في الوقت الذي احتدم فيه القتال بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في العاصمة الخرطوم، وتحديدًا حول معسكر سلاح المدرعات ذا الأهمية الاستراتيجية لقوات الجيش، حدثت مجموعة من التحولات تشي بأن الطرفين أدركا أن المعركة وصلت إلى النقطة صفر، وألا نقاط أبعد يمكن الوصول إليها لتغيير المعادلة.
خرج قائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان من مخبئه منذ أن بدأت الحرب، ليتنقل بحرية ويجوب مناطق عسكرية مختلفة، وصولًا إلى مدينة بورتسودان (شرقًا) قبل أن يزور مصر، الثلاثاء، في أول زيارة خارجية له منذ اندلاع الحرب، ويلتقي الرئيس عبدالفتاح السيسي بمدينة العلمين على شاطئ البحر المتوسط.
البرهان في كلمته التي بثتها وسائل إعلام مصرية، أكد أن القوات المسلحة ليس لديها نية في السيطرة على السلطة، وأنه حريص على أن يضع حدًا لهذه الحرب، ويسعى لإقامة فترة انتقالية يستطيع بعدها الشعب أن يؤسس دولة من خلال انتخابات حرة نزيهة.
الحرب الأخيرة كشفت ضعف بنية الجيش السوداني الأساسية، وما تعرض له من إهمال في تطوير قدراته خلال العقود الماضية من حيث التسليح والتجنيد
وسبق ذلك، تصريحات أخرى لقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي)، تحدث فيها عن خارطة طريق لـ"تأسيس الدولة السودانية الجديدة"، من خلال اعتماد نظام حكم فيدرالي وحكومة مدنية تُمثل كل أقاليم السودان، إضافة إلى تأسيس جيش سوداني جديد بغرض بناء مؤسسة عسكرية واحدة تنأى بنفسها عن السياسة، كما دعا إلى ما سماه "تصفية الوجود الحزبي والسياسي داخل الدولة".
مرحلة الإنهاك
وقال المحلل السياسي السوداني حاتم إلياس للمنصة، إن طرفي الصراع وصلا مرحلة الإنهاك بعد ما يقرب من خمسة أشهر من الاشتباكات الطاحنة، مرجعًا ذلك إلى أن قوات الدعم السريع لم يسبق لها خوض حروب طويلة، ودائمًا ما تركن إلى الحروب السريعة والخاطفة، فمهما كان عدد قواتها وتجهيزاتها العسكرية وما حققته من تقدم، تظل غير معتادة على حروب النفس الطويل.
واتفقت معه أستاذة العلاقات الدولية في مركز الدراسات الدبلوماسية بجامعة الخرطوم تماضر الطيب، قائلة للمنصة "كل طرف يدّعي النصر في المعركة، تحديدًا الجيش الذي يعد بحسمها يوميًا، في حين أن الواقع يُشير إلى تمدد القوات شبه العسكرية في العاصمة الخرطوم وأطرافها وولايات دارفور وشمال كردفان".
ومنذ اندلاع الحرب في 15 أبريل/نيسان الماضي، هيمنت قوات الدعم السريع على الأرض في العديد من مناطق الخرطوم، في حين حافظ الجيش، الذي يمتلك طائرات حربية ومدفعية ثقيلة، على سيطرته على قواعده الرئيسية في العاصمة، وفي الأجزاء الوسطى والشرقية من البلاد.
وأضاف إلياس أن ما يُشاع بأن قادة الدعم السريع بدأوا الحرب للوصول إلى السلطة ينقصه الدقة، مرجحًا أن هدفهم كان الوصول إلى موقف تفاوضي قوي، خصوصًا أن حميدتي وقيادات الدعم يدركون أن الحرب الطويلة قد يتسرب إليها نوع من الممل بين العناصر المشاركة فيها، خاصة أن الحالة الانضباطية داخل القوات تعاني الخلل، وليست كما الوضع داخل القوات المسلحة.
وبالنسبة للجيش السوداني، فإن الترويج لحسم المعركة سريعًا منذ انطلاق الحرب عبَر عن سوء في تقييم الموقف الميداني، وهو الآخر لا تخدمه الحرب الحالية لأنه ليس معتادًا على الدخول في حروب المدن، بحسب إلياس.
واتسعت رقعة القتال بين الطرفين، فإلى جانب الخرطوم وما حولها وكذلك ولايات دارفور الخمس، دخلت الحرب إلى ثلاث ولايات أخرى بمناطق متفرقة في كردفان والنيل الأزرق والجزيرة، مما أثار مخاوف من سيناريو الحرب الشاملة، وما قد يتبع ذلك من وصول عناصر إرهابية مثل بوكوحرام وغيرها قد تجد البيئة الخصبة للدخول وسط ركام الحرب التي ستأخذ منحنى قبلي وأهلي.
دروس الحرب
رأى المحلل السوداني أن الحرب الأخيرة كشفت ضعف بنية الجيش الأساسية، وما تعرض له من إهمال في تطوير قدراته خلال العقود الماضية من حيث التسليح والتجنيد، ما أدى لتسلل عناصر من الحركة الإسلامية لتعويض هذا النقص، ومنح ذلك انطباعًا بأن المتطرفين هم من يقاتلون الدعم السريع وليست قوات الجيش.
بينما ترى الأكاديمية السودانية أن قطبي الصراع يدركان أن المعركة لن تُحسم عسكريًا، ولكن لا يمكنهما البوح بذلك علنًا، إذ أن "قوات الدعم السريع التي استخدمت أساليب العنف المفرطة، واعتدت على المدنيين بوحشية واستولت على المنازل والممتلكات تجعلها تبدو كطرف أقوى وقريب من تحقيق الانتصار، لكن قائدها يدرك في قناعاته الداخلية بأنه فقد ثقة الشعب بعد ممارسات أفراده والانتهاكات التي تورطوا بها بحق المدنيين"، وفق حديثها للمنصة.
لكن إلياس، الذي تولى في السابق إدارة معرض الكتاب قبل إلغائه، فسر عدم حسم قوات الدعم السريع للمعركة رغم وصولها إلى سلاح المدرعات، بوجود تدخلات خارجية دفعت نحو وقف التقدم، "لأنه مع السيطرة على السلاح الاستراتيجي لم يعد أمام قوات الدعم سوى السيطرة على القيادة العامة والوصول إلى قائد الجيش عبد الفتاح البرهان".
وتابع أن تحقيق انتصار عسكري للدعم السريع لا يحقق المكاسب المرجوة، إذ أنها في تلك الحالة لن تحظى باعتراف دولي، وسيبقى الجيش هو الجهة ذات الوجود التاريخي والمؤسسي للدولة السودانية، حتى وإن جرى اعتقال البرهان أو تحييده.
وتجدد القتال بين الجيش وقوات الدعم، الاثنين، حول معسكر سلاح المدرعات بمنطقة الشجرة جنوب الخرطوم، وأبلغ شهود وكالة أنباء العالم العربي، بأن قوات الدعم هاجمت المعسكر من الجهتين الشمالية والشرقية، وذلك بعد تسعة أيام تقريبًا من اندلاع الاشتباكات في محيطه وداخله بحسب روايات للدعم السريع الذي تحدث في السابق عن سيطرته على المعسكر.
ويُعَـد سلاح المدرعات العمود الفقري للجيش، وقوة الصد الأساسية بفصائل القوات المسلحة السودانية، وشكّلت الدبابات الروسية ومنظومة دول أوروبا الشرقية النواة الأساسية له، ويكتظ المعسكر بمئات الدبابات والمدافع الضخمة، بعضها محلية الصنع من إنتاج التصنيع الحربي الذي استحدث إبان حكم الرئيس المخلوع عمر البشير.
وترى تماضر أن خطاب البرهان في مطار بورتسودان، قبل زيارته الأخيرة لمصر، وإن كان يحمل جوانب دعائية، إذ تحدث فيه عن القتال حتى آخر جندي، غير أن خروجه من موقعه يُبرهن على أنه يبحث عن حل لإنهاء الحرب بطريقة تحفظ ماء وجه المؤسسة العسكرية وتُرضي كبرياء الجيش.
زيارة العلمين
كانت الأكاديمية السودانية تُعول على خروج لقاء البرهان والسيسي بنتائج أكثر وضوحًا، "البيانات الصادرة تشي بأنه كان لقاءً بين دولتين يتمتعان بالاستقرار ويناقشان تطورات الأوضاع، وهو أمر مخالف للواقع، ويبقى الأمل معلقًا على زيارة البرهان المرتقبة إلى السعودية".
وقال السيسي خلال اللقاء، إن موقف بلاده ثابت وراسخ بالوقوف إلى جانب السودان، ودعم أمنه واستقراره ووحدة وسلامة أراضيه، في وقت أكد البرهان على الالتزام بالسعي إلى استكمال مسار الانتقال الديمقراطي.
وعلى عكس تماضر، رأى الأمين العام للحزب الوطني الاتحادي الموحد محمد الهادي محمود، أن تصريحات البرهان خلال زيارته لمصر إيجابية من زاوية تطرقه للعودة إلى المسار الديمقراطي، بما يؤشر إلى أنه يسير على طريق قد يصل بنا إلى نهاية الحرب الكارثية، على أن يعقب ذلك عملية إنسانية كبيرة، وفتح الباب أمام عودة النازحين والمشردين في دول الجوار، وفق حديثه للمنصة.
وأسفر القتال حتى الآن عن مقتل أكثر من 4 آلاف شخص، وتشريد 4 ملايين سو، بما في ذلك أكثر من 884 ألف شخص فروا إلى الدول المجاورة، بحسب ما أعلنه مسؤول في الأمم المتحدة، الشهر الجاري.
وأضاف الأمين العام للحزب الوطني الاتحادي الموحد أن الطرفين قد يدفعا نحو وقف إطلاق النار بما يسهل عليهما مهمة مخاطبة المانحين والأشقاء العرب لإعادة الإعمار، ثم البدء في عملية سياسية تتناول كيفية إدارة الدولة في فترة ما بعد الحرب.
لكنه يعتقد أيضًا أن هناك معوقات تعترض عملية وقف القتال لأن من بدأه، من وجهة نظره، أتباع النظام السابق من المحسوبين على الحركة الإسلامية وتنظيم الإخوان في السودان، "يرى هؤلاء أنه لا بد من القضاء بشكل تام على قوات الدعم السريع، وهو أمر غير قابل للتحقق على أرض الواقع، وسيكون الجيش أمام معضلة لإقناع هؤلاء بالتوقف عند ذلك الحد، وقد يترتب على ذلك نشوب صراع داخلي"، يقول محمود.
ولفت محمود إلى أن توفر الإرادة السياسية لدى قيادة الجيش وكذلك قوات الدعم يمكن أن يُنهي الحرب ويتجاوز مواقف الفلول، مشيرًا إلى أن القوى المدنية في الجانب المقابل تمضي في طريقها نحو تكوين جبهة عريضة تشمل كافة أطياف المجتمع المدني السوداني بما فيها القوى الثورية والشيوعيين، فيما عدا فلول النظام البائد.
واختتم أن"الأيام الماضية كانت شاهدة على تحركات في عواصم مختلفة لتحقيق اختراق يدعم إنجاح أي حلول سياسية مستقبلية".
والأيام الأخيرة التي يقصدها القيادي الحزبي كان يفترض أن تتضمن زيارة للسعودية، جرى الحديث عنها مرتبطة بزيارته لمصر، غير أن البرهان عاد إلى السودان، لـ"لبحث بعض المسائل المتعلقة بترتيب الأوضاع الداخلية للولايات غير المتأثرة بالحرب"، بحسب مصادر مقربة إلى الجيش تحدثت إلى راديو سوا السوداني، وفق ما أورده موقع الحرة، لتحمل الأيام القادمة مزيدًا من التكهنات، والتحولات القادرة على تغيير المشهد.