فيريرا: بطريرك القلعة البيضاء

في صباح أحد الأيام من عام 2005، وبينما يتصفح البروفيسور فيريرا جريدة ريكورد البرتغالية الشهيرة، فوجئ بمقال يحمل انتقادًا لاذعًا له، واﻷغرب أن كاتب المقال تلميذه مورينيو، النجم الساطع في سماء نادي بورتو البرتغالي في تلك الأيام.

أكمل البروفيسور مطالعة ما رآه التلميذ في مدرب يعمل منذ 30 سنة و"لم يفز بأي لقب طوال تاريخه، ومدرب آخر مارس المهنة منذ 3 سنوات وحقق بطولات عدّة (..) فالذي يعمل منذ 30 سنة سينساه التاريخ، لكن الصغير سيظل في أذهان البشر. هذه القصة تذكرني بالحمار الذي عمل لمدة 30 عامًا لكنه فشل في أن يصبح حصانًا". 

كانت الكلمات قاسية على فيريرا، خاصة أنها خرجت على لسان واحد من المقربين، لكنه كعادة مسيرته الطويلة اختار أن يسلك طريقًا مغايرًا، فاختار عدم الرد كقوة دافعة إلى الأمام مشجعة وملهمة.

الحكاية السابقة تبدو مدخلًا مناسبًا لفهم شخصية المدير الفني لفريق نادي الزمالك لكرة القدم جيسوالدو فيريرا، الذي بات معشوقًا لجماهير القلعة البيضاء، خاصة وأنه أعاد بريق ميت عقبة الذي انطفأ طويلًا.

مع البروفيسور الذي لقبته الجماهير بـ"جدي" لكبر سنه والدهاء الذي يخفيه في رأسه، حصل الزمالك على الدوري العام موسم 2022، قبل أن يحصد كأس مصر موسم 2021، على حساب غريمه التقليدي الأهلي. وفي الوقت الذي كان أبناء القلعة البيضاء يحتفلون بالبطولة، صرح جيسوالدو بأنّه أخطأ.

رحلة متواضعة

قبل تلك اللحظة بعقود طويلة، تحديدًا يوم 24 مايو/ أيار 1946، ولد فيريرا في مدينة ميرانديلا البرتغالية، أحبّ كرة القدم ولعبها كأي طفل، لم يُظهر فيها تفوقًا يذكر في شبابه، فبحث عن مضمار آخر ليس ببعيد، سلك الطريق كطالب لعلم الكرة في المعهد العالي للتربية البدنية في لشبونة. 

تخرج فيريرا وهو في الـ24 من عمره بطموح مغاير عن زملائه، وأنشأ مدرسة بالمعهد نفسه لتأهيل المديرين الفنيين الجدد للالتحاق بعالم التدريب الاحترافي عام 1979، حيث تعلم أشهر المدربين البرتغاليين أصول اللعب والتكتيك على يديه، وكان من بين تلاميذه في العام 1980 أكثرهم إثارة للجدل المدير الفني الحالي لفريق روما جوزيه مورينيو.

بالتزامن مع ذلك، خاض فيريرا رحلة تدريبية متواضعة، بدأها مع نادي ريو مايور البرتغالي عام 1981، ومرّ فيها لعقدين كاملين بعدد من الأندية البرتغالية دون تحقيق إنجاز يذكر، كان في إحداها مورينيو مساعدًا له موسم 90-91 مع فريق إستريلا دا أمادورا.

وحين عُرض على فير يرا تولي قيادة بنفيكا في العام 2001، اعتبرها فرصة واقترح على مورينيو أن يكون مساعده في هذه التجربة أيضًا، لكن اﻷخير رفض وراح يتولى قيادة بورتو البرتغالي ويحقق نجاحًا مذهلًا، في حين بقي البروفيسور حتّى 2006 دون ألقاب.

مع بورتو يتوج البروفيسور منذ العام 2006 بالدوري البرتغالي 3 أعوام متتالية، كأول مدير فني يحقق ذلك الإنجاز في البرتغال، علاوة على لقبي للكأس، ولقب السوبر، ويفوز بجائزة أفضل مدرب لثلاث مواسم متتالية بداية

تفوق التلميذ على اﻷستاذ، فقرر أن يزهو بنفسه على حساب البروفيسور، فكتب ما كتب عن الحمار الذي فشل أن يصبح حصانًا، قبل أن يمنح القدر الفرصة لفيريرا بتولي الإدارة الفنية لفريق بورتو، معرض فخر مورينيو، بعد أشهر قليلة من نشر المقال.

مع بورتو يتوج البروفيسور منذ العام 2006 بالدوري البرتغالي 3 أعوام متتالية، كأول مدير فني يحقق ذلك الإنجاز في البرتغال، علاوة على لقبي للكأس، ولقب السوبر، ويفوز بجائزة أفضل مدرب لثلاث مواسم متتالية بداية من 2006/2007.

بعد رحيل فيريرا عن بورتو في مايو 2010، خاض تجارب قصيرة نسبيًا مع فرق ملقا الإسباني، باناثينايكوس اليوناني، سبورتينج لشبونة البرتغالي، سبورتينج براجا. تجارب لم يتعد أطولها عامين كاملين. فيما لم يحقق فيها نجاحًا يذكر، أو يحس معها بتحقق شخصي.

مرتضى يعرقل الجدّ

في فبراير/ شباط 2015 قرر البروفيسور أن يعمل خارج القارة العجوز ﻷول مرة، فكانت الوجهة ميت عقبة في محافظة الجيزة، غير أن البعد لم يُنس المُعلم إكمال الدرس لتلميذه مورينيو.

في أكتوبر/تشرين الأول 2015 وجه فيريرا لـ"سبيشيال وان" اللقب اﻷحب لمورينيو، رسالة عبر صحيفة أوجوجو البرتغالية، لكن على طريقته.

كان فريق تشيلسي، الذي يقوده مورينيو حينذاك، يحتل المركز الـ15 في الدوري الإنجليزي الممتاز بعد مرور 10 جولات، فكتب فيريرا إلى التلميذ "جميع المدربين لديهم لحظات كهذه، لكن عندما يسقط مورينيو فإنه يصعد ويستفيق من جديد وبسهولة، لا تنتظر عبارات الذم من أي شخص، حتى لا يشعرك الأمر بالضغط، وأثق في عودتك للّحظات الجيدة".

مع الزمالك، لم يختلف الأمر كثيرًا، المُعلم لا يتحدث إلا بما يملك. أول ما التقى فيريرا مسؤولي النادي الأبيض، أكد أنه ليس ساحرًا ولا يملك عصًا سحرية لإصلاح الأوضاع داخل الفريق، والأرقام تقول أمامه إن الدوري العام غائب عن النادي منذ 11 سنة كاملة، فلا تنتظروا شيئًا.

في الوقت نفسه أعلن عن امتلاكه لخبرات وإمكانيات تؤهله لعودة الألقاب في المستقبل القريب، ولأجل تحقيق ذلك كان عليه أن يفرض فلسفته الخاصة، وفي مقدمتها الانضباط الإداري والفني.

زمالك 2015 غارق في الهلهلة الإدارية، التي زادت في العشرين سنة الأخيرة، مع حل مجالس الإدارات لأسباب مختلفة، وغياب البطولات عن أغلب الألعاب الرياضية، ومن ثم مزيد من عدم الاستقرار، الذي عمقه رئيس النادي وقتها مرتضى منصور ولا يزال، بتدخله في أمور فريق الكرة بأكثر مما هو مسموح، باختلاف السياق والمديرين الفنيين.

بينما البروفيسور لم يكن يعرف إلا الحسم. عقب فوز الزمالك بكأس مصر على حساب الأهلي 2015، تفاجأ فيريرا بوجود عضو بمجلس إدارة النادي في غرفة خلع الملابس في ستاد بتروسبورت، للاحتفال مع الفريق بالكأس، مما أثار غضبه واضطر المدرب لطرد العضو، بعد إخباره بأنها منطقة مسموحة للاعبين والجهاز الفني فقط، قبل أن يتقدم بمذكرة لمجلس الإدارة يطلب فيها عدم حضور أي عضو من المجلس لغرفة خلع الملابس مستقبلًا. 

التداخل بين ما هو فني وما هو إداري، أكثر ما عانى منه فيريرا مع الزمالك. حدّ أنه كان على موعد مع مباراة في الكونغو بالبطولة الإفريقية، فأصر منصور على سفر 3 لاعبين مقيدين جدد رغمًا عن المدرب، قائلًا بانفعال "فيريرا لا يريد سفر كل اللاعبين الجدد إلى الكونغو، والكلام ده مش هيمشي"، فرحل البرتغالي بعد رابع مباريات الزمالك في الدوري المصري 2015/2016، وقبل أن يكمل عامًا، رغم تتويجه بالثنائية التاريخية (دوري وكأس) موسم 2014/2015، بعد غياب دام 27 سنة.

لم تتوقف حملة منصور الشرسة على الرجل، حتى بعد رحيله إلى نادي السد القطري، واصفًا إياه بـ"مجرم وعميل لقطر". أما فيريرا فظل يعمل وفق مبدأه، "القدرة على إدراك أننا يجب أن نكون غدًا أفضل من اليوم، أنا متأكد بكوني دائمًا أفضل في كل عام يمر". 

في قطر، حققت تجربته نجاحًا بفوزه بأربعة ألقاب محلية في ثلاث سنوات ونصف؛ دوري نجوم قطر وكأسها وكأس الأمير وكأس السوبر. بعدها مرّ بتجربتين قصيرتين؛ ثمانية أشهر مع نادي سانتوس البرازيلي، وأقل منها مع بوافيشتا البرتغالي، ليكون على موعد مع الزمالك من جديد في مارس/ آذار الماضي، لاستكمال الدرس الذي بدأه قبل رحيله ولم يُنهه.

اعتقد المحلل الرياضي أيمن يونس في حديثه للمنصة، أن فضل تحقيق إرادة فيريرا يعود لمجلس إدارة نادي الزمالك

عائد إلى ميت عقبة

في العودة اشترط فيريرا منحه الحرية في الأمور الخاصة بفريق الكرة، وعدم تدخل مسؤولي النادي في صفقات اللاعبين، أو بقول مدرب منتخب مصر اﻷسبق حسن شحاتة "يعمل من دماغه".

واعتقد المحلل الرياضي أيمن يونس في حديثه للمنصة، أن فضل تحقيق إرادة فيريرا يعود لمجلس إدارة نادي الزمالك، الذي "منحه كامل الحرية في الاختيارات الفنية والتواصل مع اللاعبين".

هناك سر آخر لنجاح فيريرا، وهو ألا يلعب أحدهم تحت قيادته دون تطور مستواه، وإن صادف هذا فيعني أنه هو الذي فشل، إما لأنه لم يضف له جديد، أو لأنه أخطأ في اختياره منذ البداية.

في لقائه الأول بهم بعد عودته للزمالك مؤخرًا، قال فيريرا للاعبين "أنتم لا تعرفون كيف تُلعب كرة القدم". أراد منذ اللحظة الأولى أن يفرض منهجه الخاص. فالملعب محجوز للمجتهدين وليس للنجوم أو الأسماء الجماهيرية، هكذا أقرّ عدلًا ونفذ. احتوى قوة الزمالك الكامنة، الأسمر شيكابالا، فارتضى الأخير بدكة البدلاء قائدًا من الخارج.

مُنع الزمالك من قيد لاعبين جدد، فاعتمد على ناشئين صاروا معه أعمدة أساسية. رحل طارق حامد وأشرف بن شرقي، فلم يتأثر فريق أصبح عماده الجماعية. وهو ما كان يندر قبله، ومع مدربين كبار أيضًا.

بقي البروفيسور مختلفًا، فحصد ثنائية جديدة (الدوري والكأس)، من الصعب أن يجود بها التاريخ، ليعادل ألقاب البرازيلي كابرال والألماني أوتوفيستر مع الزمالك، وينضم معهما في أعلى قائمة المدربين الذين حصدوا 4 ألقاب مع الفريق الأبيض.

سر العبقرية

النجاح لا يأتي صدفة، وفي حالة "البروفيسور" نتج عن "عبقرية" بوصف المحلل الرياضي أيمن يونس. يقول اﻷخير للمنصة، إن أول شواهد تلك العبقرية "نستنبطها في طريقة تعامل البرتغالي مع أجواء ما قبل المباراة"، ويقصد بالحرف "فن صناعة أجواء نفسية إيجابية للاعبين، بشكل محترف ومختلف عما عهدناه في السابق، تساعد على إخراج طاقتهم الكامنة والظهور بأفضل ما يملكون من إمكانيات وروح قتالية في الملعب، وهو فن يوصف محترفيه في كرة القدم بالعبقرية".

ولإثبات نظريته، يطرح يونس المعطيات التي وجد فيريرا نفسه مطالبًا باستنتاجات بناءً عليها، عند عودته إلى الزمالك للمرة الثانية، قائلًا "أي مدرب آخر لن يكون ملامًا إذا تحجج عند توليه المسؤولية بالمشاكل الإدارية في النادي ووقف القيد ورحيل نجوم عن الفريق في ظل نقص عددي"، أما البروفيسور فاختار الطريق الأصعب في نظر المحلل الرياضي وسار في دروبه الوعرة ليستحق لقب "العبقري" بجدارة.

جانب آخر من "العبقرية" يسلط يونس الضوء عليه، وهو إدارته الفنية للمباريات وتوظيف اللاعبين، ضاربًا المثل بـ"استغلاله محمد عبدالغني وأشرف روقا وإسلام جابر في منتصف الملعب بهذا النجاح، وهي عناصر لو طرح أحدهم إمكانية نجاحها بهذا الشكل لقُوبل بالضحكات"، و"عملية تحرير لاعبين أمثال سيد زيزو وإمام عاشور في الملعب مع إلزام آخرين في الوقت نفسه بواجبات دفاعية صارمة بذكاء كبير وتجانس تام بين الدفاع والهجوم"، إضافة إلى "توطينه لمجموعة ناشئين كعنصر أساسي في شخصية الفريق".

أخيرًا، يعود الزمالك إلى بريقه من جديد، يحصد بطولات متتالية بعد غياب سنوات، ليصبح فيريرا اﻷب الرئيس الذي يفاجئ الجميع وقت الانتصار بالكأس ويقرّ بالخطأ في التغييرات وتفويت فرصة فوز تاريخي، لتقف الجماهير بانبهار وتقدير للرجل الذي يستحق أن تلقبه بـ"بطريرك القلعة البيضاء".