بدأ الدوري المصري بأحد عشر ناديًا في أولى نسخه، 11 ناديًا! هل كان مقصودًا هذا الرقم العجيب؟
هو عجيب لأن منافسات كرة القدم تحتاج رقمًا زوجيًا، خصوصًا عندما يكون التنافس في صورة الدوري، لا خروج المغلوب. الأرقام الفردية مربكة للنظام، ومستحيل أن تحقق بها مبدأ تكافؤ الفرص، أو حتى تقترب منه، إذ يكون إجباريًا ألا تخوض الأندية منافساتها في توقيت واحد، لا سيما الجولات الأخيرة، فلمَ اختار اتحاد الكرة المصري ذلك الرقم؟ وعلى أي أساس؟
أهلًا وسهلًا بالجاهز
ما نفهمه من تغطيات الصحف لفترة انطلاق الدوري، أن كل شيء كان على عجل، ما بين القرار والتنفيذ أسابيع قليلة، في الثاني والعشرين من سبتمبر/أيلول 1948 نشرت الأهرام قرار انطلاق مسابقة دورية في عموم القطر المصري، وفي الثاني والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول انطلقت بالفعل، شهر واحد فقط، هل كان كافيًا لدراسة أي شيء؟
قبل انطلاق المسابقة بأيام قليلة، تحديدًا ثلاثة أيام، نشر إبراهيم علام "جهينة" في الأهرام ما نصه "تلقينا أمس الجدول العام لمباريات دوري كرة القدم، وهو يشتمل على 50 مباراة في الدور الأول ومثلها في الدور الثاني، وقد تتبعنا مباريات كل ناد من أنديته العشرة، فوجدنا أن الأهلي سيلعب 20 مباراة في الشوطين في مختلف مناطق مصر الأربع، وأن الدوري يشمل أربعة أندية من كل من العاصمتين، وناديين من بورسعيد، ونادٍ واحد من الإسماعيلية".
إحساس الترهل يخلق شكوى دائمة، ورغبة في تخفيض عدد الأندية، وتقليص عدد المباريات، لكنها مستحيلة التنفيذ
نلاحظ هنا أن جهينة أخطأ في عدد الأندية وفي عدد المباريات، فالأندية أحد عشر، والمباريات 55 في كل دور (كانوا يسمون الدور "شوط") لكنه كتب عشرة أندية وخمسين مباراة، ثم عندما فصل الأندية حسب الأقاليم، تجدها أحد عشر.
هذا الارتباك يعطينا دلالة أنه لا شيء مقصود أو مدروس، فقط خطوط عريضة، ثلاث مناطق جغرافية: القاهرة والإسكندرية والقناة، وأي نادٍ جاهز أهلًا وسهلًا.
شوطان قدرتهما ثمانية
رغم ذلك لا يمكننا القول إن الاتحاد المصري لكرة القدم كان يفتقد الرؤية بصورة تامة، بل كان هناك تقدير واضح، من الناحية النظرية، لعدد الأندية المناسب لقدرات الكرة المصرية سواءً من ناحية التنظيم أو من ناحية قدرات الأندية على خوض المنافسات، وهذا العدد كان ثمانية أندية فقط لا غير.
نعم، ثمانية أندية، وهذا ليس استنتاجًا، بل كان منصوصا عليه في لائحة النسخة الأولى من المسابقة، إذ كان نظام الهبوط إلى الدرجات الأدنى، والصعود منها، يقضي بأن تنطلق النسخة الثانية بهذا العدد (8 أندية) وهو ما لم يتحقق قط في أي نسخة لأسباب مختلفة، منها مثلا عدم إقامة الدرجة الثانية في أول نسخة، لم يستطيعوا تنظيمها من الأساس.
ما استطاع الاتحاد المصري تحقيقه هو تخفيض عدد الأندية بمقدار ناد واحد، ليقام الدوري بعشرة أندية لعدة مواسم تالية. والطريف أنه عبر تلك المواسم كانت هناك شكوى دائمة من عدد أندية الدوري (الكبير) الذي يفوق قدرات الكرة المصرية، دون التدخل على الأرض لضبط ذلك العدد.
عبر تاريخ الدوري المصري الطويل، ستبقى تلك المشكلة دائمة، إحساس عام بأن عدد أندية المسابقة أكبر من قدراتها، والجميع يشكون، ولا أحد يتدخل لضبط الأمور، وعندما يحدث التدخل، يكون في الاتجاه المعاكس، أي زيادة العدد وزيادة المنافسات.
تقديري أن تلك المشكلة السرمدية الخاصة بالدوري المصري ناتجة عن خلل بنيوي في مفهوم المنافسة نفسه، سواء عند صناع القرار أو حتى عند الجمهور، وهو ما يمكن تبسيطه في سؤال: ماذا نريد من المنافسة؟
منافسة للبكاء
ما ألاحظه شخصيًا هو أن الأغلبية تريد "مسابقة اشتراكية تحقق مكاسب رأسمالية"، بمعنى أن الجميع يتحدثون عن المشاركة باعتبارها "حقًا" للجميع، فنرى بكائيات لا نهاية لها، تنعى الأندية "الجماهيرية" الغائبة عن الدوري، وتنادي بأي حل يتيح صعود أندية كطنطا والمنصورة وجمهورية شبين والمنيا... وووووو. كذلك حماية الأندية الموجودة فعلًا من الهبوط، كالإسماعيلي والمصري والاتحاد وغزل المحلة.
في الوقت نفسه يريدون منافسة قوية تساعد على إفراز منتخب وطني متفوق وتدر عائدات مالية من تحقيق نسب مشاهدة عالية، بل ويمكنها ضخ لاعبين للاحتراف الخارجي، وهذا لا يتحقق إلا من خلال الأندية ذات القدرات المالية العالية، وهي بالطبع الأندية الخاصة نتيجة العوار في قانون الرياضة المصري، الذي لا يتيح تملك الأندية الجماهيرية.
إن كانت المشاركة حقًا فلنكتف بالأندية الجماهيرية مهما كان مستواها، وإن كانت بما يمكن للنادي أن يضيفه فلتكن منافسة مفتوحة
نتيجة هذا وذاك نجد أن المسؤولين عن الكرة مجبرون على تنظيم مسابقة تضم أكبر عدد ممكن من هذا وذلك، فنجد الأهلي والزمالك، وعلى الأقل خمسة أندية جماهيرية، الإسماعيلي والمصري والاتحاد وغزل المحلة وأسوان. مع الحفاظ على ناد من الصعيد، وإفساح أماكن للمؤسسات العامة، هذا إلى جانب الأندية ذات القدرة المالية كبيراميدز وفيوتشر وفاركو وسيراميكا وإنبي... وووو.
وإذا عدنا للوراء في الزمن أمكننا تبديل بتلك الأسماء أسماء أخرى وتبقى الفلسفة كما هي بعيوبها، فبدلا من بيراميدز كانت القناة، وبدلًا من أسوان كانت بني سويف، تغيرت الأسماء ولم تتغير البنية.
ماذا يحدث عندما يتصاعد صوت مثل تلك الأفكار؟ كما يحدث كل مرة منذ انطلاق الدوري؛ مسابقة مترهلة، وعدد مباريات أضخم من قدرات الجميع، سواء عدد المباريات الكلية في الموسم (306 مباراة) أو عدد مباريات كل فريق (34 مباراة) بل يتسع الأمر فلا نكتفي بمسابقتي كأس مصر، والسوبر المصري، وإنما نزيدها بتنظيم كأس الرابطة، وها هم يخططون لإطلاق كأس النخبة، ليصبح لدينا عدد من المباريات يفوق حتى قدرات الجمهور على المتابعة.
إحساس الترهل يخلق شكوى دائمة، ورغبة في تخفيض عدد الأندية، وتقليص عدد المباريات، لكنها رغبة مستحيلة التنفيذ، فعندما يجتمع المسؤولون يصدرون قرارات عكسها.
لا سبيل لكسر تلك الدائرة سوى عن طريق إجابة السؤال: ماذا نريد من المسابقة؟ لا أحد يحصد كل شيء، ثم تصميم برنامج يحقق ذلك الهدف المنشود المنطلق من رؤية محسوبة، فإن كان النظر للمشاركة حقًا، فلنكتف بالأندية الجماهيرية مهما كان مستواها الفني، وإن كانت المشاركة بمقدار ما يمكن للنادي أن يضيفه، فلتكن منافسة مفتوحة وحرة لا مجال فيها للعاطفة أو للشعبوية.
نعرف بالطبع أن الأمر أعقد من هذا، وربما، عندما نحاول إجابة السؤال، نجد عشرات التفاصيل التي تحتاج الدراسة. نحن فقط ننظر هنا للصورة الكبيرة، وهي صورة لا يمكن لها تقديم منتج متميز، رغم أن المنتج فعلًا متميز، هو فقط يحتاج إلى "ريجيم" قاسٍ. وكما نعلم فإن قرار الريجيم عمومًا، هو الأسهل على الإطلاق في اتخاذه، والأصعب عند التنفيذ.