في عام 1939، وفي الوقت الذي لم يتجاوز فيه عدد سكان تركيا 17 مليونًا، بيعت عشرات الآلاف من تذاكر العرض السينمائي للفيلم المصري دموع الحب لمحمد عبد الوهاب، إذ كانت السينما في هذا الوقت وسيلة الترفيه الأساسية لدى الأتراك، وكان للأفلام المصرية حضور طاغ ومثير.
الحضور الفني المصري في تركيا، هو ما يتوقف أمامه كتاب "وحدة الموسيقى العربية والتركية في القرن العشرين" للكاتب والمؤرخ مراد أوزيلدريم، من ترجمة ملاك دينيز أوزدمير، ومراجعة الشاعر والمترجم المصري أحمد زكريا، الصادر نهاية مايو/أيار الماضي، ضمن مشروع "كلمة" للترجمة بمركز أبو ظبي للغة العربية.
يخصص أوزيلدريم، في دراسته، التي نشرت بالتركية عام 2013، الفصلين العاشر والحادي عشر لاستعراض ظاهرة "الإقبال على الأفلام المصرية في دور السينما التركية"، ضمن التأثيرات الفنية المتبادلة في الموسيقى والفن بين مصر وتركيا، فإن أثرت الموسيقى التركية في نظيرتها المصرية في البدايات، إلا أن الأخيرة كانت لها أيضاً تأثيرات كبيرة.
السينما المصرية تنافس الأمريكية
هنا، وإن اختص الجانب الأكبر من الكتاب للحديث عن الموسيقى، لكنه يستعرض في فصلين كاملين حضور السينما المصرية في تركيا، وكيف استقبل الأتراك الأفلام المصرية، وكأننا أمام وضع مقلوب لما شهدته السنوات الأخيرة من تأثير طاغٍ للدراما التركية المدبلجة في مصر.
في ثلاثينيات القرن الفائت، حضرت السينما المصرية وشغف بها الأتراك، حتى أن الأفلام المصرية كانت تنافس الأفلام الأمريكية، فـ"الديكورات ساحرة ومليئة بثقافة المدينة"، كما يتحدث رئيس فرع جمعية إسكندرون لحقوق الإنسان سعد الدين تشاغلار، ضمن الشهادات التي يوردها مؤلف الكتاب عن تأثير السينما المصرية في الشعب التركي، الذي كان يعيش في هذه الفترة في كنف دولة أتاتورك، المغرمة بالتغريب، والتحديث، والاتجاه نحو أوروبا.
طوابير أمام سينمات إسطنبول
في عام 1939، وبعد سنتين من عرضه في القاهرة، لم يتوقع أحدٌ أن يحدث فيلم دموع الحب لعبد الوهاب ونجاة علي، ومن إخراج محمد كريم، وتأليف جون بابتيست ألفونس كار، هذا التأثير المفاجئ في تركيا، و"حاز استقبالاً لم يسبق له مثيل، حتى أن الجموع الكبيرة احتشدت أمام سينمات إسطنبول، وامتدت الطوابير أمتارًا طويلة، حتى كاد المحتشدون أن يطأ بعضهم بعضًا للدخول لقاعة العرض"، كما ينقل مؤلف الكتاب من جريدة "صون بوست"، في متابعتها اليومية بتاريخ 1 يناير/كانون الثاني 1939.
وبعد أن شاهد الفيلم 150 ألف تركي في أربعة أيام في سينما "تقسيم"؛ تحول العمل المصري إلى حديث الجماهير، بالذات أغنية "سهرت منه الليالي" التي ترجمها المغني التركي حافظ برهان سيسيلماز وغناها بالتركية، وينقل أوزيلدريم، نصّ إعلان صحيفة "صون بوست" عن الفيلم، "على الرغم من العواصف وموجة البرد والأمطار والوحل، التي كانت تشهدها إسطنبول آنذاك، لم يكترث سكان إسطنبول، بكل ذلك، وتوافدوا على سينما أزاك وشهرزاده باشي فرح لمشاهدة الفيلم".
لم يتوقف تأثير "دموع الحب" عند حالة الهوس الجماهيري به، لكنه أصبح مصدر تأثير وإلهام لعدد من الأفلام التركية، حتى أن المنتج تجات سيدام قدم عملًا بالاسم نفسه، ومن بعده ظافر داود، كما يورد المؤلف.
محظية هارون الرشيد
ولم يكن عبد الوهاب فقط نجم الشباك في تركيا، فأغلب أفلام المرحلة شهدت الإقبال ذاته، مثل فيلم دنانير لأم كلثوم الذي عرض في تركيا تحت عنوان "محظية هارون الرشيد"، كما عرض لها فيلم نشيد الأمل.
ويورد أوزيلدريم، أن فيلم يوسف وهبي أولاد الفقراء، اكتسب بدوره "سمعة مستحقة"، ونشرت عنه جريدة "أولوس" "الليلة يعرض الفيلم الذي صفق له بشدة، وشاهده حتى الآن 80 ألف مشاهد، وهو بكلمات وأغانٍ تركية". ويشير المؤلف إلى أنه من شدة تأثير الفيلم أخرج التركي ممدوح أون نسخة تركية تحت عنوان "الأطفال الفقراء".
ليلى "قلب مصر"
فيلم آخر نال حضورًا كبيرًا لدى الجمهور التركي، وهو "قلبي دليلى" للثنائي ليلى مراد وأنور وجدي، وعرض في سينمات أنقرة عام 1951، حتى نشرت صحيفة "أولوس" إعلان الفيلم "تحفة مصرية أعدها أعظم فناني السينما في الشرق.. أعظم فناني مصر ليلى مراد وأنور وجدي رفعا الفن إلى الأعالي بهذا الفيلم الرائع"، ونشرت صحيفة "راديو مجازين" مقابلة طويلة بتاريخ 17 فبراير/شباط 1951، مع ليلى مراد وأنور وجدي، إذ سافر المحرران ظفر سوليك وحكمت إلديز، إلى مصر، خصيصًا لإجراء المقابلة، التي نشرت تحت عنوان "الزوجان السعيدان اللذان تعوّدا على المشاجرة المستمرة".
وكما يؤكد مؤلف الكتاب فإن هذه المقابلة حازت أهمية "لأنها توضح كيف أصبحت ليلى وأنور مشهورين في تركيا"، ويبدي المحرر التركي ظفر سوليك إعجابه بالجمال الطاغي لليلى مراد، ويصفها بأن "صورتها تسحر الرجال"، ويعتبرها "زميلة أوفيليا في مسرحية هاملت، وهي حورية عيناها مثل الواحة وهي قلب مصر"، في حين يصف أنور وجدي بـ"روح مصر".
نساء تركيا يهملن منازلهن
ويخصص المؤرخ التركي فصلًا بعنوان "شهادات حول انتشار الأفلام المصرية في المدن التركية"، يورد فيه عددًا من الشهادات للأتراك حول التأثير الذي تركه الفن المصري في وجدانهم. كمقال طريف نشر في مجلة "خلق" عدد 14 ديسمبر/كانون اﻷول 1947، ويدين فيه المؤلف هذا الشغف الذي تبديه نساء تركيا نحو السينما، بالأخص نحو الأفلام المصرية، حتى أنهن يهملن منازلهن بسببها.
المقال الذي جاء بعنوان "فضول السينما عند نسائنا"، يقول "تتدفق النساء إلى السينما يومي الثلاثاء والخميس، في طرابزون، كل المشكلة تكمن في أن الأفلام العربية (المصرية) جميلة للغاية، لدرجة أن الإنسان لا يشبع من مشاهدتها، ولذلك لا تخلو السينما من النساء، حتى جدتي صارت تذهب إلى السينما، وعندما تعود في المساء لا تجعل أحدًا يتحدث وتبدأ في الحديث عن الأفلام والفنانين، تتحدث عن فاطمة رشدي التي لا يوجد لها مثيل في العالم، ويوسف وهبي الرجل الرائع الذي يبكي الجماهير".
وضمن إدانته الساخرة لهذا الهوس لدى نساء تركيا، بالأفلام المصرية، حتى أنهن غيرن "التهويدات" التي يرددنها على مسامع بناتهن الصغيرات حتى يخلدن للنوم، من "شعرها مثل الحرير/ وجبهتها مثل ورق الكاتب/ وعيناها زيتون أسود/ وخداها مثل الزنبق" إلى "وجه أمينة رزق/ شعر هيدي لامار/ قامة فاطمة رشدي/ نامي يا طفلتي واذهبي إلى السينما".
وينقل المؤلف وصف تأثير سينما مصر على نساء تركيا، من كتاب "أوسكودار الذي أشتاق إليها"، لأحمد يوسكل "في الأربعينات بحي أوسكودار، كانت تعرض أفلام مصرية كثيرة.. واعتادت سيدات الحي على مشاهدتها عدة مرات والبكاء كثيرًا، وكان أكثر الفنانين المحبوبين آنذاك عبد الوهاب وليلى مراد ويوسف وهبي وأمينة رزق وأنور وجدي وسامية جمال وتحية كاريوكا".
أنقذوا اللغة التركية
هذا الإقبال على السينما المصرية في تركيا، لم يمر على الساسة والمثقفين الأتراك المتحفزين، "في ظل إدارة الحزب الواحد"، أي أتاتورك "الشعب الجمهوري". ولم ترح "طوابير التذاكر الطويلة أمام دور السينما في إسطنبول لمشاهدة الأفلام المصرية" الحكومةَ التركية، مع ما يمثله ذلك من وجهة نظرها من خطورة التأثير المصري، وطغيان اللغة والثقافة العربية على اللغة التركية.
ويحذر حزب "جمهوريات خلق فرقة سي" من هذا التأثير العربي للأفلام المصرية، ويقدم عريضة إلى وزارة الداخلية التركية 10فبراير 1942، يقول فيها "لقد قل اهتمام الناس باللغة التركية، في المدن الواقعة تحت تأثير الثقافة العربية، بسبب تأثير الأفلام، لذلك يجب منع بث الأفلام العربية".
ويستشهد مؤلف الكتاب على هذه الروح العدائية تجاه السينما العربية، بمقال منشور في العدد 133 من مجلة "أكبابا"، وكتب صاحب المجلة يوسف ضياء أورتاتش، تحت عنوان "خطر"، محذرًا من تأثير السينما المصري، "يوجد الآن في كل سينما فيلم عربي، وكانت الأناضول مفتونة بهذه الأفلام القديمة التي يرتدي فيها الممثلون الطرابيش.. يجب أن نخاف من هذا العدو الجديد: السينما أقوى بكثير من أدب الديوان العثماني".
قبل 80 عامًا على "نور ومهند"
أمام هذه المخاوف التي تتلاقى مع محاولات الإدارة التركية حينذاك للتحول بتركيا أتاتورك من الشرق نحو الغرب، حظرت المديرية العامة للمطبوعات عرض الأفلام التي تحتوي على أغانٍ عربية بلغتها الأصلية. كما كتبت بعض المصادر أن المديرية العامة للصحافة في أنقرة انزعجت من استمرار اهتمام الجمهور بالأفلام العربية في إسطنبول ومدن الأناضول، وحظرت جلب الأفلام من مصر عام 1948، كما كتبت بعض المصادر، ويشكك المؤلف في أن هذا الحظر قد دخل حيز التفيذ بالفعل، حيث ظلت الأفلام المصرية تعرض، كما شهد عام 1949 عرض 8 أفلام مصرية (ص 267).
بعد ذلك جرت في النهر مياه كثيرة، حتى وصلنا إلى العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين، وحضرت الدراما التركية حضورًا كبيرًا ممثلة في مسلسلات مثل "قيامة أرطغول" و"الحفرة" و"العشق الممنوع" و"نور" المعروف بـ"نور ومهند"، وبعد أن انشغل الأتراك بنجوم مصر مثل عبد الوهاب وليلى مراد وسامية جمال، انشغل المصريون بنجوم تركيا مثل كيفانش تاتليتوج سونجول أودان.