يطيب للمصريين دومًا إن أرادوا التعبير عن الركود الاجتماعي، أو التقدم البطيء على سلم التغيير إلى الأفضل، أن يجيبوا إن سألتهم، بعد سفر طويل خارج البلاد، عن الأحوال، بقولهم "على حطة إيدك"، أي كما وضعتها أنت سابقًا تكون الآن، فكل شيء يظل على حاله، لم يتغير قط، أو لم يشعروا هم ويدركوا أن جديدًا قد طرأ عليه.
بالطبع لا يدرك هؤلاء أمرين أساسيين؛ الأول هو أن تغير المجتمع، في قيمه وأفكاره، عملية بطيئة جدًا، لا يشعر بها الفرد العادي، وتحتاج إلى أجيال تلو أجيال، كي يكون بوسعهم الوقوف عليها. والثاني أن الجماعة الوطنية لم تبذل ما عليها من جهد، لإحداث التغير المنشود والمطلوب.
هناك فئتان استثنائيتان في هذه الحال، الأولى هي تلك التي تحدثك عن تغيبر يتم، لكنه إلى الأسوأ، فيقول أصحابها إن المجتمع بدلاً من أن تتحسن فيه شروط العيش، فإنها تراجعت، لا سيما حول القيم الإنسانية الجوهرية، والأفكار التي تدفع إلى التقدم. والثانية هي تلك التي ترى في استمرار بعض القيم والأعراف والتقاليد والتصورات أمرًا حسنًا، لا بد من التمسك به، حتى لا يضطرب الناس، ويكون سعيهم إلى التغيير السريع أشبه بقفزة في الفراغ.
المثقفون لا يرفعون أصواتهم محتجين على تردي الأحوال ويكتفون باقتناص ما ينفعهم
أما التيار العريض فيربط التغير بتحسين الظروف المادية، فإن لم يغتن الناس بعد فقر، ويكتفوا بعد احتياج، ويراكموا بعد إفلاس، فإن الحديث عن تغيير يصبح ضربًا من الأمنيات الكاذبة. ولأن المصريين، في أيامنا هذه، يعيشون ظروفًا اقتصادية صعبة، فإن أغلبهم يرون أن التغيير يتم إلى الأسفل، أو أنه تغيير سلبي، ويصبح الإيجابي بالنسبة لهم، هو مجرد العودة إلى سابق أوضاعهم الاقتصادية.
لا يحدث التغيير إلا بحركة هائلة، قد تكون ثورة جائحة، تتجدد معها الموجودات المادية، والمحسوسات المعنوية، وقد تكون مشروعًا وطنيًا مختلفًا، تتبناه سلطة، أو يقوم على أكتاف نخبة فكرية وسياسية، تفرضه على أهل القرار.
وتفتقد مصر هذين السبيلين، فثوراتها سرعان ما يتم الالتفاف عليها من قوى مضادة لها، تفرغها من مضمونها، وتعيد ترتيب الأوراق والأحوال والتدابير لتمضي على حالها القديم. والمشروع الوطني، بمعناه الشامل المتكامل الذي يكون حتى فوق الاستراتيجية العامة للدولة، غائب إلى حد بعيد.
في الحياة العسكرية هناك أربعة أوضاع للوقوف في المكان: الجري في المحل، وخطوة تنظيم، وثابت ثم "صفا واسترح"، أحسب أنها انعكست على حياتنا العامة، بشكل أو بآخر، متماهية مع لافتة لا تكف السلطة عن رفعها اسمها "الاستقرار والاستمرار"، حتى لو كان هذا الاستقرار مجرد جمود، وكان الاستمرار أشبه بطحن كمية ضئيلة من الغلال، لا تتغير، ولا يستفيد الناس منها، ويكون الهدف من دوران الرحا هو أن يراها هؤلاء دائرة فائرة، فيقول من يديرها: نحن نتحرك.. نحن ننجز.. الحياة تمضي على قدم وساق.
إن الجري في المحل أو المكان ينشط معه الجسد، حتى لو كان لا يتقدم، وتنظيم الخطوة قد يتبعه أمر بالاندفاع إلى الأمام، لكن حتى هذا لا يتحقق على النحو المرجو، فالجري تمثيل، أو حركات عشوائية تجهد لها أعضاء الجسم، وتنظيم الخطوة، لا يتبعه إلا سير عشوائي بطيء، أقرب على الهرج والمرج، الذي يضيع معه النظام، وتنحسر فيه مزية الإتقان والالتزام.
ربما "ثابت" لسماع الأوامر، ثم "صفا واسترح" هي الغالبة، وهو أمر يروق للسلطة دومًا، ينعكس في إصرارها على طمأنة الناس على أن أحوالهم تمضي على ما يرام، وسط دعايات زاعقة، تضيع في ضجيجها الشكايات والبكائيات والرغبات الصادقة التي يرمي أصحابها إلى اتخاذ ما يلزم لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، توطئة لتحقيق ما هو ضروري كي يصبح مجتمعنا قويًا عفيًا.
وفي وجه السلطة ترفع النخبة الإدارية والثقافية والسياسية شعار "سَكنْ تسلمْ"، فالموظفون يبذلون جهدًا ضئيلاً يؤمنون بأن كثير العمل كثير الأخطاء، ومن يعاقبه لن يرحمه. والمثقفون، إلا قلة القلة، لا يرفعون أصواتهم محتجين على تردي الأحوال، ويكتفون باقتناص ما ينفعهم، ولو كان عارضًا عابرًا. والسياسيون، لاسيما في مرحلتنا هذه، آمنوا بالتحايل والمداراة، وبعضهم يصف العهد الراهن بأنه "وقت توقف الميكنة"، لأن أي حركة ستكون مغامرة لا تحمد عقباها، وكأنهم جميعًا يرددون في صوت جماعي "انج يا سعد، فقد هلك سعيد".
يلتفت أهل الدراية إلى ما كان مطروحًا في بلادنا قبل سنين طويلة من قضايا وهموم وأفكار وتنظيمات ومؤسسات، فيجدون الأمر لم يتغير. فقبل عقود من الزمن كان الكُتَّاب يتحدثون عن مشكلات لا تزال تحيا بين ظهرانينا، وكان الفاعلون في الحركات السياسية والاجتماعية يقدمون اقتراحات، هي نفسها التي تنهمر اليوم على الأذهان والأفهام، ولو أنها وجدت في الزمن الأول سبيلاً إلى التطبيق، ما كان يمكنها العودة، كما هي.
أليس الرعيل الأول من مفكرينا قد تحدثوا عن الحرية والعدالة الاجتماعية وحق الاختلاف واحترام القانون وتنظيم العمل والنهضة؟ بلى، خاضوا في كل ذلك وأراقوا سيلًا من المداد آملين أن يجد ما كتبوه آذانًا مصغية. لكن كل ما فعلوه أنهم تركوا لنا تراثًا نقرؤه الآن بمزيد من الحسرة والألم، وندرك معه معنى المثل الذي يقول "ذهب عثمان وجاء عرفان.. وبقيت على حالها دار لقمان".
ألم يحاول المتمردون على السائد الراكد إبداع نظام سياسي يليق بمصرنا وعصرنا؟ بلى، حاولوا، ودفع كثيرون منهم أثمانًا باهظة من البقاء في السجون، والمطاردة في المنافي، والمعاناة من قطع الأرزاق، والتشويه المتعمد الذي مارسته ضدهم آلة الدعاية التي تمسك بها السلطة الحاكمة، لكن عذابهم المقيم، ووجعهم الأليم، لم يثمر شيئًا ذا بال.
أنوار أوروبا عاشت ثلاثة قرون تقاوم الظلام حتى بددته، فشُنق آخر إقطاعي بأمعاء آخر قس
وسيسأل حالم أو عملي: أليس الفجر بقريب؟ ولا يستطيع أحد أن يقدم إجابة كافية شافية، إلا على سبيل الإدعاء أو التفكير بالتمنى. لكن الراسخين في معرفة أحوال الأمم سيرون أن الأمل لم يمت بعد، ولا يمكن أن يموت، ويحيلون في هذا إلى ما كابدت منه أمم أخرى، ظل هناك فيها من يقاوم التغيير إلى الأفضل، قرونًا، لكن لم يلبث التقدم أن ولد من رحم المعاناة الطويلة، والآلام المبرحة.
إن المثل الصارخ الذي أضربه هنا، كواحد من هؤلاء أو هكذا أتمنى أن أكون، هو ما جرى لأوروبا، فقد ظلت الكنيسة والملوك والإقطاعيون يقاومون التغيير، ويمسكون بعجلات الزمن بأصابع الأيدي والأرجل والأسنان، فتجاهلوا طويلًا نداء الفنانين والمفكرين والحركات الاجتماعية والسياسية حين نادت بالحرية والعدالة والمساواة، لكن مع الأيام، اتسع الخرق على الراتق، وسقطت تحت أقدام الزاحفين إلى بناء الدولة الحديثة كل أقوال الراغبين في الركود والجمود وأفعالهم.
في ظل هذا، إن قلنا إن مصر تعيش حالة مخاض طويل، يمكن أن نراه ذاهبًا في الزمن حتى عصر محمد علي، فإن أنوار أوروبا عاشت ثلاثة قرون تقاوم الظلام الحالك حتى بددته، فشُنق آخر إقطاعي بأمعاء آخر قس، وصارت الملكيات جمهوريات، ومن ظل على مملكته حولها إلى ملكية دستورية، تقوم على الحكم فيها هيئات منتخبة من الشعب، صاحب السيادة والشرعية والمال.
إننا لا نزال في مرحلة المحاولة من أجل التغيير، ولا يجب أن نتوقف عنها، مستسلمين لليأس، فإن نجحت النخبة الفكرية والسياسية والاجتماعية، في تحويل مسألة النهضة إلى قضية عامة يتبناها الشعب، كما جرى في أوروبا، فإننا لا محالة سنخرج من ضيق الماضي إلى براح المستقبل.