تصميم أحمد بلال، المنصة، 2025
المعلق الراحل ميمي الشربيني

ميمي الشربيني.. قماشة تانية

منشور الجمعة 7 فبراير 2025

عندما أراد ميمي الشربيني التعبير عن إمكانيات رضا عبد العال قال "قماشة تانية رضا.. قماشة تانية"، وهو نفسه التعبير الذي أستعيره منه للحديث عنه: قماشة تانية!

لم يكن ميمي الشربيني حلقةً من حلقات التعليق الكروي المصري عبر تاريخه الممتد، بل استثناء واضح، يجعله مستقلًا تمامًا عمن سبقوه، ومن لحقوا به، وإن لم يكن منبتَّ الصلة أو قليل التأثير، لكنه يبقى نسيجًا فريدًا، نحاول الآن استكشاف ملامحه العامة التي تجاوزت مصطلحًا هنا أو لازمة هناك.

بدأ التعليق بالطبع مع ظهور التليفزيون 1960، وكان في بادئ الأمر امتدادًا للتعليق الإذاعي عندما كان الراديو يغطي المباريات ولا ينقل صورتها. ولم تكد تمر فترة بسيطة حتى تصدَّر للأمر الكابتن محمد لطيف، أحد أقطاب الكرة المصرية عبر تاريخها لاعبًا وحكَمًا وإداريًا ومسؤولًا.

كان الدور الذي لعبه كابتن لطيف هو دور الأب والمدرِّس قبل أن يكون متصلًا بالنشاط من حيث كونه رياضة أو من حيث إنها كرة قدم، فكان عليه أن يرسي قواعد التشجيع، ويعلِّم أساسيات ومبادئ اللعبة، فاشتهر بتعليقاته الإرشادية من نوعية "الحكم حكم واللاعب لاعب"، أو "الحكم هو الميقاتي الوحيد للمباراة"، وغيرهما.

كان كابتن لطيف موضع انتقاد معلق آخر، لم يكن معلقًا لكرة القدم رغم معرفته الواسعة بها، لكنه اختار، أو اختاروا له، مباريات التنس. كان ذلك هو عادل شريف، الذي كان يأخذ على لطيف ضَعف ثقافته، وعدم تميز إيقاعه، وقلة تحضيره للمباراة المنقولة على وجه التحديد، وهو ما كان يطبقه شريف في تعليقه على التنس، لكن خصوصية كرة القدم جعلت القائمين على الأمر يفضلون طريقة لطيف ويدعمونها.

بالفعل، كان كابتن لطيف يحظى بشعبية كبيرة، وكان أحد الهتافات الشهيرة في المدرجات: وشك حلو يا لطيف، خصوصًا عندما يفوز منتخب مصر في مباراة من تعليق "الأب". واستمر هذا سنينًا طوالًا، حتى تقدم العمر بلطيف، ولم يعد قادرًا على إخفاء انتمائه للزمالك الذي يشجعه، فاقتصر تعليقه على مباريات المنتخب، وظهرت دفعة من المعلقين كان مطلوبًا منهم الحفاظ على الموقع الأبوي للمعلق، وزاد على ذلك مبالغة في التزام الحياد.

ثم ظهر ميمي

أحدث ظهور نجم الأهلي ومنتخب مصر السابق ثورةً في التعليق، أسسها على إسهامات عادل شريف وأفكاره، وهذه الثورة قائمة بالأساس على أن ركيزتي التعليق الكلاسيكي ليستا كافيتين، بل ربما ليستا بهذا القدْر من الأهمية، وبالطبع الركيزتان هما الوصاية والحياد، بل إن هناك أسئلة لا يهتم أحد بطرحها، فضلًا عن إجابتها.

أول تلك الأسئلة عن طبيعة ودور المعلق من الناحية العملية، فالمباراة حدث منقول على الهواء مباشرة، أي أن المشاهد يطّلع على أحداثها في نفس اللحظة مع المعلّق، بالتالي يأتي التعليق متأخرًا لثوانٍ، كافية لجعل الاكتفاء بالوصف وحده قصورًا فادحًا ما لم يقدم المعلق أي إضافة.


هذه الإضافة التي شغلت الشربيني، كانت هي المدخل لاختراع لغة كاملة تخص عالم كرة القدم، لم يكن الأمر مجرد تعبير لطيف، بل قاموس متكامل يبدأ من إعادة تسمية اللعبة نفسها، فتصبح "الساحرة المستديرة"، ثم يشمل ذلك القاموس عناصر اللعبة كافة؛ الملعب، الوقت، اللاعبين، الحكام، وحتى الجمهور.

قاموس ميمي الشربيني بلغ من الشمول والدقة أن أحدًا من المعلقين الذين جاءوا بعده لا يمكنه الخروج عنه بالكلية، لا بد وأن يستخدم على الأقل تعبيرًا واحدًا منها، لأنها أصبحت جزءًا من مفهوم اللعبة ذاتها، والكثير من هذه التعبيرات لا تتصور الأجيال التالية أنها لم تكن موجودة أساسًا حتى اخترعها ميمي.

انطلاقًا من أهمية "الإضافة"، انتبه ميمي إلى أن هناك نقصًا فادحًا في المعلومات، حتى إن بعض المعلقين لا يَذكرون أسماء اللاعبين لا سيما في المباريات الإفريقية، مثل حسين مدكور الذي كان مشهورًا بتعبير "الراجل ده"، إشارة إلى لاعبي الفريق الإفريقي المنافس.

كان ذِكر المعلومات البديهية عن اللاعبين والفريقين وتاريخ البطولة يستلزم تحضيرًا شديد الصعوبة في عالم ما قبل الإنترنت، خاصة مع غياب الصحافة الورقية المعنية بثقافة اللعبة، لكنه بالفعل بذل هذا المجهود، فكانت المباريات من تعليقه فرصة لمعرفة المعلومات الغائبة، حتى عن لاعبينا أنفسهم.

بمرور الوقت، وتمرُّس الشربيني وتثبيته دعائم طريقته، لم يتوقف بحثه عن التطوير، ويمكن الحديث هنا عن جناحين انطلق بهما على مدار تسعينيات القرن الماضي، والعقد الأول من الألفية الجديدة، هذان الجناحان هما الدقة والأسلوب.

تمثلت الدقة في عدم عشوائية نثر التعبيرات المبتكرة، مثلًا في بدايات تعليقه كان يستخدم تعبير "ارتدى قفاز الإجادة" في الإشارة لحارس المرمى الذي قدَّم أداءً مميزًا، أو يصف لاعبًا متألقًا في ضربات الرأس بأنه "أحد رواد الفضاء".

لكن مع الوقت، أصبح يصك تعبيرات خاصة للاعب معين في موقف خاص، تعبِّر عنه ولا يستخدمها مع آخرين، مثل قوله عن عماد النحاس الذي "أعاد للدفاع الأحمر الكبرياء والاتزان"، أو حازم إمام الذي "تمريراته كالأوامر"، أو طاهر أبو زيد الذي "أعاد اكتشاف نفسه في مشهد دراماتيكي غريب"، وغيرها وغيرها.

أما الأسلوب، فكان باختيار الشاعرية سمةً لبناء تعليقاته على ما يجري، حتى إنَّ بعض الجمل المرتجلة، تكاد تنطبق عليها معايير القصائد القصيرة، من ذلك عندما سجَّل مايكل أوين هدفه التاريخي في مرمى الأرجنتين في مونديال فرنسا 1998، ليقول ميمي الشربيني:

يخرج عن النص مايكل في الدقيقة 15 

ويقدم فاصل من العزف المنفرد

ويتخطى يافطة ممنوع الاقتراب الإنجليزية

ويتقمص شخصية مارادونا

ويفوز بالفاول

ويحطها على يمين كارلوس روا

مع تحيات مايكل أوين

بالطبع هناك الكثير من السمات التي يمكن الحديث عنها عندما يتعلق الأمر بميمي الشربيني، مما لا يتسع له المجال، لكن ما أشير إليه هو أنه لا أحد بعده كانت له مدرسة لها ملامح محددة قابلة للرصد، وتتميز بالتكامل والتنوع فيما يمكن إضافته، فقط تعددت مدارس التعليق، وظهر من تنطبق عليه شروط هذه المدرسة أو تلك، لكن لم يكن هناك صانع اتجاه بعد ميمي؛ لذا فهو فعلًا "قماشة تانية".