يبدأ بهو السفارة الفرنسية في القاهرة بباب أنيق مصفح من النحاس، كُتب عليه اسم الظاهر بيبرس البندقداري، والذي نُقل من مدرسته الكائنة بشارع المعز في أواخر القرن التاسع عشر بعد هدمها، وفي نهاية البهو حيث مكتب السفير الفرنسي، كان الدكتور غالب بن شيخ، ينتظر بابتسامة مهذبة وجلسة مطمئنة. كانت تلك العلامتان؛ الأثر القاهري الإسلامي القديم وهدوء غالب، كافيتين لأنْ ينصبُ حديثُنا كله عن القاهرة التي صارت تتخلى عن آثارها الإسلامية وتُخاصم الهدوء إلى غير رجعة.
عَرف الفرنسي من أصل جزائري القاهرةَ في صباه؛ بسبب والده الذي كان يشغل منصبًا دبلوماسيًا فيها، لكن الصورة الحالية التي صارت إليها مدينة المعز في ظلّ محاولات "التطوير" التي لا تبدي اكتراثًا كبيرًا بالأبعاد المدينية والتاريخية للعاصمة، لا تزعج باحث القرآن، الذي لا يزال يراها متحفًا مفتوحًا وعاصمة حضارية.
غالب بن شيخ فيزيائي في الأساس، لكن نتاجه البحثي اللاحق تركز على الفلسفة، وأفرز عددًا كبيرًا من المؤلفات عن الإسلام والقرآن وعلاقتهما بالديانات الأخرى، فضلًا عن رئاسته الحالية لمؤسسة إسلام فرنسا/FIF، وانتمائه إلى أسرة فاعلة في المجتمع الإسلامي هناك، فجده الشيخ حسين كان إمام مسجد باريس الكبير قبل أن يتقلد غالب رئاسته في مرحلة لاحقة.
لذلك، فإن الحديث عن القاهرة التي جاء إليها بن شيخ في زيارة قصيرة قبل أسابيع، والتقته المنصة، لا ينفصل عن الدين الإسلامي الذي صُبغت طبعتها القديمة باسمه، والذي ربما يعاني مثلها من مأزق مع الحداثة، وهو ما ينفيه الرئيس السابق لمسجد باريس ويرى أن "روحانيات الدين وشعائره تتماشى مع البدو، مع احترامي الكامل للنُبل البدوي، وتتماشى مع ما تدّعيه المدينة/الدولة في سنغافورة مثلًا. أمّا الآن، فكرة الحداثة هي فكرة تاريخية وفلسفية".
ويضيف أن هذا يحتمل الجدل، لأن "الحداثة ليست فقط حقبة تاريخية وليست الرقي التكنولوجي وليست المباني الشاهقة أو السيارات أو ما نستعمله الآن أو الذكاء الإصطناعي. الحداثة تعني أيضًا تكريس الحريات الأساسية كحرية الضمير والمعتقد والتدين، وهي حينما لا ندير الأمور الداخلية للمدينة أو للدولة حسب ما نظنه رغبة الإله، فمن يستطيع احتكار ترجمة الإرادة الإلهية لفرضها على المجتمع وخاصًة إذا كان المجتمع يضم هويات متعددة".
وبطبيعة الحال، لا يرى غالب أن الدين يتعارض مع مفهوم العلمانية. فالمسلمون كما يدلل يعيشون في دولة علمانية "ربما حتى أكثر من ذلك، فقد استطاعوا العيش في دولة جعلت من الإلحاد أيدولوجية الدولة، نتكلم عن ألبانيا مثلًا أو الاتحاد السوفييتي، ربما لم تكن لهم الحريات الكافية للقيام بأداء مناسكهم ولكن مع ذلك كانوا مسلمين وبقوا مسلمين وأصبحوا مسلمين، والآن هم ينعمون بحرية أكثر".
ويضيف "في الفرنسية مثلًا هناك من يقول (من يستطيع الأكثر يستطيع الأقل) إذا كان المسلمون يستطيعون أن يعيشون في دولة ملحدة فهم يستطيعون أن يعيشوا في دولة علمانية، لأن العلمانية ليست إلحادًا، العلمانية هي فصل الدين عن الدولة. والسياسة لا تكون بأمر ديني أو لاهوتي، خاصًة إذا كان المجتمع في أغلبيته ليس لديه مرجعية دينية".
ويقول إنه "لا يُمكن أن نأتي ونفرض على المجتمع كليًا نظرتنا للحياة باستثناء ما هو قاسم مشترك للإنسانية كلها، الصدق والوفاء وكل التعاليم وكل القيم التي تدعو إلى سيادة كرامة الإنسان، لا نُعذب أحدًا، لا نسلبه حقه، لا نتعدى على شرفه، هذه كلها معروفة في كل التشريعات، حتى التشريعات الوضعية. إن الذين يطبقون ذلك من حيث الترتيب: نيوزليندا، وأستراليا، ودول إسكندنافيا، وسويسرا، والنرويج، أما التي تدّعي أنها تطبق الشريعة أو تلك التي يكون فيها الإسلام دين الدولة دستوريًا، فهي في ذيل الترتيب".
أول الإصلاحات عدم تسييس الدين وعدم أسلمة السياسة
في رأي أستاذ الفيزياء لم يصل المجتمع الأوروبي لذلك المفهوم من فراغ، فقد "جاء بعد تمخض كبير نحن لم نعش ذلك بل قرأناه وسمعنا عنه"، ولا يضاهي ذلك الصراع الدموي "العمل الفكري داخل السياقات الإسلامية"، لكن ما نعانيه في الوقت نفسه من تدهور وهيمنة للأفكار الأصولية على ما سواها، يعده بن شيخ أمرًا طارئًا، وناتجًا عن تحديات أخرى تعانيها المجتمعات العربية الإسلامية، مثل "الحاكمية في التربية، والتوزيع غير العادل للموارد المادية، إضافة إلى تسييس الدين من طرف السلطات التي ليست لها شرعية".
الإسلام ليس دينًا للدول
في الوقت نفسه لا يُخفي رئيس مؤسسة إسلام فرنسا دهشته من الدول التي تضع في دستورها أن الإسلام الدين الرسمي للدولة، ويعد ذلك واحدة من الآفات التي يعاني منها المجتمع المسلم "ما معنى كلمة الإسلام هو الدين الرسمي للدولة؟ هل الدولة تصوم أو تحج أو تتصدق؟ لأ.. الدولة عبارة عن إطار لممارسة الحكم السياسي، فالمواطنون هم الذين يمكن أن يكون لهم دين أو غير دين، وهذا لم يُفسر لأفراد المجتمع وللمواطنين. إذا قلنا أنه لابد من الدعوة إلى فصل الدين عن الدولة، هناك من يثور ويقول: تريدون الترويج للإلحاد، والعكس هو الصحيح، إذا كان الدين الإسلامي مستقلًا فذلك يصونه".
ويضيف غالب "لما سقطت الخلافة (يقصد العثمانية) أعتقدوا أن وحدة الأمة سوف تتلاشى، فتمسكوا بمسألة وضع الإسلام في الدستور، وفي رأيي المتواضع، فإن الخطأ في هذا المعتقد، أنهم يظنون أن القرآن سيكون أحسن من دستور الدولة المعاصرة، وهذا اضمحلال لشأن القرآن أن يختذل في دستور".
حسب كلام غالب بن شيخ، فإن تسييس الدين وتديين السياسة ليسا حكرًا على التيار الإسلامي، وإنما عامل مشترك بين القوى السياسية التي حكمت على مدار سنوات طويلة بخلفياتها المختلفة. وهي أزمة تحتاج إلى السياسة أكثر منها إلى تغيير الخطاب الديني "يدخل التاريخ من يملك الشجاعة الكافية للإصلاح، وأول تلك الإصلاحات عدم تسييس الدين وعدم أسلمة السياسة. وأعتقد أن المسؤولية تقع أولًا على الحكام، الذين يفتقد بعضهم شرعية البقاء في الحكم أو الوصول إليه، ناهيك عن الذين لم يكونوا أوفياء للقيم التي من أجلها ناضلوا وناضل الشعب حتى استشهدوا، مثل الجزائر والمغرب وتونس عند طرد المستعمر الفرنسي، آنذاك كان يُقال سوف ننعم بالحرية ويكون المجتمع ديمقراطيًا".
ويضيف "حتى اللي أيدولوجيتهم اشتراكية في اليمن قبل الوحدة وبعد الوحدة وتحت حكم صالح، فيما يسمى بفلسفة الديالكتيك، من المفترض أن تكون لهم توجهات ملحدة، ولكنهم جعلوها تتماشى مع الدين. القذافي كذلك بكتابه الأخضر كان يريد بهذا المنوال الذي اخترعه ألا يتنافى مع الدين، وأيضًا فيه بعض استعمالات للدين في المغرب العربي بصفة عامة، هناك من يستغل الطرق الصوفية على أساس أنها سوف تعدل نوعًا ما أو تضاهي أو تقلل من نفوذ الإسلامويين".
الدول العسكرية تستغل الدين أيضًا
ومعضلة ذلك الأمر في رأي بن شيخ، أن "من أراد أن يعارض الحكام (يقصد الإسلاميون منهم) استغل أيضًا الدين بصفة عنيفة"، بصورة أخرى يرى المفكر الفرنسي أن الديكتاتوريات العسكرية في هذه الحالة تنهض لتواجه نمو الإسلام السياسي بذريعة الدفاع عن الأمن، فتدعي الترويج للوسطية في مقابل شيطنة الآخر وعدّه من "الضالين".
العلاج الصحيح لذلك كما يراه بن شيخ هو أن يعي المسلم بأنه "بين فكي كماشة، أو بين المطرقة والسندان. فك السلفيين المتطرفين المتزمتين، وفك صعود اليمين السياسي المتطرف".
وما يجب أن يقوم به المسلم ألا يعتقد أن هويته كلها في الدين، ويضرب مثلًا بالمسلم الفرنسي الذي حين يشعر بالتهميش أو يتعرض لعنصرية فإنه يهرب لهويته وانتمائه الذي يظنه الأساس "الأمة الإسلامية"، معتقدًا أن ذلك سيمنحه الانتماء والفخر. رغم أن انتمائه يجب أن يكون للمجتمع الفرنسي "عليه أن يعرف أن قضية الهوية متعددة، يمكن أنه يشجع فريق باريس سان جيرمان أو فريق ليون، يمكن أن يمضي عطلة الصيف في بريطانيا الصغرى أو في الجنوب، ممكن أنه يكون نقابيًا أو يكون منخرطًا مع نقابة أرباب الأعمال، ممكن أن يدرس في مدرسة خاصة أو مدرسة عمومية، له خيارات. وهذا يمنح هويته ديناميكية".
ذلك التصور الأخير عن المسلم، يشبه في وجه من وجوهه المعضلة الرئيسة التي انطلقنا منها في حوارنا مع المفكر الفرنسي عندما بدأنا من القاهرة ثم تطرقنا إلى ما يتعلق بوضع المجتمع الإسلامي وما يعانيه، ولكن هل ابتعدنا لحظة عن العاصمة؟
إن هوية القاهرة ومأزقها بين الإخلاص لماضيها وإهمال وجهيها المديني والتاريخي على السواء، لا يختلفان في حديث غالب بن شيخ، الرئيس السابق لمسجد باريس والحالي لمؤسسة إسلام فرنسا، عن أزمة المسلم عمومًا، فالمدينة التي رآها بعين الماضي طفلًا والحاضر الذي يعاصره كباحث مهتم بالدين الإسلامي، حلها مثل المسلم، حين تدرك، والقائمون عليها، أنها تملك هويات متعددة وأن هذا هو ما يمنحها "الدينامكية" والبقاء.