عادة ما تخفق الطيور المغردة في محاولاتها الأولى لتعلّم الغناء. لكنها تتحسّن في المرات التالية.
تتعلّم الطيور المغردة أغانيها بالطريقة نفسها التي يتعلّم بها الطفل كيف ينطق؛ المراقبة، والتجربة، ثم الخطأ، وتكرار المحاولة حتى الإتقان. يعرف الطفل ذلك من خلال ردود أفعال أبويه والكبار من حوله. الكلمة الصحيحة يتبعها رد فعل إيجابي، والسلبية تستدعي الضحكات والتصحيح. من خلال هذه التفاعلات البسيطة يبدأ الطفل في تكوين مخارج ألفاظه مع تماسك عضلات النطق، ثم يكوّن جملًا متصلة.
سلسلة ردود الأفعال هذه ليست اعتباطية، حتى لو كنا نفعلها بحكم العادة. هي ببساطة عملية شديدة التعقيد، مُعدة بعناية للوصول إلى نتيجة مُحددة. أن يخرج هذا الطفل من مرحلة عمرية بعينها، قادرًا على التواصل مع أفراد نوعه، قادرًا على فهمهم، وقادرًا كذلك على شرح ما يريدهم أن يفهموه.
التعلُّم من أفراد النوع الأكبر ليس حكرًا على البشر. فكثير من الحيوانات الثديية والطيور، تستقي مهاراتها الأساسية، التي تحتاجها للبقاء والتكاثر، من أفراد أكبر وأكثر خبرة في مجموعاتهم التي يعيشون فيها. وبهذه الطريقة، تنتقل مهارات وثقافات أساسية من جيل إلى جيل. بهذه الطريقة تعرف الطيور أغانيها.
في حالة الكائنات الحية التي تتبنى هذه الطريقة لنقل المعلومات، تمثل أعداد المجموعة أهمية كبيرة، فأي تغيّر في التنوّع البيولوجي، نتيجة لتدمير الموائل/البيئات الطبيعية أو غيرها، سيؤدي بطبيعة الحال إلى نقص أعداد المجموعات، ومن ثم اضطراب تجمعاتها، والنتيجة الطبيعية هنا هي اختلال واضح في آليات التعلُّم.
اختلال في النغمات
في دراسة منشورة بالدورية الملكية للعلوم، حاول الباحثون تتبع طيور آكلات العسل، وهي طيور متوسطة الحجم تعيش في جنوب أستراليا، ولها ذيولًا صفراء زاهية، وصدرًا يحمل اللونين الأسود والأبيض، والتي تعرّضت في الآونة الأخيرة لتدهور بالغ في أعدادها، لتصل في هذه اللحظة، حسب كثير من التقديرات إلى 300 طائر لا غير في العالم.
درس الباحثون أغاني هذه الطيور في حالاتها الطبيعية، أي عندما تضم كل مجموعة منها العدد المناسب من الطيور، ووضعوا توصيفًا لطبيعة أغنياتها، التي وصفوها بالـ"معقدة" والـ"طويلة"، وقارنوا بين هذه الأغاني وبين أغاني نفس هذا النوع من الطيور في المجموعات المتضررة من الآثار البيئية، التي قلت أعدادها.
كانت النتيجة وجود اختلاف واضح بين نوعي الأغاني، أصبحت الأغاني أقصر وأقل تعقيدًا بكثير في الأنواع البرّية التي قلّت أعداد مجموعاتها، بل وفي كثير من الحالات، لاحظ الباحثون أن طيور آكلي العسل تحاول تقليد أغاني طيور أخرى، وكأنها لا تعرف بالضبط ما الذي يجب عليها أن تغنّيه.
النتيجة الطبيعية هي أن هذه الطيور تفقد عددًا من قدراتها الاجتماعية ذات الأهمية المحورية، تصبح أقل جاذبية للإناث، وتقل فرصها في التزاوج، ما يؤدي بدوره إلى نقص أعدادها، الذي يؤدي هو الآخر إلى إنتاج أغاني أقل جودة. لتستمر هذه الدائرة.
لماذا تغني طيور العسل؟
تعرضت طيور آكل العسل لكثير من المصاعب. تجريف الأراضي والغابات في المساحات التي تعيش فيها أدت إلى تدمير الموائل الطبيعية التي تعيش فيها. يضاف إلى ذلك حجم الطائر الصغير نسبيًا، وهشاشته أمام التغيّرات البيئية، ومن بينها اعتماده على نوع معيّن من رحيق الأزهار، وميله التطوّري للعيش في مجموعات كبيرة، انخفضت أعدادها مع الوقت.
السبب الرئيسي وراء الأغاني المفقودة هو تفرُّق مجموعات الطيور، ونقص أعداد كل منها، ما صعبّ على الطيور الصغيرة مهمة تعلّم النغمات الصحيحة التي تمثل عملة التواصل الرئيسية. وتتفاقم المشكلة حين يبدأ الصغار في تعلّم النغمات الخاطئة من أنواع طيور مختلفة، وهي نغمات لا تمثل أي قيمة من أي نوع للإناث، بل وتجعلها تنفر من التزاوج.
البيانات التي توصل إليها الباحثون في هذه الدراسة، تقول بوضوح إن الارتباك الحاصل في ثقافة الأغاني، لعب دورًا كبيرًا في تفاقم المشكلة الأصلية.
عن الغناء
يمكننا تتبع الدراسات التي تناولت أغاني الطيور من نهايات الخمسينيات، تحديدًا مع أبحاث العالم وليام ثورب، الذي استغل تطوّر أجهزة رصد الصوت في إجراء دراسات أعمق على نغمات الطيور وأغانيها. كشف ثورب في أول محاولة مُسجلة لهذا النوع من الدراسات، أن طيور الـ Fringilla coelebs، التي رباها في معمله، والتي تجاوزت مرحلة تعلّم الأغاني دون أن تستمع إلى صوت الذكور البالغة، كبرت لتغني أغاني مشوهة، تختلف بدرجة كبيرة عن الأغاني التي تستخدمها الطيور لجذب الإناث أثناء مرحلة التزاوج.
لم يتغيّر غناء الطيور البالغة عند سماع نفس التسجيلات، فات أوان التعلُّم
وللتأكد، عرّض ثورب طيورًا صغيرة أخرى إلى تسجيلات من البرية، لمعرفة ما إذا كان ذلك سيغيّر النتيجة، ليلاحظ بعدها أن الطيور التي استمعت إلى هذه الأغاني، أثناء فترة تعلمها، استطاعت سريعًا أن تقلد ما تسمعه من نغمات صحيحة.
وعلى العكس من ذلك، لم يتغيّر غناء الطيور البالغة عند سماع نفس التسجيلات، فات أوان التعلُّم. ما دفع به للظن بأن تلك العملية محكومة بالوقت تمامًا. وأن تجاوز مرحلة عمرية بعينها، يعني أن الطائر سيفقد كل قدرة ممكنة على أداء الأغنية الصحيحة.
الاستنتاج الذي خرجت به سلسلة الأبحاث تلك كان أن الطيور تتعلّم أغانيها في مراحل مبكرة من حياتها، وأن غياب الطائر المُعلم الكبير، الذكر في العادة، يجعل أغانيها مرتبكة ولا تلتزم بالنغمات التي تستخدمها هذه الطيور في عملية التواصل.
منذ ذلك الوقت، أصبحت أغاني الطيور أكثر المساحات خضوعًا للدراسة في مجال التفاعلات الـ"ثقافية"، لو جاز التعبير، بين الكائنات الحية وبعضها. صغار الطيور تتعلّم من كبارها طريقة الغناء الصحيحة، ويحدث ذلك عن طريق التجربة والخطأ.
معنى أن تكون طائرًا
قرأت هذه الورقة البحثية بالصدفة في مارس/آذار من عام 2021، بعد شهر واحد من وفاة أبي نتيجة إصابة عنيفة بفيروس كورونا، الذي كان قد سيطر على حياتنا بالكامل في هذا الوقت، كل شيء كان يدور حوله، كل شيء ليس عنه لا يستحق الحديث. كان ذلك هو شكل العالم في تلك اللحظة. أحيانًا يصعب عليّ أن أتخيل أن كل ما حدث لم يكن حلمًا من نوع ما. انحسار الموجة واختفاء المرض التدريجي، الزحام والشوارع المكتظة، اختفاء الكمامات من العالم، كل ذلك يجعلني أفكر: هل حدث ما حدث فعلًا؟
عندما يفقد الكلب البصر فأنه يفقد قدرته على الرؤية، لكنه لا يصاب بالعمى
قرأت تلك الورقة باهتمام شديد، في البداية لطبيعة العمل، ثم خرجت الأمور عن السيطرة. لم تكن هذه المساحة من المجالات التي أولي لها اهتمامًا كبيرًا، على الأقل لا أفهم فيها بما يجعلني أهتم، لكنني حرصت بكل طريقة ممكنة أن أفهم كل شيء يتعلق بها. لماذا الهوس؟ سؤال جميل. لا أعرف بالضبط. لكن صورة الطائر التي يغني أغاني لا يفهمها أحد تلك لم تغب عن بالي لحظة.
يحذر كثير من المتخصصين في علوم الحيوان ودراسات سلوك الطيور من هذا الأمر بالتحديد، إضفاء المشاعر البشرية على كائنات غير بشرية. أحد أساتذة سلوك الحيوان قال مرة: عندما يفقد الكلب البصر فأنه يفقد قدرته على الرؤية، لكنه لا يصاب بالعمى. المقصود هنا هو أن العمى مفهوم ثقافي اجتماعي. لكن فقدان القدرة على الرؤية يعني أن حاسة من الحواس قد تعطلت، وسيكون على الكائن الحي أن يبحث عن غيرها للنجاه. لكنني على كل حال لم أستمع لهذه النصيحة التي أكررها أنا نفسي كثيرًا.
في أبريل/نيسان من عام 2021، أرسلت رسالة طويلة إلى الباحث الرئيسي في الدراسة، أسأله فيها عن كثير من المساحات غير المفهومة بالنسبة لي، وأحاول أن أفهم بالضبط ما الذي يحدث لهذه الطيور التي تعيش على الجانب الآخر من العالم، منها "هل يفقد الطائر هذا إحساسه بنفسه مع فقدانه للقدرة على أداء أغانٍ متماسكة؟"، رده جاء مندهشًا بعض الشيء، ربما لأن السؤال نفسه غير معتاد في تلك المساحة، لن يسأله صحفي علمي يحترم نفسه في الغالبب. لكنه على كل حال أجاب: "هذه الطيور لا تزال تعيّ أنها طيور من نوع آكلات العسل". أعجبتني تلك الفكرة كثيرًا، ولكنه أضاف "لكنها تغني أغاني طيور أخرى. ما يجعل موقفها مرتبكًا قليلًا، يمكنك القول إنها جاهلة".
ما أفكر فيه، هو أننا لن نعرف أبدًا ما الذي يعنيه أن يكون الطائر طائرًا، بطبيعة الحال، ولا جدوى من محاولة البحث عن إجابة. لن نعرف. لن. نعرف. لن نعرف أبدًا ماذا يعني أن يغني الطائر أغنية لا يفهمها أقرانه. لكن هذا لم يمنع هذه الصورة من أن تستقر في خيالي، ربما للأبد.