في الدقائق الأولى من فيلم Air، يسأل سوني فيكارو (مات دايمون) زميله هوارد وايت (كريس تاكر)، عن كيفية إقناع لاعب السلة موسى مالون بتوقيع عقد رعاية مع شركة نايكي، فأخبره أن عليه إقناع أمه أولًا، وتلك قاعدة تصلح مع أي رياضي أسود البشرة في العموم.
هكذا يضعنا ذلك المشهد الافتتاحي للفيلم أمام حدثه الرئيس، وهي قصة الشراكة الأنجح في تاريخ التسويق الرياضي بين نايكي ومايكل جوردن، التي أفرزت منتجهم الأشهر Air Jordan، والذي ما يزال يحقق أرباحًا خيالية حتى اليوم، تلك الشراكة التي لم تكن لتنجح لولا دولوريس جوردن، والدة مايكل، التي تظهر في الفيلم كدرع يحمي ابنها من سهام غواية رجال الأعمال البيض الذين يريدون استغلال موهبته الصارخة.
هذه العلاقة التي فهمتها شركات التسويق الرياضي تبدو غائبة عن صفحات الساركازم الرياضية، التي جعلت في سياق مشابه، من اللاعب الفرنسي كيليان مبابي مادتها، بعد أن أطلقت عليه اسم "ابن فايزة"، كإشارة على اضطلاع أمه فايزة العماري بمهام إدارة أعماله، وهي إحالة مؤسفة لمعنى تحقيري نعرفه جيدًا في ثقافتنا حين نُلقب صبي بأنه "ابن أمه".
خلال السنوات القليلة السابقة، تصدر اسم العماري عناوين الصحافة الأوروبية خلال فترة الميركاتو الصيفي، وفي 2022 تحديدًا كانت السيدة جزائرية الأصل حديث العالم لإداراتها المفاوضات مع "القرش" فلورنتينو بيريز، رئيس ريال مدريد، الذي اكتسب لقبه من قدرته على ابتلاع كل شيء بالشروط التي يريد، لكنه لم يستطع أن يبتلع فايزة وابنها في ذلك الميركاتو. وهذا العام أيضًا لم يخفت الحديث عن كيليان وأمه.
فمنذ بزوغ نجم الشاب الفرنسي، ترك مبابي لوالديه مهمة تحديد مصيره، فكان أبوه ويلفريد وكيل أعماله في البداية، فيما تقود أمه الجوانب التجارية، ولكن بعد انفصالهما عن بعضهما، صارت الأخيرة صاحبة النصيب الأكبر في تقرير مصير ابنها كرويًا.
الذئبة والجرو
في العام الماضي أدارت العماري مفاوضات ناجحة جلبت لابنها راتبًا سنويًا يقارب 80 مليون جنيهًا استرليني، وعقد لثلاثة سنوات قد تصل قيمته بمجموع مضاعفة المكافآت إلى 508 ملايين جنيه استرليني، وتلك صفقة لا يحققها سوى حيتان الوكلاء في اللعبة من أمثال مينو رايولا، لكن تلك السيدة التي لا علاقة لها بكرة القدم سوى ابنها استطاعت أن تحققها.
وبالإضافة إلى ذلك، تبدو العماري ذئبة تدافع عن جروها حين يتعرض لهجمات وحملات إعلامية شرسة، فحين أضاع ركلة جزاء تسببت في إقصاء فرنسا أمام سويسرا في يورو 2020، خرجت لتُصرح "أنا مثل الذئب في الدفاع عن ابني، وأصلي القبائلي يجعلني صعبة المراس. الآن يريدون إعدامه في ساحة عامة ولكنني لن أقف لأتفرج، كيليان ما زال صغيرًا وأريد أن أفاجئكم أنه سيضيع الكثير من الفرص مستقبلًا كما سيسجل المزيد من الأهداف".
في تلك المقابلة ألمحت العماري إلى أمر يعنينا حين قالت "كيليان ابن لأب أسود، وهو بور، (لقب يُطلق على أبناء مهاجري فرنسا من عرب شمال إفريقيا)، لذلك كان عليه أن يعاني كثيرًا، ونحن علينا أن نحميه".
كانت العماري واثقة من موهبة ابنها الكبيرة، ففي الثانية عشرة من عمره، خضع مبابي للاختبار في نادي تشيلسي وأثار إعجاب المراقبين، لكن دانييل بوجا الذي اختبر اللاعب، لاحظ أن أمه هي من توجهه ليتحرك في الملعب بينما يكتفي أبوه بقول "هيا"، وحين انتهى الاختبار نصح بوجا مبابي أن يطور بعضًا من مهاراته ليكون جاهزًا للعب في النادي، ولكن العماري تدخلت لتصرخ في وجه الكشاف الإنجليزي "وقع معه الآن أو لا! لأنك ستعود إلينا بعد سنوات محاولًا التوقيع معه بخمسين مليون جنيه استرليني".
الذئبات أكثر احتضانًا لجرائهن
في كتابه "أنا كيليان مبابي" يلقي اللاعب الضوء على دور العماري خلال الفترة التي قضاها مع موناكو، حين تدخلت لتخبر المدرب لويس كامبوس أن ابنها يشعر بالملل قليلًا من التدريب، وحثته أن يخضعه لتدريبات منفصلة مذكرة إياه بأنه "فذ"، كما أنه يمتلك ميزة لا يمتلكها أقرانه وهي "والدان مهتمان بأمره حقًا".
يرى مبابي في أمه أكثر من والدة، فهي بالنسبة إليه صديقة يحدثها عن دواخل علاقاته بأصدقائه من الفتيات، كما أنها تشتري له الملابس دون حتى أن تستشيره في الأمر، لأنها تعلم جيدًا ماذا يحب أن يلبس.
في 2017 حين انتقل إلى باريس، كانت فايزة مندهشة من هذا الكم من الأموال الذي أصبح في متناول أيديهم بين ليلة وضحاها عقب عقود من الفقر، حتى أنها صرحت عن ذلك الخاطر، في مقابلة لها فيما بعد، قائلة "كنت أخشى أن يوقظونا من النوم ويقولوا لنا أعطونا كل مالكم، لقد كنتم تحلمون".
وكان ذلك التخوف هو ما ألهمها في التعامل مع مستقبل ابنها الكروي والمادي، بما يحافظ لهم على تلك المكانة، وظلت تُذكره دائمًا ألا ينسى أنه مهما فعل كلاعب كرة قدم، فإنه ليس ذو مكانة فارقة في تاريخ البشرية مثل العلماء أو المناضلين، لذلك عليه أن يتصرف دومًا كإنسان، ومن هنا، وُلدت مؤسسة مبابي الخيرية التي تتبنى العديد من الأطفال الفقراء والمهاجرين في فرنسا، وتهتم بدراستهم ومستقبلهم المهني. "حياته كرجل أهم لي من حياته كلاعب كرة قدم، إن كبريائي يُولد مما يفعله كيليان كإنسان". هكذا تصف "فايزة" تلك المؤسسة.
لا يعني ذلك مثلًا، أن فايزة العماري تحب ابنها أكثر مما يحب خورخي ميسي ابنه، وهو وكيل أعماله أيضًا، أو أن عاطفتها الأمومية تتجاوز تلك التي لدى ماريا دوس سانتوس أفيرو تجاه كريستيانو رونالدو، فتلك أشياء لا يُمكن الجزم بها. ولكن، يتكرر نموذج فايزة العماري كثيرًا مع الرياضيين السود في أمريكا أو المهاجرين، فقبل 8 سنوات كانت "يو بوجبا"، والدة اللاعب الفرنسي "بول"، هي الشخصية الأهم في حديث الميركاتو، ومن تقود عملية انتقاله من يوفنتوس إلى ريال مدريد أو مانشيستير يونايتد، وظهرت التقارير عن تلك المرأة التي لا يستمع بوجبا إلى أحد سواها.
وهكذا تبدو الحالة أيضًا مع اللاعب ماركوس راشفورد، الذين يرى أن حياته بالكامل تدين إلى فضل أمه ميلاني، التي ربت خمسة أطفال بينما كانت تعمل عملًا لا يوفر لها أكثر من الحد الأدنى للأجور في مدينة مانشيستير. حين حصل راشفورد على وسام MBE من أمير بريطانيا، أهداه لها قائلًا إنه "كرجل ليس سوى نتاج حبها ورعايتها".
في عام 2014 بعيدًا عن كرة القدم، بكى الكثير من متابعي كرة السلة بسبب كلمة اللاعب "كيفين دورانت" حين حصل على جائزة MVP كأفضل لاعب في دوري كرة السلة الأمريكي، وأهداها لأمه باكيًا "أمي، أنت اللاعب الأفضل"، ولكن الجملة الأهم التي تلقي الضوء على تفاني تلك المرأة، التي ربته وأخيه بعد أن هجرهم أبوهم، هي قوله "لقد كانت تملأ طبقي بالطعام، بينما لم يكن هناك شيئًا لتأكله".
تؤكد كلمات "وايت" التي استشهدنا بها في بداية المقال، أن هناك خصوصية تتحلى بها الأسر السوداء خاصة من المهاجرين في أوروبا، أو الأمريكيين من أصل إفريقي في الولايات المتحدة، وتلك يجب أن نتطرق لها.
في أغلب الأحوال تكون الرابطة التي تجمع بين الأمهات السود وأطفالهم غير قابلة للكسر، لأنها علاقة نشأت تحت التهديد الدائم بالفقر والإقصاء والتهميش، بسبب وجود تحديات ومخاوف محددة تواجهها العديد من الأمهات السود غير شائعة في الثقافات الأخرى المجاورة لها، كالحاجة للكفاح لضمان حصول أطفالهن على أفضل تعليم، وأفضل فرصة ممكنة لحمايتهم من أن يكونوا عُرضة للفشل والهامشية في المجتمع، وأن يكونوا عرضة لوحشية الشرطة كذلك.
في كتابها "الأمهات الثلاث: كيف شكلت والدات مارتن لوثر كينج ومالكم إكس وجيمس بالدوين الأمة" ترى عالمة الاجتماع "آنا ماليكا" أن الأمومة السوداء لطالما كانت فعلًا سياسيًا، لأنه لطالما كان على الأمهات السود أن يؤمنّ بشيء يتجاوز ما هو متاح بسهولة، يؤمن لها ولأطفالها ومجتمعها حياة أفضل تحميهم من الماضي الذي يطاردهم دائمًا، بمعنى أنه هناك شيئًا مسيسًا للغاية، لا يتعلق فقط بالقتال من أجل حياة الأم الخاصة، ولكن من أجل حياة كل عزيز عليها، لذلك يجب على كل أم سوداء أن تشعر بالقلق من أن طفلها لن يكون قادرًا على العيش ما لم تقدم له حماية وتربية خاصة.