في مؤتمر صحفي بالعاصمة الإدارية الجديدة، الأربعاء 5 أبريل/نيسان 2023، أعلن رئيس الوزراء اعتماد ترشيح مصر للدكتور خالد العناني وزير السياحة والآثار السابق لمنصب المدير العام لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو)، للفترة من 2025 إلى 2029. ويوم الأربعاء التالي، تلقى المهندس يحيى حسين عبد الهادي استدعاء من النيابة العامة، لجلسة محاكمة في محكمة مدينة نصر، الخميس 13 أبريل. الاتهام الوارد في أمر الاستدعاء هو "حيازة منشورات". نعم "حيازة منشورات".
قرأت الخبرين معًا. الأول بعد أسبوع. والثاني في اليوم نفسه، ساخنًا بنار الفرن، من النيابة إلى قادوس الفيسبوك. ورأيت فيما يرى النائم أنني كتبتُ هذا المقال بعد حسم موقعة اليونسكو، وخروج العناني، ربما بحظ أوفر قليلًا مما نالته مصر في مهزلة مونديال 2010 على يد وزير الشباب والرياضة آنذاك، أستاذ العلوم السياسية علي الدين هلال، أحد عرّابي جمال مبارك لوارثة أبيه العجوز حسني.
فريدمان لا يقرأ الصحف الحكومية
في الحلم بالأمانة العامة لليونسكو لا ينجح لمصر مرشح. هذا عهدنا بالترشح. لا نتعلم الدرس، ولا نبحث أسباب الفشل. نصرّ على إعادة السنة، وندفع بوجوه تنتمي إلى المعسكر نفسه. الأذكياء إذا أعادوا الامتحان يحسّنون مجموع الدرجات.
لا اختلاف إلا في الدرجة بين ساسة ومتدينين طيبين. كلاهما يؤمن بأن "الآخر" يكرهنا، ويتفرغ للتآمر علينا. تعجبنا الحظيرة المغلقة؛ فترتفع الألسنة بالشتائم على طريقة "خسئت يا فريدمان". وكان الصحفي الأمريكي توماس فريدمان انتقد حسني مبارك، فأشبعته افتتاحيات الصحف الحكومية ومقالات رؤساء التحرير بالتأنيب والتكذيب. منتقدو فريدمان أجبن من أن يوردوا اقتباسات من مقاله؛ خشية أن تقنع تلك السطور قراء مصريين لا يتوصلون إلى الأصل المنقود. ومن سلة البلاغة الجاهلية أخرج سمير رجب سباب "خسئت يا فريدمان". لم يردّ فريدمان. لا يقرأ الصحف الحكومية.
نظرة واحدة في مرآتنا تكفي لإدراك "أصل" بائس لا يمكن معه تجميل "الصورة". العود أعوج. والقضية أكبر من اليونسكو. ويحسن البدء بها، والانتهاء أيضًا.
في سبتمبر/أيلول 2009 عاد وزير الثقافة المزمن فاروق حسني إلى مصر، في طائرة خاصة ببرلماني من رجال المال متهم بالاستيلاء على أرض للهيئة المصرية العامة للكتاب في شارع فيصل بالقرب من بيتي. هيئة الكتاب تتبع وزارة الثقافة، والوزير لا يخجله كسر عين الحكومة بامتطاء طائرة الملياردير. بعد الفشل في الفوز بإدارة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو)، قال الوزير العتيد، في مطار القاهرة "المنافسة على منصب رئاسة اليونسكو تم تسييسها". عرّف الماء بالماء. وطمأنه مبارك "ارمِ ورا ضهرك يا فاروق".
رمى فاروق. ولم يكن طبيعيًا أن تذهب "أمانة" اليونسكو إلى وزير صحا مبكرًا، واتجه إلى مبنى التلفزيون، وفاجأ المصريين بإعلانه مصادرة ثلاث روايات؛ بحجة وجود ألفاظ غير لائقة. لم يتقدم قارئ بشكوى، لكن الوزير قرر المصادرة، ومعاقبة رئيس التحرير الذي أجازها، وعزل رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة ناشرة الروايات.
الآخر لا يستوعب المصادرة، ولا نداءات الهتّيفة، إذ جمع الدكتور جابر عصفور توقيعات 173 مثقفًا عربيًا يساندون وزيره فاروق. الهتاف المحلي هراء يثبت أن البعض من رموز اليسار العربي انتهوا صقورًا مخصية، مقابل شدّ الرحال إلى القاهرة، مدعوّين كل بضعة أشهر.
وقعت الصقور المخصية بيانًا يصف الوزير بأنه "رجل الانفتاح الثقافي والحوار والقادر على جعل المرحلة القادمة لليونسكو.. مرحلة ازدهار". وفي ختام البيان قال جابر عصفور إن "موقف المساندة نابع من أن حسني (الوزير لا الرئيس) لديه مشروع ثقافي للتصالح بين الثقافات والتوفيق بين الأضداد والتصالح بين الإنسان والطبيعة والإنسان ونفسه".
كلما قدمت مصر مرشحًا لليونسكو وقع حادث ذو دلالة
فضيحة الصفر
الحلم بإدارة موقع دولي نوعي سبقه حلم ذو طبيعة شعبية. تنظيم بطولة كأس العالم 2010 في جنوب إفريقيا. سراب أنهاه جوزيف بلاتر رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا)، في 15 مايو/أيار 2004، بإعلان فوز جنوب إفريقيا بتنظيم البطولة لحصولها على 14 صوتًا، يليها المغرب الذي نال 10 أصوات. ولم تحصل مصر على صوت يتيم. صار "صفر المونديال" فضيحة، عنوان الفشل. وتشكلت لجنة لتقصي الحقائق، نسيناها بسبب كوارث متوالية، ذروتها شهداء عبارة السلام في البحر الأحمر، ويزيد عددهم على شهداء العدوان الثلاثي عام 1956.
كتبتُ في صحيفة العربي الناصري مقالًا عنوانه "عن وهم المونديال وأشياء أخرى"، في 7 ديسمبر/كانون الأول 2003، بعد أسبوعين من إصابة مبارك بإغماءة أثناء خطابه في البرلمان. قلتُ "لنا أن نتصور أن الوعكة الصحية الطارئة التي ألمت بالرئيس (وفقًا للصك الرسمي المصري) قد حدثت عام 2010، أثناء إقامة أربع مباريات، أو قبيل بدئها. في مثل هذه الحالة ستنشغل الفضائيات، عن مباريات ألغيت، ببث مادة مسلية، أشبه بملهاة لم تخطر على بال أوسع الكتاب خيالًا".
شهد عام 2007 محاكمة من كتبوا عن مرض مبارك، فكيف تنظم المونديالَ دولة تنقصها فلسفة "الدولة"، ويربكها مرض الرئيس؟ الحلم بتنظيم المونديال تبدده حقائق أبسطها قصور الخدمات الطبية، وفوضى الطرق وقواعد المرور. شرطي مجند في القاهرة أراد مجاملة ابن بلدته، فشكره الرجل. احتار الشرطي وقال "اطلب أي شيء. مش عايز تمشي عكس الاتجاه؟".
آخر تصريح لوزير "صفر المونديال"، يوم اندلاع ثورة 25 يناير 2011. قال إن عدد المتظاهرين في طول البلاد وعرضها 30 ألفًا. رقم هزيل في دولة مواطنوها 80 مليونًا. وفي صعود الثورة اختفى الوزير السابق، ثم عاد قبل الانتخابات الرئاسية عام 2018 ليعلن أن عبد الفتاح السيسي "مرشح الضرورة".
لا اعتبار لبيان وقعه مثقفون عرب يتحمسون لفاروق حسني، ولا للعبة إلهاء واستحمار تخدع الجماهير، وتوهمه باستحقاق مصر لتنظيم المونديال. أكروبات لا يراها إلا صانعوها البهلوانات، لإيهام جمهور محلي لا يؤثر في التصويت.
وجه مصر المشوّه
في عام 2016 قررت مصر "إعادة السنة". رشحت السفيرة والوزيرة السابقة مشيرة خطاب لمنصب المدير العام لليونسكو. سارعت 17 منظمة مصرية إلى دعم الترشيح. أداء محلي يشبه التظاهر في شوارع القاهرة تأييدًا لتنظيم المونديال. لعل المرشحة جديرة بالمنصب، لكنها تمثل الدولة، وتحمل أوزارها.
ومن الأوزار أن يُستبدل بالعدل اعتقال بالشبهات، واحتجاز مفتوح الأمد بدون توجيه اتهام أو محاكمة، وقد يقتل مشتبه بهم في مداهمة، ثم تتضح براءتهم. وفي مجال الثقافة لا تحتمل مصر إعادة عرض فيلم "18 يوم"، ولا تصرح بعرض فيلم "آخر أيام المدينة" الذي أعلن لمهرجان القاهرة السينمائي "الدولي" (2016) أنه سيشارك في المسابقة الرسمية. ثم استبعده المهرجان تمامًا، رافضًا مناشدات مثقفين يزيد عددهم على مثقفي جابر عصفور لمساندة فاروق حسني.
كلما قدمت مصر مرشحًا لليونسكو وقع حادث ذو دلالة.
في نهاية 2011 نال المحامي جمال عيد جائزة المدافع عن الكرامة الإنسانية. أنشأ بالقيمة المالية للجائزة ست مكتبات عامة في محافظات القاهرة والجيزة والشرقية. وفي الاستبداد بالمجال العام ومصادرته أغلقت المكتبات عام 2016، من دون إبداء أسباب، فكتب جمال عيد منشورا قصيرًا "سجون النظام قيدت حرية حوالي 60 ألف مواطن. مكتباتنا قدمت خدمة لحوالي 260 ألف مواطن. بنينا المكتبات بفلوسنا وبتبرعات عينية، كتب وأدوات. مكتباتنا اسمها الكرامة".
مشيرة خطاب زارت إحدى مكتبات الكرامة، وأعجبتها الفكرة. الزيارة موثقة بالصور في عدة صحف ومواقع. وعدت مرشحة اليونسكو بالبحث عن حل لإعادة فتح المكتبات، ولم تفعل شيئًا. واستمر ضجيج الدعم المحلي حتى خرجت قبل المنافسة الأخيرة التي فازت فيها وزيرة الثقافة الفرنسية السابقة أودري أزولاي، في أكتوبر/تشرين الأول 2017.
المرشح لا يمثل نفسه. لا يتقدم إلى اليونسكو فردًا. مصر الآن تُجرِّف ما تهتم بصيانته اليونسكو. الجرافات تنسف مقابر رواد الإصلاح، ولا تستثني حي الزمالك، ولا ترحم "حديقة المسلة". خلدها نجيب سرور في "الأميات". لم يستشر أحد في خلع المسلة، وتعرية الحديقة من رمزها التاريخي، والشروع في بناء جراج متعدد الطوابق للسيارات.
بماذا يجيب الدكتور العناني عن وجه مصر العمراني المشوّه؟ تجريف مقبرة طه حسين. وسجن ناشر طبع كتابًا مترجمًا على مرمى مفاتيح كمبيوتر أو تليفون، الكتاب والفيلم المأخوذ منه؟
يلزمنا للإفاقة زلزال. طفل يصارح الملك. يوسف يخاطب أباه الشيخ حسني في نهاية فيلم "الكيت كات "يا آبا أنت ليه مش عايز تصدق إنك أعمى؟! يا آبا أنت راجل أعمى".