في طفولتي، بينما أشاهد فيلم رد قلبي مع خالتي الناصرية، قالت بقوة وبساطة "شكري سرحان عامل دور جمال عبد الناصر". هكذا صاغت في عبارات حاسمة إشاعة أن شخصية شكري سرحان في رد قلبي هي معادل لجمال عبد الناصر. وقتها، رفضتُ في بالي تلك الفكرة بشدة، لأن شخصية شكري سرحان اسمها "عليٌ" في الفيلم، بينما الزعيم اسمه جمال في الحقيقة. ثم إن ناصر لا يمكن أن يخطط للثورة في كباريه، حتى لو كان ذلك في ظل ربة من ربات الجمال مثل هند رستم.
لم أكن أعرف وقتها أن ثوريًا زميلًا لناصر، وهو أنور السادات، كان يتعاون مع الراقصة الشهيرة حكمت فهمي في عوامتها للتواصل مع الجيش الألماني، في إطار نضاله من أجل التخلص من الاستعمار الإنجليزي.
الحقيقة إن هناك وجاهة في الربط بين شكري سرحان وناصر في "رد قلبي". فكلاهما ضابط جيش في قلب حكاية تخطيط للثورة وتنفيذها، وكلاهما من أصول طبقية غير أرستقراطية. المثير هو أن شكري سرحان، من خلال نوعية الأدوار البارزة التي أداها في الحقبة الناصرية في الخمسينيات والستينيات، ربما لم يكن إسقاطًا واضحًا على ناصر، لكنه كان يمثل نموذجًا أعلى للذكورة الوطنية في مرحلة ما بعد التحرر الوطني، مثلما كان ناصر يطرح نموذجًا فائقًا لتلك الذكورة.
بين لونين
يمكننا كتابة تاريخ السينما بوجه عام، في العالم كله أو في مصر تحديدًا، من زاوية اعتماد الفن السابع دائمًا على عنصرين أو شخصيتين أو لونين متضادين يشكلان القاعدة التي يبني عليها الصناع فيلمهم. بتعبير أكثر تخصصًا، أقول إن الفيلم يعتمد على البنية الثنائية أو على الازدواج كأساس فكري وفني ومعرفي لبناء العمل.
السينما من حيث هي صور مطبوعة على فيلم، مادة مبنية على تفاعل الضوء والظل لتحميض الفيلم. والسينما في بداياتها كانت تعتمد على اللونين الأبيض والأسود. وصادف ميلادها سياقًا تاريخيًا تسيّد فيه نوع الميلودراما الفني ساحة الدراما الترفيهية في الرواية والمسرح والسينما، وأحد ملامح الميلودراما الرئيسية هو صراع الخير والشر. وبذلك تضافرت وتوازت فكرة صراع الخير والشر مع تقابل اللونين الأبيض والأسود ومع التناقض بين الضوء والظلمة كثنائيات تأسس عليها إنتاج الصورة ونسج الحكاية في السينما.
لعل أقوى تجلٍ للحضور القوي لفكرة الثنائية والازدواجية في السينما هو المكانة البارزة التي احتلتها تيمة الازدواج والقرين والشبيه التوأم في العقود الأولى من تاريخ ذلك الفن. كتبت أكثر من مرة عن أهمية تيمة القرين والتوأم في التفاوض بين التراث والحداثة لا سيما في العقود الأولى من تاريخ السينما.
بدايات استيراد السينما في العالم العربي تواكبت مع ما يسميه مؤرخو الثقافة بالمرحلة الثانية من حركة النهضة (أو التحديث) في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. آنذاك، استقرت فكرة الجدل والحوار الثقافي بين التراث والحداثة، بسبب الحضور القوي للوافد الحداثي التنويري القادم من الغرب.
في مقال نشرته مجلة فصول عام 2016، حللتُ شخصيتيّ عنايات هانم ودليلة اللتين لعبت دوريهما شادية في فيلم دليلة (1956)، وأبرزت أن التناقض بينهما كقرينين ليس فقط بين الطيبة والشريرة، بل أيضًا بين ممثلة الحداثة (الوافدة) الثرية، بكل الخطر الأخلاقي الذي تحمله، وممثلة التقاليد (التراثية) البسيطة اجتماعيًا، والمطمئنة أخلاقيًا.
وكذلك في كتابي مهندس البهجة أفضت في تحليل تيمة القرين في أفلام فؤاد المهندس، إذ كثيرًا ما لعب المهندس نفسه دوري قرينين متشابهين جسدين ومتناقضين ثقافيًا وأخلاقيًا، مثل دوري المصري الطيب الأصيل (القريب من التراث والأصالة) مفتاح أو زكي، في مقابل الأمريكي الشرير الوافد والمجرم إكس أو ماكس في فيلمي أخطر رجل في العالم والعتبة جزاز. أرى في حضور هؤلاء التوائم على الشاشة تفاوضًا بين ولعنا بالتحديث وخوفنا من تأثيره الأخلاقي، فتقيم السينما لنا ساحة نرى فيها مواجهة وصراعًا وربما حلولًا مختلفة لهذا التناقض بين ممثلي الموروث والوافد.
لكن هناك ثنائيات أخرى تفرض حضورها على الباحث في السينما، إذا ما تأملنا تفاعل الواقع السينمائي مع الواقع خارج الشاشة أو خارج الفيلم. ثنائية: الممثل الذي يؤدي دورًا بجسده، مقابل الشخصية التي يلعب دورها. تلك ثنائية لا تنفصل عن ثنائية الشخصية السينمائية، مقابل معادل تلك الشخصية في الواقع الاجتماعي أو التاريخي.
ما يحضرني هنا، على سبيل المثال، ليس العلاقة بين جسد كرم مطاوع على الشاشة في فيلم سيد درويش، وجسد سيد درويش نفسه في الحقيقة التاريخية. ما أقصد تحليله هو ما يفترضه الناس من وجود علاقة بين شخصيات سينمائية ومعادل "حقيقي" لها في الواقع أو التاريخ، حيث يعبرون عن تلك الافتراضات في تخيلاتهم ورغباتهم وإشاعاتهم.
على سبيل المثال، ليس هناك من شك أن صلاح الدين الأيوبي/أحمد مظهر هو إسقاط على رئيس الجمهورية/ناصر في فيلم الناصر صلاح الدين ليوسف شاهين. وما أرجو تحليله هو علاقات شبيهة لتلك، بين دور سينمائي وشخصية تاريخية لا دليل على وجودها بشكل حاسم، وإن استقر في مخيلة البعض، على الأقل، أنها علاقات حقيقية ومقصود تصويرها كأن الشخصية السينمائية معادل للشخصية التاريخية الحقيقية.
يشتهر أن شخصية عماد حمدي في فيلم الله معنا كانت معادلًا لشخصية جمال عبد الناصر وأن هناك شخصية تعادل محمد نجيب لعب دورها زكي طليمات وتم حذفها من الفيلم بعد إقصاء نجيب عن المشهد السياسي. وكتب بعض الباحثين بالتفصيل عن ذلك على فيسبوك. لكن هناك إشاعة/نظرية أخرى لا تحظى بالشهرة نفسها، لأنها تفتقر إلى مقومات الحقيقة التي تتمتع بها نظرية التعادل بين عماد حمدي وجمال عبد الناصر في فيلم "الله معنا".
عودة إلى شكري وناصر
بهذا المعنى، يتماثل كل من شكري سرحان وناصر: فكلاهما البطل الأسمر الشهم المصري الأصيل المهموم بحال بلاده. هكذا يتبدى شكري سرحان في صراع الأبطال وابن النيل والجريمة والعقاب وأنا حرة.
وبهذا تكون أدوار شكري سرحان التي يلعب فيها دور الشاب القلق أخلاقيًا، الذي يتراوح بين السلوك "القويم" والتصرفات "الخليعة"، هي الاستثناء. فمثلًا يبرز التصور الذي أطرحه دور سرحان في "شباب امرأة".
في ذلك الفيلم، يمثل سرحان شخصية الشاب الريفي الذي ينغمس في الملذات بعد أن تعرض لغواية السيدة القاهرية الباحثة عن الملذات والتي تلعب دورها تحية كاريوكا، أي على السطح يبدو سرحان أبعد ما يكون عن نموذج المصري "الأصيل".
لكنه في شباب امرأة نموذج متطرف لضياع الشباب "الأصيل" ضياعًا أخلاقيًا عندما يستسلمون لغواية المدينة ويتحللون من القيم التقليدية القادمة من خارج المدينة الحداثية. فشخصية المصري الأصيل الذي يفقد طهره الريفي تساهم بمعنى ما في بناء خطاب تبنته ثورة يوليو حول تحذير الشباب من الانغماس في الحداثة إلا بحساب، تحديدًا بهدف الحفاظ على أصالة ونقاء الأخلاق "التراثية" أي التقليدية.
وبالمنطق نفسه، فشخصية شكري سرحان المهزوم المغلوب على أمره في "الزوجة الثانية" هو أيضًا نموذج أقصى لانسحاق البسطاء، الذي كان حادثًا لا محالة في مصر، لو لم "تصحح" ثورة يوليو مسار التاريخ. أي بمعنى ما، أن شكري سرحان في "رد قلبي" و"صراع الأبطال" ومعادله في الحياة السياسية هما من منعا ظهور الآلاف من شكري سرحان في "الزوجة الثانية"، لأنه لولا نموذج الشاب المحافظ أخلاقيًا، محطم سيطرة النخبة الحاكمة في عهد الملك في "أنا حرة" مثلًا، لظل هناك في المجتمع الآلاف من شكري سرحان نموذج المصري المطحون المظلوم في "الزوجة الثانية".
الوجه الذي يمثل "الشاب الجاد"، الذي تواكب صعوده إلى النجومية مع صعود الناصرية منذ يوليو 1952 هو شكري سرحان. إذا مددنا خط الاستعارة السابقة على استقامته: سرحان نموذج الذكورة الناصرية، يربكنا "السقوط الأخلاقي" للشخصية التي لعبها في فيلم "غرباء" لسعد عرفة.
في "غرباء" يلعب سرحان واحدًا من أوائل الأدوار التي تمثل اليمين المسلم المتطرف في السينما. له زبيبة، يواظب على الصلاة، ينهى أخته عن لبس الفستان القصير. ثم ينتهي به الحال إلى ممارسة الجنس مع جارتهم اللعوب. وكأن السينما كانت تتنبأ مجازًا بأن نموذج الشاب الناصري الجاد المحافظ أخلاقيًا الذي كان يمثله سرحان في الخمسينيات والستينيات، سيتحول تدريجيًا ابتداءً من السبعينات إلى نموذج الشاب "الإسلامي".
والحقيقة أن يمين الناصرية المتدين لا يختلف جوهريًا من الناحية الفكرية عن التيارات "المعتدلة" في تيارات اليمين المسلم المتطرف: كلاهما يحتكم إلى تصورات أصولية عن الهوية، محافظ أخلاقيًا، ويعادي التحرر الأخلاقي والليبرالية السياسية والفكرية.
تعتمد السينما الكلاسيكية على التقابل بين الأبيض والأسود، وبين اللون الذي يكشفه النور والظل الذي يخيم عليه. كذلك تعتمد السينما عمومًا على التوازي بين نموذج البطل السائد على الشاشة في مرحلة تاريخية ما، ونموذج رجولة معين يسود في المجتمع في المرحلة نفسها، أو تتطلع إليه قطاعات كبيرة من الناس في تلك المرحلة.
شكري سرحان ليس مجرد شاب وسيم ظهر على الشاشة في مرحلة كانت تطالب بنوع وسامته المصرية وملامحه القوية غير الناعمة أو المتنعمة. جسد سرحان على الشاشة كان تجليًا لواحد من تصورات المجتمع عن الرجل الجاد، القادر على الانخراط في المدينة الحديثة في مرحلة الازدهار الوطني بعد الاستقلال، والساعي إلى التقدم إنسانيًا واجتماعيًا على المستوى الشخصي والوطني.