كل مرة التقيت فيها الأب وليم سيدهم اكتشفت له وجهًا جديدًا لا أعرفه، وروحًا مختلفة غير التي لمستها فيه من قبل.
1
رُوِّع مجتمع السينمائيين، لاسيما جماعات السينما المستقلة والشباب الشغوفين بالمختلف والجديد في المجال، بخبر وفاة الأب وليم سيدهم اليسوعي، الذي ينادونه "أبونا وليم" حتى كأنه أصبح اسمه الثنائي وتوقيعه المعتمد.
والغريب أن يرتجَّ لفقد كاهن مسيحيٍّ العاملون بالسينما، أكثر من شباب الكنيسة وجماعته الدينية، أو الجمهور الطبيعي لرجل دين قضى في سلك الرهبنة خمسين سنة وأشهرًا قليلة. لكن هذا ليس غريبًا، ذلك أن الأب وليم سيدهم يعدُّ واحدًا من أهم وأبرز أعمدة صناعة السينما المستقلة في مصر.
منذ نحو عشرين سنة أو أكثر، احتضنت جمعية النهضة العلمية والثقافية المعروفة بجزويت القاهرة، التي أسسها الأب وليم سيدهم واقتنص مقرًا لها من مساحة تابعة لمدرسة العائلة المقدسة بالفجالة، احتضنت كل الشباب الشغوفين بالسينما، الذين انفتحوا على عالم جديد ووفرت لهم التقنيات الحديثة أدوات أسهل لتحقيق أحلامهم في إنتاج أفلام قصيرة يعبرون بها عن أنفسهم، وينافسون بها في سوق هائلة لا تعرف إلا الأسماء الكبيرة والإنتاج الضخم والمشروعات الكبرى، وإن لم تكن فيها الكثير من السينما وفنونها.
لم يوفر الأب وليم عبر الجزويت مساحة ومعملًا ليلتقي فيه الشباب المتطلع لتقديم شيء مختلف وجديد فقط، ولم يكتفِ بأن يكون ميسّرًا يرتب من خلال علاقاته واحترام كبار المخرجين ومديري التصوير والعاملين بالإنتاج السينمائي له، مقابلات مع الشباب الذين يريدون فرصة وتشجيعًا وإن تمردوا على الآباء بالتعريف، بل أصبح الجزويت مدرسة سينمائية مستقلة بناها الأب وليم مع الشباب يدًا بيد، تطورت وازدهرت لتصبح أكاديمية موازية، تقدم الدعم والتعليم وتتمتع بسمعة قوية ولها ثقل في المجال، وخرّجت حتى الآن ما يقرب من 15 دفعة.
لم يكتفِ الأب وليم بما وصلت إليه مدرسة السينما في جزويت القاهرة، وبالدأب نفسه الذي أسس به جمعية النهضة في التسعينيات. ورغم سنه وأمراضه، راح يؤسس مدرسة السينما في الصعيد، مستفيدًا من الكوادر المهمة التي انتعشت في جزويت القاهرة، بل كان يردد أن الأهم بالنسبة له أن يذهب إلى الجنوب.
وفي عام 2017 بدأت المدرسة مع المخرجة نادية كامل في أسيوط، من خلال منح مجانية لسكان المنيا وأسيوط وسوهاج. ومرة أخرى، انتزع الأب وليم بالإلحاح تارة وبالإحراج تارات، أماكن لاستقبال الطلاب وتدريبهم وتخريجهم في المؤسسات الكنسية الكاثوليكية، مثلما فعل حينما أسس جزويت القاهرة.
2
للأب وليم سيدهم اليسوعي صورة شهيرة في ميدان التحرير وهو يلبس "طاقية" كتب عليها "شباب ثورة 25 يناير". لم تكن الصورة خلال الثمانية عشرة يومًا الكبرى، وإنما بعد رحيل مبارك. وأعتقد أنها كانت في جمعة الاحتفال بالثورة.
وفضلًا عما قد نعتبره مفارقة في الصورة، إذ أن الراهب والكاهن اليسوعي كان تجاوز الستين وقت التقاطها، لكنه يبتسم فرحًا وفوق جبهته "شباب 25 يناير". ثورة يناير أعادت للأب وليم شبابه فعلًا، وقد رأيته كثيرًا في الميدان يتحرك برشاقة وفي فمه سيجارته، ليصيد "شباب الجزويتين" ممن تربوا في جمعية النهضة، بين مكتبتها وقاعات العروض والندوات، ويسألهم عن أحوالهم ومآلاتهم ويعاتبهم لأنهم لم يعودوا يزورنه، ويتناقش معهم حول توقعاتهم للأحداث، والأهم يعطيهم الأمل في أننا "هنفرح قَريب" كما كان يردد قبل أن يتضح أي شيء.
كان الأب وليم شابًا من شباب ثورة 25 يناير فعلًا، يده بيدهم (إلا في رمي الحجارة) وحنجرته وراء هتافاتهم وأمله وهمته تسبق أملهم.
كتب الأب وليم سيدهم، كتابًا صغيرًا في الحجم، بعنوان "يوميات كاهن في زمن الثورة.. لاهوت التحرير بالمصري" دوّن فيه ما شاهده في الميدان وما عاشه وما حلم به وما كان يخشاه، وقدم فيه رؤية أو مراجعة لما سبق وكتب عنه.
وبدون كليشيهات، فقد حمل الأب وليم سلاحًا مختلفًا، وحول الجزويت إلى ساحة حرة للفن والإبداع، ومائدة مستديرة يومية ودائمة في انعقادها من أجل مواجهة كل ما خرج له في الثورة واعتصم من أجله في ميدان التحرير.
3
لم أشاهد الأب وليم سيدهم بملابس كهنوتية إلا مرة واحدة في احتفال خاص أقيم بساحة مدرسة العائلة المقدسة، كان مخصصًا لجمع التبرعات للجزويت، ومرات في صور خاصة بمناسبات دينية، آخرها الاحتفال بمرور خمسين سنة على رهبنته.
أذكر أنني عابثته أكثر من مرة قائلًا "بس أنت مش ماركسي يا أبونا..أنت قومي"، وكان يرد "أنا يساري غلبان يا عم". وأبونا وليم يساري كما تصف الروايات والكتب اليسارية، رقيق الحال لا يعنيه مظهره الشخصي كثيرًا بقدر راحته.
في أكتوبر/تشرين الأول عام 2020، وبعد شهور كبيسة بسبب فيروس كورونا، التقيت أبونا وليم سيدهم في صالون الجزويت الثقافي الذي يقام على مسرح ستديو ناصيبيان التاريخي، وكان ضيف الصالون الشاعر والمؤلف الدكتور مدحت العدل الذي يحاوره الكاتب هشام أصلان، وكان هذا أول صالون يُعقد بعد توقف طويل بسبب الإغلاق العام ووقف أي اجتماعات.
امتلأ مقر الجزويت بالقنوات الفضائية، وأثناء وقوفنا في باحة الجمعية خرج الأب وليم سيدهم متكئًا على عكازه وسأل أحد العاملين عن أسماء القنوات المتواجدة، ولما عرف أن من بينها قناة "دبي" تنحى بهشام أصلان جانبًا وقال له إنه يجد حرجًا في تواجد هذه القناة بالتحديد بسبب الاتفاق على التطبيع الذي أبرمته دبي مع إسرائيل.
كانت القضية الفلسطينية محورية في حياة أبونا وليم، في تعريفه لنفسه على صفحته الشخصية على فيسبوك، يكتب "فلسطين عربية"، ثم أضاف لها "تيران وصنافير مصريتان".
4
حينما ترى الأب وليم للمرة الأولى، قد تظن إذا لم تكن تعرفه من قبل أنه مصور سينمائي أو فنان تشكيلي أو مخرج مسرحي، أي مهنة أخرى غير أنه راهب ومفكر مسيحي مهم ومعلم لاهوتي مرموق، له تلاميذ في كل مكان.
لا تملك عندما ترى الأب وليم إلا أن تشعر بارتياح كبير أمام ابتسامته التي لا تفتر أبدًا، وأن تحبه عندما يتكلم، فالرجل له حضور قوي وبساطة مدهشة تعكسها ملابسه البسيطة و"الشبشب" الذي ينتعله، فلا يعنيه سوى راحة قدميه المتعبتين، وبسبب هذا عرف أبونا وليم على سبيل التبجيل بأنه "الراهب أبو شبشب" كما كتب تلاميذه في وداعه.
قدم الأب وليم صورة مختلفة وغير نمطية لرجل الدين باهتماماته بالسينما والمسرح والفن التشكيلي، لكنه ومع ذلك يرى أن هذا هو جوهر رجل الدين الحقيقي، أن يتحرك وسط الفقراء، ويساعد في تقديم الفن والثقافة لهم، وكان ذلك هو الدافع الأكبر له لتأسيس وإدارة جمعية النهضة العلمية والثقافية "الجزويت"، دون تمييز ديني أو عرقي أو جندري.
لم تكن حياة أبونا وليم سهلة في أي من مراحلها، كلها دراسة وكفاح في بلاد الدنيا من أجل التعلم والخدمة. ولد الأب وليم سيدهم في فبراير/شباط عام 1948 بمحافظة قنا، ودرس الفلسفة وعلم النفس في جامعة القاهرة، ثم سافر ليدرس في الجامعة اليسوعية بباريس، ومن ثم حصل على الماجستير في فلسفة ابن رشد من جامعة السوربون، ودخل سلك الرهبنة منذ عام 1974، ثم عُين كمدرس للفلسفة في مدرسة "العائلة المقدسة". لكنه دائمًا كان يبحث عن دور أكبر، أو أوسع في المساحة والخيارات.
في حوار تلفزيوني له يقول الأب وليم إنه لم يسعَ لتغيير الصورة النمطية لرجل الدين في مظهره أو أدائه المختلف واهتمامه بالفن والثقافة، بالعكس هو يرى أن ذلك هو الدور الحقيقي لرجل الدين في المجتمع المصري المبتلى بالتطرف، وأنه مجرد جندي يحارب القبح ويقف في مواجهة تحول الدين، أي دين، إلى أداء شكلاني يعادي الحرية والتقدم والعقائد الأخرى.
5
في كل مرة حضرت فيها صالون الجزويت، وعندما تنطفئ الأنوار في المسرح، ويصمت الجمهور ليستمع إلى المتحدثين، يدخل الأب وليم بهدوء ويجلس بين الشباب الحاضرين في أي صف غير الصف الأول، مستمعًا للمتحدثين باهتمام ملحوظ، ويرد الشكر الموجه له على جهوده بابتسامته المعهودة وإيماءة خجولة من رأسه، ثم يخرج من المسرح قاصدًا مكتبه، ليكمل عملًا ما كان قد بدأه.
هكذا، بتلك الوداعة ورهافة الحضور والتمرد على النمط والصورة، رحل أبونا وليم سيدهم اليسوعي، الكاهن صاحب الوجوه المتعددة.