انتهاء الإجراءات الاستثنائية وتراجع وجود القوات المسلحة في المناطق المدنية، يقول البعض أن الجيش لا يمكنه إقامة كمين ثابت بدهشور. وبفرض صحة هذا الحديث فماذا عن الشرطة؟ لماذا لم تستجب للمطالب المتكررة لمسؤولي منطقة دهشور بإقامة كمين ثابت؟
المؤلم أن أول هرم مصري متكامل يتعرض لخطر حقيقي، وواحدة من أعرق المناطق الأثرية في العالم تتعرض لتدمير ممنهج، ومع ذلك لا يوجد من يمكن أن نحاسبه. فنظريا، هناك قرار بإنشاء سور يحيط بالمنطقة ليحميها، ونظريًا هناك حملات مستمرة وهناك محاضر وتقارير.
بتعبير آخر آثارنا تُدَمَّر، لكن الورق متستف وزي الفل.