لا صوت الآن يعلو فوق صوت المحذرين من طوفان اللاجئين السودانيين، ولا قرف يوازي قرف الحملة الممنهجة ضد القادمين من الجنوب هربًا من نيران الاقتتال بين شركاء السلطة العسكرية في الخرطوم.
والحملة التي تهاجم اللاجئين ليست جديدة، فقد طالت الفلسطينيين والسوريين واليمنيين من قبل، لكنها هذه المرة أضافت لانحطاطها الفاشي صبغة عنصرية تداعب في ثناياها "العنطزة" القديمة كوننا "كنا نحكم السودان"، وتستعين على إذكاء النيران بتدوينات محدودة وفردية قليلة لسودانيين يهاجمون "مصر"، وقد وضعت مصر بين قوسين لأن أغلب هذه التدوينات تهاجم النظام الذي يدعم أحد طرفي الحكم العسكري، الذي استولى على البلاد بعد الانتفاضة الشعبية التي أطاحت بالرئيس إسلامي الهوى، المجرم بتعريف المنظمات الإنسانية والمحكمة الدولية عمر البشير.
هذا الدعم "المصري" لطرف الفريق عبد الفتاح البرهان ليس سريًا كما أنه ليس محدودًا بالبلاغة الدبلوماسية التي فاضت بها بيانات وزارة الخارجية المصرية حينما بدأ الصراع المسلح بين الجيش النظامي الذي يقوده البرهان، والميليشيا الدموية التي طالما احتضنها نظام الحكم في السودان وسعى لمأسستها ويقودها محمد حمدان دقلو، حميدتي.
الكيميتيون هم "الدولجية" الذين اختفى حضورهم وذكرهم مع انهيار كل الدعاية المبشرة بوضع اقتصادي مستقر
لست هنا بصدد الحديث عن الصراع الحالي في السودان، حيث انفجرت نوافير المياه الملتهبة من باطن الأرض الهشة التي حاولت أطراف إقليمية ودول تمتلك أسباب الدعم تغطيتها طوال شهور. يعنيني ويعنيكم، تلك الروح الفاشية التي تسعى اللجان الإلكترونية إلى بثها في نفوس المصريين الذين انتظروا انخفاض أسعار الفراخ واللحوم والزيوت النباتية وتوافر الأرز، لكنهم وجدوا أنفسهم ينتظرون تعويمًا جديدًا وارتفاعات أكثر في أسعار كل شيء.
نعم، أنا على يقين أن الحملة التي تحاول إثارة الرعب من وصول اللاجئين السودانيين، حملة منظمة ترتبها وتحركها الجهات التي يمثلها على السوشيال ميديا وفي الأذرع الإعلامية المؤممة من كتب قبل شهور، "عايز تمنع الدولارات من الخروج من مصر؟ بطل تشتري الشاورما.. زي ما بقولك أيوة.. الشاورما أم تومية دي" بنص التدوينة الركيكة التي كانت طلقة مهمة في حملة الهجوم على اللاجئين السوريين والمطالبة بطردهم باعتبارهم شافطوا الدولارات إلى الخارج.
هؤلاء الذين يتمرغون في خيرنا وينهبون ثروات بلادنا، ويشاركوننا الدعم، أين هو صحيح؟، فلا نحصل مع أعدادهم الهائلة، في تقديرات اللجان الإلكترونية، إلا على الفتات!
على يقين أن الكيميتيين وثوار القومية المصرية وأنصار الهوية الفرعونية، هم أنفسهم بالكيبورد المستأجر، والحرف والنقطة والهمزة إن استطاعوا وضعها في مكانها الصحيح في الكلام، هم "الدولجية" الذين اختفى حضورهم وذكرهم مع انهيار كل الدعاية المبشرة بوضع اقتصادي مستقر، وتبددها أمام تجار البيض وأصحاب مزارع الدواجن وسائقي الميكروباص.
لقد لجأت الأجهزة الدعائية إلى الحيلة القديمة، وتغيير التكتيك، بالكف عبر دعايتها عن الطنطنة بانجازات صارت محل هجوم وسخرية و"حسبنة" من الذين لا يجدون قوت يومهم، ولا تعنيهم النجفة الأكبر والمأذنة الأطول والكوبري الأوسع.
اختارت التوقف عن مهاجمة الأخبار التي تشير إلى الوضع الأسوأ على المنصات الإخبارية والمواقع المختلفة، عبر لجانها المنظمة في مؤتمرات الشباب، حتى مؤتمرات الشباب نفسها ذهبت، وحولت الفائض المنظم من الكوادر إلى نفض التراب عن الهوية المصرية المفترضة. الهوية الفرعونية، والنقاء العرقي المصري المتصل منذ أكثر من خمسة آلاف سنة حتى الآن، لا يقطعه قاطع تاريخي ولا تحول ولو قليل في أي مرحلة أو هجرة من الهجرات، وإضفاء صفات أحمس وتحتمس ورمسيس الثاني على الحاكم.
ببساطة انتقل الجيش الإلكتروني، هكذا يطلقون على أنفسهم بالمناسبة، من وضعية الدفاع والتجميل حيث لا شيء ينجح أمام الواقع الرث، إلى خطوط الهجوم كما يتخيلون، داعين الشعب إلى المفاخرة بماضيه والتعالي على من حوله جغرافيًا. هؤلاء الهمج الذين كفوا عن مساعدتنا ماليًا، فليكن.. لا شيء يهم، نحن أبناء الملوك العظام، بناة الأهرامات أصحاب المسلات، ولا فضل لأحد علينا بل أفضالنا تغرق العالم ولو كنا بلا داعم!
وفي الحقيقة، وبغض النظر عن الرسالة السياسية أو للدقة الدعاية السياسية للحاكم لا شيء مهم مرة أخرى، نحن كيميتيون والرئيس في حروبه هو أحمس في مجده، اللاجئون هم الهكسوس الذين يحاولون تغيير التركيبة الديموغرافية بمرور الوقت، لكننا لهم بالمرصاد.
ذلك الحاكم الذي لا يستطيع أن يقول عن نفسه إنه امتداد لجمال عبد الناصر مثلًا، في وقت يصارع الفقراء الحياة وتتحطم الطبقة الوسطى على صخور التعويم، ولا أنور السادات فلا حربًا انتصر فيها ولا أرضًا أعادها، ولا الأسرة العلوية حتى، فالانجازات الحالية تقوم على محو آثار ما صنعه محمد علي وبنوه وأحفاده، لمد المحاور وبناء الكباري، بل هدم مقابر سدنة العائلة لتوسيع الطرق.
ولا مجال لاستعادة روح ثورة 1919 وقادتها ولا روح أحمد عرابي ورفاقه فلا مجال لأي ثوار بالتعريف، يبقى الفراعنة كمن لا بواكي لهم لإلباس الرئيس لباسهم المفترض والمصطنع في أغلبه، وتنميط الإنشاءات الجديدة بنمطهم، رغم أن الجهل يطغى فيضيف تيجانًا بيزنطية ومنمنات رومانية.
بدأ هذا الهراء المخيف مع موكب نقل المومياوات من المتحف المصري القديم إلى متحف الحضارة، وأقول إنه مخيف لأن مثل هذه الدعاوى حينما تكون على اتصال بجهاز الحكم ولو من بعيد، فإنها تعني مع أزمة اقتصادية مستفحلة وديون مستحقة، تعني استهدافًا لشريحة من المقيمين طالت مدة إقامتهم أو قصرت، وفي خلق عداء مع المحيط الإقليمي يحتاج فقط إلى شرارة بسيطة ليشتعل؛ شرارة في مباراة كرة أو علاقة عمل في الداخل أو في الخارج، أو أتفه وأبسط من ذلك حتى.
مؤخرًا، وجد الكيميتيون ساحة نزال جاهزة، في مدرجاتها المزيد من جمهور المشجعين من غير جمهورهم الأصلي، وهي دعاوى الأفروسنتريك أو المركزية الإفريقية التي تدعي أن الحضارة المصرية القديمة وبنيانها ملكًا للشعوب الإفريقية، سرقها منهم سكان مصر، لأن هؤلاء السكان ربما كانو يتميزون بقدرتهم على جر الأهرامات أميال عدّة، وفك المعابد الهائلة ونقلها عبر الغابات والصحاري وإعادة تركيبها، ونشل البرديات وأسرار التحنيط والنصوص الخاصة بالفلك والطب، إلى آخر هذا الهراء الذي لا يزيد فعلًا عن كونه هراءً مُضخمًا مهما تبنته منصات إعلامية أو سينمائية أمريكية أو غيرها.
يخيفني أن يقال للمواطن العاجز عن شراء احتياجاته إن هؤلاء سبب عجزه
يظل هراء يشبه بلاهات المؤمنين بأن الأهرامات بناها الفضائيون، أو اليهود الذين عاشوا في مصر. يشبه هراء المؤمنين بأن الأرض مسطحة ولها حدود جليدية وأن وكالة ناسا تفبرك صور الفضاء حيث لا وجود للمجموعة الشمسية من الأصل، وإنما طبقات من السماوات معلق عليها النجوم والشمس والقمر!
وجد الكيميتيون في تلك البلاهات فرصة للتفزيع، اجتذبت المرتعبون من سرقة حضارتنا، ومعهم "المشهلاتية" الباحثون عن فرص للعمل في حملة فنية للتعريف بحضارتنا والرد على هذه الدعاوى. أي دعاوى، حتى قبل ظهور الإنترنت بأعوام قليلة كان أغلب الغربيين يعتقدون أن وسيلة المواصلات الرئيسية في القاهرة هي الإبل، وأن المصريين يرتدون عقالًا مثل الرجال في الصور التي يحتفظون بها للترجمانات في منطقة الأهرامات، بل كانت هناك أفلام سينمائية تخلط بين القاهرة وبغداد، الآن لم يعد هذا ممكنًا، وأي بحث بسيط على جوجل قادر على تبديد دعايات الأفروسنتريك ومن لف لفهم.
هذا "تريند" تنهيه مداخلة في قناة فضائية، والهلع المنقاد من عرض لستاند أب كوميدي مشهور، أو اكسسوار فرعوني ترتديه ممثلة أمريكية من أصول إفريقية لا يخيفني. يخيفني حقًا التحريض على المقيمين في مصر أو الملتجئين إليها، ويخيفني أكثر أن يقال للمواطن العاجز عن شراء احتياجاته إن هؤلاء سبب عجزه. يخيفني الكيميتيون المحرضون ولا أخشى الأفروسنتريك.