بالنسبة لأميرة محمود*، وهي شرطية سابقة، لم يكن صوت القذائف أو ضرب النار بالجديد، لكنه ظل مفجعًا، والأسوأ أنها وجدت نفسها مضطرة لشرح ما يجري لطفليها، بنت في الصف الثاني الابتدائي وولد في الروضة. وما أن استوعبت ما يحدث، وشرحته لهما، انتقلت إلى حيلة لشغلهما.
تحكي أميرة للمنصة في تسجيل صوتي عبر واتساب، "أولادي كانوا خايفين من أصوات القذائف لأنها كانت قريبة من بيتنا، ومكانش قدامي غير أني ألفت انتباهم لشيء تاني، بالصدفة لما كنا بنسمع صوت قذيفة بعيدة كنت بقولهم إنها بعيدة عن البيت وكانوا بيسألوني كيف عرفتي يا ماما؟".
تقول "كنت بقولهم لأن صوت قذيفة الأسلحة مختلفة، وقولت لهم كل ما هنسمع صوت قذيفة هقول ليكم نوع السلاح بتاعها وقريبة ولا بعيدة. واحدة واحدة تعرفوا على أصوات القذائف وأنواع الأسلحة، وبدأوا يخرجوا يلعبوا في حوش البيت بناء على استطلاعهم لأصوات القذائف البعيدة، وإذا كان صوت القذائف قريب فبيظلوا جوا البيت".
وبالفعل نجحت حيلة الشرطية السابقة "وصلنا للتأقلم مع الوضع بعد 15 يوم، وعندما وصلنا للأسبوع الثالث من الحرب، (حين كانت تتواصل المنصة معها) كنا اتعودنا على شكل الحياة مع أصوات الانفجارات والقذائف والحبسة في المنزل".
لا تنكر أميرة قلقها الشديد من اقتراب تلك القذائف أكثر فأكثر أو استهداف منزلها بشارع الستين وسط الخرطوم حيث يدور القتال، والذي تقطنه بصحبة طفليها ووالدتها المُسنة، خصوصًا أنها طالت منازل على بعد شارعين.
تقول "الآن أسجل إليكم هذه الرسالة وصوت قذائف الطيران حوالينا تستهدف بعض مواقع قوات الدعم السريع"، لكنها تؤكد أن قرار ترك مسكنها ليس خيارًا في الوقت الحالي، "حرصت منذ اندلاع الحرب أن أزرع في عقل أطفالي فكرة أن الشعور بالأمان نابع من داخل الإنسان نفسه، وغير متعلق بالظروف المحيطة بنا، وقررنا البقاء في منزلنا رغم الظروف الصعبة".
تتابع "في الظروف دي أبدا ما حافكر أمشي لمصر، الظروف في المعبر صعبة للغاية، وما نقدر نطلع بطريقة كويسة، هنصبر لحد ما نقدر نطلع بطريقة كويسة".
ومثلها، اتخذت المدونة السودانية عفراء الحاج، وهو اسم شهرتها، قرارًا بالبقاء في أم درمان، رغم أنها تشهد اشتباكات شديدة، تقول للمنصة في رسالة نصية عبر واتساب "أصعب اختيار هو اختيار البقاء في الوطن أم المغادرة، أتذكر وقتها مقولة الوطن ليس فندقًا نغادره عندما تسوء الخدمة".
وتتابع المرأة الثلاثينية التي تعيش صحبة والدتها "ماذا عساني أفعل؟ إلى أين اتجه؟ لا أستطيع دفع ثمن تذكرة أيًا كانت وجهتها، بالكاد أستطيع دفع تكلفة الإنترنت المقطوعة لمعرفة الأخبار".
النزوح
لكن على عكسهما، اضطرت الصحافية ميعاد مبارك، التي تعمل في جريدة محلية في الخرطوم وتقطن في جنوب العاصمة، أن تنزح بصحبة عائلتها بعدما دُمرت منازل قريبة منها، وانتشرت صورًا لأشلاء جارة لها إثر سقوط قذيفة على منزلها.
تقول ميعاد للمنصة، أنهم في صباح يوم 15 أبريل/نيسان فوجئوا بأصوات دوي انفجارات عالية، وبعد وقت وجيز علموا بحدوث اشتباكات بين الجيش وقوات الدعم السريع. تقول بصوت مجهد "لاحقًا اتوسعت وبقت في مناطق عديدة في الخرطوم، لإنه للأسف المقار العسكرية بتاعة الجانبين منتشرة في أنحاء الخرطوم، واضح أنه كان في تحشيد عسكري من فترة طويلة، واستعداد للحظة يعني ربما لم تكن معلومة، لكن متوقعة ومنتظرة من الجانبين".
تضيف ميعاد "في الغالب كانت الاشتباكات في محيط المقار العسكرية ثم الأحياء المجاورة لها، وبعد ذلك انتقلت إلى معظم المناطق، وده كان مرعب بالنسبة لي".
وعن أثر الأزمة ترصد "أغلقت الصيدليات والمحال التجارية والمستشفيات، 70% من القطاع السوداني متوقف عن العمل للأسف الشديد، فيه جهود كبيرة بتاعة جمعيات ومنظمات يحاولوا يشغلوا مراكز صحية داخل الأحياء لإن الوصول للمستشفيات المركزية بقى صعب جدًا".
تحكي ميعاد عن حي العُشرة جنوب الخرطوم حيث كانت تقطن قبل النزوح، "لما بقى الوضع صعب جدًا في حينا، في اليوم الأول للعيد بالتحديد، كان فيه قصف قوي جدًا، اتدمرت خمسة منازل في محيط بيتنا. وفي حي قريب مننا توفت سيدة بدانة على منزلها، كان المنظر مخيف جدًا".
كررت ميعاد جملتها الأخيرة مرات عديدة، وهي تروي ما حدث لجارتها "كانت في المطبخ، فكان المنظر مؤذي جدًا، كيف أن أشلائها ودمها متناثر على الصحون وعلى المقلاه بتاعة الطعام، كان المنظر مخيف جدًا، في اللحظة دي قررنا أنا وأسرتي نسيب البيت لإن ما بقى في أمن".
على الطريق
تحركت ميعاد وأسرتها بعد مواجهة صعوبة شديدة في توفير وقود للسيارة، فهو موجود فقط في السوق السوداء وبأسعار وصفتها بالخرافية، "دا بالإضافة إلى تعطل جميع التطبيقات البنكية. أغلب مدخراتنا بتكون في البنوك، ما بيكون عندنا سيولة كبيرة في بيوتنا، فدي كانت مشكلة برضة لإن فجأة الأسعار بقت كبيرة جدًا عشان تلقى حافلة تنقلك من بيتك لمكان آمن".
تضيف "إحنا تحركنا مسافة قصيرة للغاية بألف دولار، في العادي لا تتجاوز الـ150 دولار، لمدينة مدني وسط السودان، انتقلنا لهناك بعربية أو حافلة صغيرة بنسميها في السودان هايس ميكروباص".
تتذكر كل ما تركته خلفها "خذنا بس تفاصيل صغيرة، خلينا أغراضنا وجهاز أختي كانت هتتجوز في العيد، خدنا شنطة صغيرة فيها أوراق الثبوتية وأغراضنا وبس".
لم يكن الطريق على قصره سهلًا إذ انتشرت مجموعات مسلحة على الطريق "أوقفت سيارة بوكس وأنزلوا منها الرجال اللي فيها وأخذوها (السيارة) منهم، شفنا عصابات بتنهب ترومبات البنزين والجاز في المناطق اللي هي شرق الخرطوم وأنت طالع خلاص".
وصلت ميعاد وعائلتها إلى مدني التي تصفها بـ"المكان الآمن"، بينما تتلقى أخبار الضحايا في الخرطوم.
شُح للحياة
وبخلاف قرارات النساء الثلاث بين البقاء والنزوح إلى مناطق أخرى في السودان، عايشن جميعًا الظروف نفسها على اختلاف مواقعهن، من حيث شح السلع وارتفاع الأسعار وصعوبة الحياة.
تقول أميرة التي تقطن شرق الخرطوم في رسالة صوتية أخرى" كالعادة؛ الخدمات انقطعت، الكهرباء والمياه، ودوي الانفجارات كانت أشد، نحن كنا في بيتنا، تقريبًا، ثلاثة أيام من غير كهرباء أو مياه، واشتد دوي الانفجارات أكثر، واقتربت الاشتباكات من الأحياء السكنية، ودي كانت اللحظات المرعبة بالنسبة لينا".
تضطر الأم الأربعينية أن تسير مسافة طويلة في ظل انقطاع المياه لملئها من "ترومبة"، أي طلبمة، تبعد عن منزلها نحو 20 دقيقة سيرا في الظروف العادية، أما الآن فتستهلك ضعف تلك المدة.
تقول للمنصة إنها تترك أطفالها مع أمها في المنزل وتذهب عبر طرق غير مباشرة، محتمية بالمنازل من القصف والرصاص، وكمائن قوات الدعم، حتى تصل إلى الترومبة التي تعد المورد الوحيد للمياه في الحي، وتقف وقت طويل في الزحام لحين تأمين المياه، ثم العودة.
ولم تكن الأوضاع أفضل حالًا في مدينة مدني وسط الخرطوم حيث نزحت ميعاد، تقول "رغم الأمن في مدني إلا أن غلاء الأسعار صعّب الحياة على النازحين، هناك غلاء في أسعار السكن، ووصل سعر إيجار شقة ستوديو 100 دولار في اليوم".
أما في جنوب الخرطوم، حيث تقطن المدونة السودانية عفراء فالأوضاع أسوأ "مع بداية الاشتباكات بين الجيش وقوات الدعم السريع انقطعت خدمات الكهرباء و المياه، وأغلقت المحال التجارية أبوابها مع الارتفاع المهول للأسعار".
وتضيف عفراء أن ما زاد وطأة الأمور كان "توقف شركات الاتصالات السودانية زين - سوداني وMTN عن تقديم خدماتها، وانقطع الإنترنت وساءت شبكات الاتصالات". وتابعت في رسالة سريعة لنا قبل انقطاع الإنترنت مجددًا "الوضع لا يطاق".
لم تعد عفراء تثق في البيانات الصادرة عن طرفي الصراع، "في الأخبار يتم تداول بداية هُدنة لفتح ممرات إنسانية آمنة، وعلى الأرض وفي الواقع هناك صعوبة في الخروج من المنزل لشراء أبسط الاحتياجات. رغم أن الخروج من البيت متنفس لنا للاطلاع على أحوال الجيران، ولا يسعني توثيق الأحوال بسبب استهداف المصورين.. يا الله إنه الجحيم".
عم عثمان يواجه الجشع
وسط الجحيم وجدت عفراء الأمل في موقف العم عثمان، وهو صاحب سوبرماركت قال "لا للجشع ..لا لتجار الأزمات"، وقرر أن يسمح لسكان الحي بالحصول على احتياجتهم مع سداد ثمنها حين تتحسن الأمور، بحسب المدونة.
باع العم عثمان البضائع بأسعار "أقل من الأسعار قبل الأزمة وما كان عندنا كاش، وسمح لنا بأخذ جميع الاحتياجات وإرسال المبلغ عندما يعود تطبيق بنكك للعمل مرة أخرى". وتطبيق بنكك هو محفظة إلكترونية شهيرة في السودان يجري من خلالها تبادل المعاملات المالية.
وإلى جانب عم عثمان، حدثتنا أيضًا عفراء عن "ست الشاي"، التي تستمر في عملها رغم الحرب إذ لا تجد مصدرا للعيش غيره. وست الشاي لقب يطلق على المرأة التي تجلس في الطرقات العامة لبيع الشاي والقهوة بالطريقة التراثية للسوادنيين، ويجلس حولها الناس يتسامرون، وعادة ما ترتكز بجوار الساحات والمتنزهات وعلى كورنيش النيل وأمام المول التجاري في الخرطوم.
تحكي عفراء عن الجلوس عند ست الشاي قبل الحرب "قبل القصف كانت تنتشر ستات الشاي في كل مكان، والناس بقربهم يقضون سهراتهم على ضفاف النيل، أما الآن فعلى الأغلب تجد الجميع يحاولون الخروج من العاصمة إلى الولايات، أو إلى دول الجوار خشية الاشتباكات المسلحة"، الآن تذهب إليها فلا تجد أحد، لكنها تعلق "نحن صامدون".
وبينما تحاول عفراء الاستقواء بمن حولها، تتابع أميرة طمأنة أبنائها، وتفكر في حيلة جديدة تلجأ إليها إذا ما استمرت الحرب.
*اسم مستعار بناء على طلب المصدر.