في ليلة من عام 1964، أثناء عرض مسرحية "الفرافير"، المأخوذة عن نص مسرحي بالاسم نفسه* ليوسف إدريس، دخل الممثل المبتدئ ليؤدي دوره البسيط: ميت يأبى الدفن. لصغر سنه ودوره، لم يُكلف الجمهور نفسه عناء الترحيب به، لكن؛ ما إن انتهى المشهد؛ حتى دوى التصفيق لدقائق عشر، إعجابًا بهذا "المجهول" الذي ترك أثرًا، وصار بعدها نجمًا اسمه عبد الرحمن أبو زهرة.
وكأن مُبتدئ "الفرافير"، منذ تحول لقاؤهُ بالجمهور من الجفاء إلى الحفاوة، آل على نفسه ألا أن يُبهر متابعيه، فبهدوء يخطو إلى الاستديو أو خشبة المسرح، دون "بروباجندا"، لأنه ليس "البطل" بمعايير السوق ومساحات الأدوار؛ لكنه يخرج من عباءة الشخصية بطلاً بمعايير الفن، وبفضل يُرّد لأدائه المتفرد.
متكئًا على موهبة مصقولة بالدراسة الأكاديمية، قطع "أبو زهرة" مشوارًا يتجاوز خمس عقود، تنقل خلالها بسلاسة وحِرَفيّّة بين مئات الأعمال، فمن "جلباب" المعلم إبراهيم سردينه، لعباءة ساحر "ديزني" جعفر، ومن حكمة "أمير الظرفاء" جُحا، لمغامرات السندباد في "رحلاته السبع". لم تعصه الأدوار، وهو القادر على كتابة الخلود لها، وليس "سكار" الذي أضحى استثناءً في تميزّه عن جميع شخصيات "الأسد الملك"، إلا دليلاً على تفوق رجل ارتوى من إكسير الفن حتى الثُمالة.
أكثر من ميلاد
قبل مقدم ربيع عام 1934، وُلِدَ عبد الرحمن أبو زهرة، يوم 3 مارس/ آذار، وليس في 7 أو 8 من الشهر نفسه، كما يدعّي عليه الإعلام خطأً.
جاء الميلاد الأول، في مدينة ساحلية لم يطل مقامه بها "أنا من مدينة دمياط نفسها، بس سبتها وأنا عندي 7 سنوات"، ومنها إلى درب البرابرة بالقاهرة، حيث استقر والعائلة، التي امتد منها حبل الود مع الأرض الأم "كان في الصيف مفيش بقى غير راس البر، إحنا دمايطة وده هو المصيف".
ولد الممثل المخضرم لأب يعمل مدرسًا للغة العربية، وقد يُفسر هذا شيئًا من احترامه للغته وإجادته لنطقها الفصيح الذي يتسلل لحديثه اليومي، حتى رغم رحيل الأب وعبد الرحمن بعده صبيًا في التاسعة. آلت بعدها رعايته إلى الأم، التي يذكر الآن ضاحكًا لقبها القديم للغاية بينه وإخوته: "كنا بنقول يا نينه، بتاعة الممثل الشهير عماد حمدي. أصل كان ده اللقب في العصر ده".
يرتد العجوز طفلاً- بمجرد ذكر والدته- ويُسلّم زمام الحديث لـ"عبدو" صغيرها المدلل: "نينه الله يرحمها كانت ست عظيمة جدًا، وربتنا لغاية ما خَرَجتّنا [من الدراسة العليا]، ولو إنها لما اتخرجت أنا، توفت، وكنت عضو في المسرح القومي، وكان اسمي بدأ يتردد بشكل بسيط كده".
وقدّرت السماء ألاّ تموت الأم إلا بعد أن يشرح نجاح الابن صدرها، بميلاده الثاني: "أذكر إن نينه وأختي الكبيرة كانوا جايين يزوروني، في مسرح الكورسال. كنت بمثل مع نجوم؛ فعزمتها، وهي داخله شافت مين بقى؟ عبد المنعم إبراهيم؛ ذُهِلت وفرحت وقالتلي يا عبدو عايزة اسلّم عليه، قلتلها يا سلام! نعناعة- كنا ندلّعه نقول له يا نعناعة (في إشاره لعبد المنعم إبراهيم)- فجه وسلّم عليهم واتبسطوا".
وتتكرر ميلادات "أبو زهرة"، في كل مرّة يُمطِره فيها الناس بالمحبة، تلمع عيناه وهو يصف: "تمرّ سنوات، ويصبح ظهور عبد الرحمن أبو زهرة في أي مكان، خضة للمشاهد وفرحة. ده أزيد مما يجب كمان، وأسجد لربنا سبحانه وتعالى. دي قيمة يعني.... ماعندكيش فكرة عن السعادة اللي بتغمرني لما يقابلني المشاهد، ويعبر عن حبه ليا ويكرر لي أعمالي، سعادة لا حدود لها".
سعادة أبو زهرة تتواصل مع ميلاد جديد، عادت فيه الحياة لشخصية شهيرة بين أعماله- إبراهيم سردينة- التي نفخت فيها إحدى صفحات فيسبوك روحًا جديدة، على يد شباب، لم يكن أغلبهم قد ولد وقت العرض الأول لمسلسل "لن أعيش في جلباب أبي" منتصف التسعينات، لكنهم أبهروا صاحب الشخصية نفسه: "ده أنا اتعملت لي صفحة! بيقولوا على لساني كلمات كثيرة وتعليقات حلوة، ساعات بتبقى حكمة، وساعات فلسفة".
ويضحك الثمانيني غير المُتمكن تكنولوجيًا، وهو يقول عنها: "أنا سعيد بيها سعادة! لأن ده دليل إعجاب وحب، أنا مش مصدق إن هذا الحب الجارف في بلدنا ده [موجه] لعبد الرحمن أبو زهرة، ده شيء جميل ورائع، وهعمل معاهم حوار صوتي، وهنتبادل الآراء".
العرفان والسعادة بحجم نجاح أحد أدواره بين الشباب، قد يُفسرّهما جانب من شخصيته التي تنكر على نفسها الشهرة "أنا لغاية النهارده، كل ما أروح مؤسسة أو هيئة، افترض إنه [مَن أتعامل معه] مش عارفني!".
الخجول تطارده موهبته
"لما اتخرجت، الحاجة الغريبة إن أنا [كان] ما عنديش رهبة، ماخفتش من ممثل حتى لو كان نجم النجوم وأنا نكرة، وكنت أمثل بجرأة"، يحكي أبو زهرة عن الوقت الذي عاشه خارج الأضواء شابًا حديث التخرج، والتحاقه بالمسرح القومي: "سألوني لما مثلت قدام محمود مرسي، الله يرحمه، ده عملاق.. قالوا لي إحساسك إيه؟ فقلتلهم إحساس زميل لزميل. يعني وضعت الحكاية في حجمها بالنسبالي".
التناقض واضح بين ذلك الممثل الجريء الواثق من موهبته، وبين تلميذ خجول، سكن قبله الجسد نفسه، كانت تُربكه المواجهة: "كنت تلميذ مجتهد جدًا، في التحريري أجيب نمر وأرقام جميلة، لكن في الشفهي، يُرتجّ عليا ويمكن ارتبك شوية".
ربما يعود سبب الخجل إلى شيء من غربة، تسللت إلى نفسه، ليس فقط حيال القاهرة "كنت خجول جدًا، جاي بقى من البلد"، لكن أيضًا حيال مدرسة التحق بها في ظروف استثنائية، يذكرها ضاحكًا "وآه، دي مدارس القاهرة بقى، وكنت داخل سني كبير [في] الابتدائي. كان عندي 9 سنين، لكن أمي أصرّت تدخلني وعملت بلاوي علشان أخش. الله يرحمها قدمتلي خدمة عمري، رسمتلي طريق مستقبلي".
وظل الخجل، المُنازع الوحيد للموهبة في نفس أبو زهرة، حتى أتى يوم انقلبت فيه الموازين "كان فيه نظام ظريف قوي، المعهد العالي بيخرّج ناس، بيبعتوهم المدارس علشان يعملوا مسابقات في الدراما، وأنا بقى ماليش في الحاجات دي كلها، لغاية ما كنت قاعد بهزّر مع شوية زملاء، فشافني المشرف اللي متعين لمدرسة خليل أغا الثانوية، وقعد يطاردني بصراحة وأنا رافض، ويطاردني لغاية ما أقنعني".
وكان المُشرف بعيد النظر بالفعل، كما تثبت بقية الحكاية "إيه رأيك أول ما اشتركت خدت الجايزة الذهبية على المدارس! فجأة تظهر الموهبة. ما هي الموهبة موجودة ماجتش من فراغ، هي مدفونة، إنما الظروف لما تهيأ للإنسان إنه يعبّر بقى ويخرج مواهبه؛ حصل"، وكان الفن "علاجه" من الخجل، كما يحكي الآن ضاحكًا: "التمثيل اداني الانفتاح على العالم، مفيش خجل، انفتحت بقى وماحدش عارف يلمني من يوم ما انفتحت".
"قالولي فيه حاجة اسمها معهد التمثيل روح قدم، وقدمت. نجحت واتخرجت وروحت القومي، وبقيت عبدالرحمن أبو زهرة".. يقول الفنان تلخيصًا للرحلة، التي بدأت حقًا من المعهد العالي للفنون المسرحية، حيث انسحب الخجل بلا رجعة من النفس؛ مفسحًا مساحات لموهبة، كانت دليله في اختيار مساره، بعيدًا عن وظيفته الميري في ديوان الحربية.
"كانت [الوظيفة] وأنا طالب في المعهد؛ لأنه كان مسائي، اشتغلت في حسابات المشاة، وكنت دايمًا بطلع أرقام تودي السجن، فأعمل إيه؟" يضحك وهو يُفكر "مش عارف! مرتبات فظيعة؛ فجبت ولد كويس قوي، وقلتله هدّيك اتنين جنيه- يووووه (بانبهار)- وأنا أياميها كنت بقيت ممثل في الإذاعة؛ وبجيب 5 جنيه في الشهر، فبقيت أمَوِّن اللي يساعدوني، لغاية ما اتخرجت وسِبت الوظيفة".
شغف الفن وعفريته
"أنا باهتم قوي، وبَدّي الشخصية من كل خلجة، كل خلية في جسمي بتتحرك".. يبوح عبد الرحمن أبو زهرة بشيء من سرّه، "والدور لو 3 جُمل، باتوافر عليهم (أنكب عليهم) وأدرسهم، ماعنديش حاجة اسمها بطولة ودور صغير"، هكذا أخذ من الفن شغفه دون حساباته.
والعبارة الأخيرة تحديدًا، بـ"جُمَلِها الثلاث"، لم تكن مجرد مثال يضربه، بل تفاصيل واقعة حقيقية، يحكيها كما لو كانت بالأمس القريب: "أنا قُلت 3 جُمل وأنا مجهول للمشاهدين في دار الأوبرا فصقفوا، وواحد في الصالة بعدها سمعته قال (ياعيني، الواد ده نفسه يمثل). كنت حاطط كل مشاعري فيهم، مانساش الجملة دي أبدًا".
إذن، ولو كان مشهدًا واحدًا فقط؛ لتحركت لأدائه "كل خلايا جسد" عبد الرحمن أبو زهرة، امتثالاً لحُكم البانتومايم، الفن الذي درسه مع زميليه الراحلين أبوبكر عزت وزين العشماوي، الثلاثي الأمهر في مجموعتهم الدراسية بالمعهد: "كنا عباقرة قوي في التعبير، أصل البانتومايم ده حركة ومشاعر".
ويذكر الفنان موقفًا، يدللّ به على موهبة أبهرت أستاذ المادة نفسه: "كنت برسمله إني ترزي- يعني في الهوا كده-، وأنا بعمل الغرز الساعي جه للأستاذ علشان العميد طالبه، وباللا شعور لما توقفنا، رحت عامل كده (يُقلد حركة قطع الخيط بالفم)، وحطيت الإبرة (الخيالية) في صدري. علي فهمي الله يرحمه، بُهِر بالحركة البسيطة دي. معناها إيه؟ المعايشة، سواء بانتومايم، واقع، خيال... أنا لازم أبعت رسالة للمشاهد إنه يقتنع باللي بعمله".
وكي يقتنع المشاهد، يأتي "أبو زهرة" بالأعاجيب. وليس طلبه الخاص من دلال عبد العزيز في مسلسل "لا" منتصف التسعينات، إلا مثالاً: "كانت شخصيتي وزير منحرف شوية وبيلعب بيها، وقلتلها: إلسعيني قلم يرّن في الاستوديو"، ويقهقه قبل أن يُكمل "كانت مخلصة قوي، والخمس صوابع علموا في وشي. بس لازم، والقلم ده خد سوكسيه في حد ذاته، وسافرت بعدها الأردن، السفير المصري عمل لي ريسيبشن على الدور ده".
وكررها "أبو زهرة"، بطلبه من المخرج داود عبد السيد، إعادة مشهد له مع أحمد زكي في فيلم "أرض الخوف"، لكنه هذا المرة تفادى صفعة من يد أحمد زكي - دون التأثير على الصورة- والفضل للبانتومايم، ذلك العفريت الذي منحه إشادة سابقة من أحمد مظهر، ذكرها وسط ضحكاته: "كنت بعمل معاه فيلم اسمه (امرأتان)، والمفروض إنه بيضربني يعني، وبعد ما خلصت ندهني وقال لي يا أستاذ أبو زهرة إنت أحسن ممثل شفته بيتضرب، رد فعلك بيبين قوة الضربة".
قبل العين أحيانًا
تعشق الأذن، خاصة لو كان للصوت حضور وشخصية، وهذا منحة السماء لعبد الرحمن أبو زهرة، التي اكتملت بأن جاءت أولى خطواته الفنية عبر الأثير: "وأنا طالب اشتغلت في الإذاعة وكان ليا دخل محترم جدًا"؛ وبجانب المال والنجاح؛ أكسبته الممارسة خبرة جعلت صوته علامة مميزة.
"في الإذاعة، صوتك هو اللي بيبيّن شخصيتك، ويبيّن حتى لبسك إذا كنتي غنية ولا فقيرة. التعبير الصوتي بيحمل الديكورات والإضاءة، اللي بتبقى على المسرح وفي السينما والتليفزيون".
لم يكلّ صوت "أبو زهرة" عن تقديم العديد من القطع الفنية الرفيعة، وصولاً للكلاسيكيات الإذاعية التي كان محظوظا بتقديمها، وحزينًا لاختفائها: "البرنامج التاني (إذاعة البرنامج الثقافي حاليًا) كان بيقدم [أعمال] من المسرح العالمي، ده أنا ليا أعمال فيه كتيرة جدًا، لو ينزّلوها تاخد سنوات".
https://archive.org/embed/Al7arbوفي استوديوهات "ماسبيرو" منذ سنوات بعيدة، عُهِدَ إلى "أبو زهرة" بالمهمة الأصعب: تعليم وإمتاع الأطفال؛ فتشارك اللعبة مع المخرجة الإذاعية الأبرز في هذا المجال سهير شعراوي: "عملت معاها برنامج (صندوق الدنيا) 24 سنة، لدرجة إننا في يوم عملنا احتفال للأطفال اللي كانوا معانا، وجيبناهم.. اللي بقى مهندس ودكتور ومحامي". يصمت لبُرهة مُفكّرًا قبل أن يعلّق "شوفي الفن بيعمل إيه؟ بيربي أجيال، لو كل ممثل تركيبته زيي! يعلم الأطفال".
اللعب مع الصغار
وإلى الآن يواصل "جدو عبد الرحمن" اللعب مع الصغار: "أنا بعمل برنامج (كان ياما كان) لغاية دلوقتي، سعيد بيه جدًا، وبعلم الأطفال القيم اللي تكوّن مواطن صالح".
لا يتكلم "أبو زهرة" عن أدواره في هذا الملعب، قدر ما يتكلم عمن يراه الأهم والأبقى، الطفل: "مرة سألوني إيه أحلامك؟ وأنا لسه شاب.. قلتلهم إني اتخصص للطفل. قد إيه كنت حاسس إن الطفل ده مسؤولية جامدة، ولازم نرصدلها أموال وممثلين وإخراج جامد، إحنا هنا [نعتبره] آخر حاجة، آخر ميزانية، ممثلين أي كلام، يعني مع احترامي الشديد يعني لبعضهم، إنما كسر، ومخرجين متواضعين".
وتبدو حسرته من مقارنة انعقدت في عقله؛ فنطق بها لسانه، بمجرد أن ذُكر الحوت الأكبر في مجال الأطفال، شركة "ديزني" العالمية وأفلامها: "ماشوفتش مخرج كبير وممثلين نجوم، عملوا عمل للطفل زي مابنشوف برّه، ده ديزني دي خدت أوسكار على (ليون كينج)، وممثلينها مين؟ كبار جدًا".
ولكنه رغم مرارة المقارنة، يعتز بتجربته في أداء صوتي الساحر جعفر "فيلم علاء الدين"، والأسد سكار "فيلم الأسد الملك"، وفي الثاني هذا تحديدًا، كان صوته أول المقبولين لدى الشركة: "إحنا انتصرنا، وفيه شهادة إن الترجمة المصرية أعلى ترجمة اتعملت لديزني، وأنا جاتلي مكافأة من الشركة بعد ما سجلت صوت سكار"، ويحتل هذا الأسد الشرير تحديدًا، مكانة في قلبه تفوق ما عاداه "سكار ده تعادليه بالحاج إبراهيم سردينة".
وإشادة "ديزني" تلك عاودت إثارة غضب "أبو زهرة" الذي يرى في نفسه وزملائه "أحسن ناس تعمل دوبلاج"، وهو ما لم يحمِ الدوبلاج المصري من الانحسار أمام أصوات سورية وخليجية، حتى في إنتاج "ديزني" نفسه: "أصل ده عجز مننا، إحنا مش عايزين نصرف. الميزانية بتاعة سكار (الأسد الملك) كانت جامدة قوي، وكان فيها نجوم كويسين قوي على فكرة، ده محمد هنيدي كان طايح فيها، وفيها أسماء يعني.... إنما مش عايزين يصرفوا على الكارتون، ففلت منهم الزمام".
وينسحب الحديث ليشمل الدراما، التي شارك في بعضها على مستوى الإنتاج العربي، بعد تراجع المصري في نوعيات بعينها: "اختفت من التليفزيون الدراما التاريخية والدينية، إحنا كنا متألقين قوي في الستينات والسبعينات، وأنا عملت مسلسلات كتيرة دينية وتاريخية، الحجاج بن يوسف الثقفي ده كان علامة. راحت لسوريا والخليج لأن مفيش نشاط داخلي. هما أذكى مننا".
وتولّد تلك الإشكاليات أسئلة في عقل الفنان: "كله يرجع إلى الدولة، مادام متقاعسة في مجال من المجالات، فالمجالات دي بتنحدر، خديها قاعدة كده. فين وزارة الثقافة؟ فين بيوت الثقافة اللي الله يرحمه سعد وهبة مات وهو بيكونهم علشان ينشر الثقافة في بر مصر؟ فين مهرجانات بيوت الثقافة؟ ما هو تحسي بيهم إزاي! لما يحصل مهرجانات، ونتطور ونزدهر. كله فيه ركود، وكلها تجارب في الضل، بيعزموني بروح ألاقي كلام فارغ".
بِدَع أبو الفنون
كطفل فضولي، اختار عبد الرحمن أبو زهرة أن يعيش الفن كلعبة استكشاف، خاصة مع "أبو الفنون" المسرح، يهرول بحماس خلف التجربة، حتى لو اقتضت منه مهارات وفرضت عليه مهام إضافية، كما فعل حين أخرج مسرحيتي "عودة الشباب" و"متلوف": "في البداية، كشاب مُتَفَتِح، كنت عايز أعمل كل حاجة، أمثل واخرج؛ فعملت مسرحيتين (إخراج) ونجحوا، وكانوا مين الأبطال؟ عمالقة التمثيل، عبد المنعم إبراهيم، وأسماء كثيرة جدًا".
نجحت التجربة في المرتين، لكن هذا النجاح لم يدفع أبو زهرة لتكرارهما: "روتين قاتل.. حسيت إن المخرج ده الله يكون في عونه، بيفضل شايل النص تحت باطه ودايخ في كل المؤسسات، أنا مفيش عندي الطبيعة دي. الممثل بيجروا وراه، المخرج لأ، إن ماكنش يجري ويخلق ظروف عمل له مش هيشتغل".
وفي سنوات تالية على تجربة الإخراج- تحديدًا السبعينات- عاود "أبو زهرة" فضوله الفني؛ فأقدم على مغامرة أخرى: "عملت تجربة كان نفسي تُعَمَم، قلت ليه المشاهد ييجي المسرح؟ ماروحلوش ليه؟ فعملت مسرح القهوة، وكانت قهوة متاتيا دي قدام المسرح القومي، وعملت مسرحية وكان (المُشاهدة) بالمشروب".
ومدفوعًا بالشغف، خاض تجربة أكثر تعقيدًا "كنت متحمس قوي، وعملت تجربة الـ one man show، في مسرحية النفوس العارية، ساعتين ونص لوحدي على المسرح، بتكلم وبمثل. نجحت نجاح فظيع، لكن لا تجربة القهوة [وجدت] ناس احتضنتها، والـ one man show ده بقى بتشوفيه في التليفزيون، بيقولوا كلام مايضحكّش غير اللي جايبينهم يضحكولهم".
كان المُناخ مواتيًا للإبداع والأرض خصبة؛ يحكي ربيب المسرح القومي عن "عصره الذهبي" في الستينات: "دي كانت فترة استنهاض للشعب، فترة ثورية بتاعة عبد الناصر؛ فكان بيبعت الشباب (المخرجين) برّه، يعني كرم مطاوع وسعد أردش إيطاليا، أحمد عبد الحليم إنجلترا، جلال الشرقاوي روسيا. كل دول لما يسافروا وييجوا يعملوا نهضة، في وقت كان فيه مؤلفين طالعين ماحصلوش.. عباقرة!، سعد وهبة وعبد الرحمن الشرقاوي وصلاح عبد الصبور....".
ووسط صناع مجد المسرح، كان له متسع: "كرم [مطاوع] والمجموعة دي، أنا دخلت جواهم؛ فكانوا قريبين جدًا لقلبي، وهما كانوا معترفين بيا اعتراف ماحصلش، كذلك في التليفزيون، كان فيه ناس كتير بتعترف بيا، أحمد توفيق الله يرحمه ده، لأنه زميل يعني، إنما كل المخرجين كانوا بيشغلونا".
لكن حلّت غُصة في الحديث، بمجرد مقارنة الآن بالزمن الماضي "الدولة اختفت، لا فيه مهرجان ولا...."، ويقطع كلامه سريعًا بالتماس الأعذار "إحنا بنمر بظروف صعبة وضغوط، والعالم كله ضدنا، فإحنا بس نعيش في أمان.. الفن لا يزدهر سوى في أرض مستقرة آمنة، ودي اللي كانت موجودة أيام عبد الناصر، بالرغم من الحروب، لأن كان الشعب كله وراه، وكان مستعد يعمل كل حاجة، إنما دلوقتي الضغوط دي حَسَرِت كل حاجة، وانحسر المسرح القومي".
لكنه يستعين بالأمل على تلك الغصة: "لغاية دلوقتي الأعمال [المسرحية] خالدة، بس خلودها ييجي بعرضها، سواء في التليفزيون أو المسرح. ليه مانعملش ريبريتوار (إعادة) للمسرح القومي؟ لو فيه طاقات، الموضوعات كلها تنفع دلوقتي".
كأثر فراشة
لا يزول أثر عبد الرحمن أبو زهرة، لكنه أيضًا يُرى، حتى في أعمال نقلها الوسيط الأقل قربًا لقلبه، السينما.
"ماليش في السينما، طول عمري بحترم المسرح لأني بعتبره ثقافة، السينما إعلام دعاية، وفي المسرح لا تستطيعي أن تضعي غير الموهوب في موضع النجم؛ [لكن] في السينما والتليفزيون ممكن".. ويواصل: "أنا خدت جوايز في السينما، بس مُقِّل، لأنهم مافكروش فيا، هعملهم إيه؟ هروح اخبطّ؟! يعني داود عبد السيد لما جالي وعملت أرض الخوف (الفيلم) اللي قلبت بيه الدنيا، وعملت (الجزيرة) و(حُب البنات)، ومشاهد صغيرة على فكرة، لكن معلّقة مع الناس".
تلك هي كل الحكاية ببساطة، "مشاهد صغير، ومعلّقة مع الناس".. مُعادلة "أبو زهرة" الدائمة في اختيار الأدوار: "نظرتي للدور مش بالمساحة، الحاج إبراهيم سردينه رفضوه ممثلين كتير، ونجوم، لا لشيء إلا لأنه 10 حلقات، أنا روحت عملته"، ويضحك قبل أن يُكمل "وشوفي بقى أهو ليا موقع دلوقتي، يعني ماكنوش يعرفوا المستقبل اللي رفضوا".
"الأدوار اللي علّقت مع الناس ماهياش بطولة، لكن ببص للشخصية أشوفها، هل الأحداث والعمل الفني بيأثر فيها؟ ورد الفعل بتاعها، فيه شخصيات سلبية قوي، تيجي وتمر وتعيش وتروح ماتحسيش بيها، أنا إن ماكنش فيه صراع بين الشخصية وبين الأحداث.. وكمان أحبها، لو ماحبتهاش لا يُمكن ألعبها ولو 30 حلقة".
(*) ورد خطأ في نسخة مبكرة من الحوار أن مسرحية الفرافير مأخوذة عن قصة قصيرة ليوسف إدريس؛ لكنها مأخوذة عن أحد النصوص المعدودة التي كتبها القاص الراحل لتؤدى على خشبة المسرح.