التقينا بدايات الألفية الجديدة كمجموعة سينمائيين شباب نقيم في مدريد، وتجمعنا صداقات متفاوتة الدرجات، في منزل أحدنا، لنبحث إمكانية تأسيس شركة إنتاج أو تعاونية سينمائية. تكررت الاجتماعات دون الوصول إلى اتفاقات ملموسة، فطالبتنا الأكثر تنظيمًا، بحكم عملها في مجال الإنتاج، أن نحضر للقاء التالي ومع كل منا قائمة بإمكاناته وقدراته العملية الواقعية، أي ما يعرف صنعه، والماكينات والأجهزة التي يملكها.
في اللقاء التالي، وبالترتيب، تحدث كل منا عن إمكانياته الأساسية؛ مصور، منتجة، مخرج أفلام تسجيلية، مونتير... إلخ. حتى جاء دور برناردو مول، أصغرنا سنًا، فأخرج من حقيبته ورقة مطبوعة ومقسمة إلى جزئين؛ الأول للماكينات التي يملكها في استوديو مونتاج عبارة عن غرفة صغيرة، والثاني قدراته العملية التي يقدمها للمشروع المشترك "مونتير، ومصور، وربما مخرج، مصمم صفحات إنترنت، عازف جيتار، أغني أحيانًا، أتدرب على إلقاء المونولوجات الكوميدية، وهاو لرقص الكلاكيت، ودارس للسحر".
ولأن برناردو جاء منظمًا، وعكست ورقته حماس واضح لوضع كل مواهبه وإمكانياته في خدمة المشروع، كان نصيبنا العتاب من المنتجة المنظمة والصارمة، لأننا لم ننجز الواجب المنزلي مثله. تباعدت اللقاءات بعدها، وتفرقنا.
أكتب عن برناردو بعد أيام قليلة من وفاته بمرض السرطان. لا أكتب عنه لأنه صديقي، فالصداقة ليست مبررًا كافيًا في نظري لفعلي الكتابة والنشر، ولم أتخلص بعد من سؤال يلاحقني عند بداية أي فعل سينمائي أو كتابي، عن سبب إقدامي على هذا الفعل/العمل، وما أود أن أحكيه، ولمن. وإن لم تتوفر الإجابات الواضحة في أحيان كثيرة. لكنني أعرف هذه المرة لماذا أكتب عن برناردو، فبعض اللمحات السريعة عن تمسكه بالحياة عبر السينما، عبر الفن، ربما تكون ملهمة للآخرين، ولأنه يستحق أن يعرفه ولو شخص واحد يمر بما يشبه ما مر به هو.
عن السينما كأداة للفهم
في حياة كل منا صداقات من نوع خاص، لا يمكن وصفها بالحميمية. هي صداقات مجمدة، لا يتخذ أي من الطرفين خطوات أبعد كي تتحرك تلك الصداقة لمنطقة أكثر متانة وقوة. فرغم وجود الحب والود والاهتمام، يدرك الطرفان أنهما مختلفان في طريقتهما في التعاطي مع الحياة، ويملكان ذوقًا متباينًا تجاه مساحات الاهتمام المشترك.
وعادة ما تتأسس هذه العلاقات على وجود طرف ثالث يقف في المنتصف، شخص شديد الأهمية للطرفين، ويشكل المفصل الذي يربط بينهما. كانت علاقتي ببرناردو من ذلك النوع، فمن المفترض أن تكون المساحة الأساسية للاهتمام المشترك هي السينما. لكنني وبرناردو لا نحب النوع نفسه من السينما، ودرجة اشتباكنا معها في حياتنا اليومية متباينة، وطرق عملنا داخلها مختلفة. وكان ذلك الطرف الثالث، المشترك، هو "ألفونسو".
لم يتوقف برناردو أبدًا، وربما لدرجة تثير الغيظ، عن رؤية النصف الملآن من الكوب، ولم يخفت أبدًا حماسه تجاه عدد لا نهائي من المشاريع والأنشطة، والاشتباك العملي مع الكثير منها، ولم يتوقف عن الابتسام والتعامل ببساطة مع حظوظه الشخصية، حتى وإن كانت تعسة.
أخبرته قبل أعوام قليلة بأنه السبب في آلا ترفع مالكة البيت الذي أؤجره قيمة الإيجار الشهري. دمعت عيناه متأثرًا، ثم ضحك وقال "ربما يمنحك مرضي التخفيض القادم في قيمة الإيجار".
سأحكي القصة دون أية ألعاب تشويقية، فهو قرار مبدئي لكتابة هذا النص؛ لا حيل تشويقية مع قصة برناردو، ولذلك حكيت منذ البداية أنه رحل قبل أيام.
في يناير/كانون الثاني 2013، بينما نتفاوض مع مالكة البيت على قيمة الإيجار كي نتمكن من توقيع العقد والانتقال إليه، شاهدتني صدفة على أحد القنوات التلفزيونية الإسبانية. كنا أيام الثورة، أتحدث عن مصر، ويقدمونني باعتباري مخرج سينمائي. فاتصلت بي لتخبرني بموافقتها على تخفيض قيمة الإيجار التي تطلبها. وكانت المرة الثانية في 2018 بفضل برناردو. ففي فترة التفاوض على النسبة التي سترفعها من قيمة الإيجار، ذهبت صاحبة المنزل للسينما لمشاهدة فيلم "قصة جان". أرسلت لي بعد انتهاء الفيلم مباشرة رسالة لتسألني عن علاقتي بذلك الفيلم، بعد أن وجدت اسمي في قائمة الشكر. فأخبرتها أن المخرج برناردو مول صديقي، وأنني ساهمت في حملة التمويل، "الكرو فاندينج"، التي نظمها من أجل فيلمه. فلم تعد مرة أخرى لطرح مسألة رفع قيمة الإيجار.
ميكنج فيلم قصة جان
في 2010 ولد جان ابن برناردو. ولأن برناردو لا يترك الكاميرات، إلا لو استغني عنها بكاميرات التليفونات، بدأ في تصوير تطورات حمل رفيقته مونيكا منذ البداية، وصولًا للحظة الوضع، وبالطبع لاحق جان الصغير بالكاميرا، ليكتشفا مبكرًا أن طفلهما لديه متلازمة داون.
اكتفى برناردو ومونيكا بداية بأن يصورا جان وأن يضعا فيديوهات قصيرة على بلوج ليتشاركا الخبرات اليومية مع الآباء والأمهات الآخرين الذين لديهم أطفالًا بمتلازمة داون أو أمراض أخرى مشابهة. ومع انتشار البلوج، تطور المشروع. قرر برناردو أن يقدم فيلمه التسجيلي الطويل الأول؛ "قصة جان"، وبدأ رحلة البحث عن تمويل عبر حملة تبرعات.
كبرت الحملة لتصبح من أكثر الحملات نجاحًا، ليس فقط من حيث كثرة المشاهير المشاركين فيها، بل أن إدارة نادي برشلونة عرضت الفيديو الترويجي للحملة قبل بداية مباراة مهمة في ملعب الكامب نو. وبعد تصوير ومونتاج استمرا لمدة ست سنوات استطاع برناردو ومونيكا وجان تقديم فيلمهم في 2016.
صاحبة المنزل التي لم ترفع قيمة الإيجار، كان لها طفل بمتلازمة داون، توفي مبكرًا.
وعن السينما كأداة للتمسك بالحياة
خلال مرحلة العروض الأولى لـ"قصة جان" لاحظ برناردو وجود انتفاخ صغير خلف مفصل الركبة. وبعد التحاليل والأشعة المطلوبة، ذهب للقاء الطبيب مستعدًا بتليفون جديد بكاميرا أكثر جودة. جلس أمامه يصور لقائهما، ولم يتوقف عن التصوير حين أخبره الطبيب أن ذلك الانتفاخ عبارة عن ورم سرطاني يستدعي الجراحة والعلاج الكيميائي.
قرر برناردو في لحظتها أن يكرر تجربة فهمه لجان ولتطور علاقتهما عبر مشروع فيلم، أن يصنع فيلمًا جديدًا عن علاقته بمرض السرطان وكيف سيغير حياته. واتخذ في تلك اللحظة ذاتها أول قراراته التقنية/الفنية كمخرج؛ ألا يقطع المشهد، صانعًا ما نسميه بـ"اللقطة المشهد"؛ ينتهي اللقاء، يستمر في التصوير في ممرات المستشفى، يستخرج بعض الأوراق المطلوبة لبداية العلاج، يتوجه للمرحاض ليقف فيصور نفسه في المرآة... وهنا. بكى حين شاهد وجهه، حين أدرك حجم ما يواجهه، فضغط زر التوقف عن التصوير.
لم يستسلم برناردو لليأس، ظل كعادته ينظر للكوب الملآن، يخبرنا ببساطة عن كل ورم جديد يكتشفونه في جسده، وكأنه يحدثنا عن شيء عادي حدث بالأمس، مستمرًا في تصوير بعض المشاهد من رحلة العلاج الطويلة ومقاومة جسده للمرض. لكن مع توالي الأورام الصغيرة والكبيرة، المكتشفة من حين لآخر، وتوالي الجراحات والعلاجات التقليدية والتجريبية، تراجعت وتيرة عمله على الفيلم.
بماذا كان سيسمي برناردو فيلمه الثاني؟ "قصة برناردو"؟ لا أعلم. لكن قبل أسابيع قليلة من رحيله حكى لألفونسو عن رغبته في استعادة المادة المصورة، وأن يعمل عليها من جديد.
عن السحر وتلك الأصابع غير المرنة
لم يفِ برناردو أبدًا بوعده لي، أن يعلمني بعض ألعاب السحر. اكتفى بأن ينهي لقاءاتنا بحيلة أو لعبة بسيطة بورقة كوتشينة أو قطعة نقود معدنية. لكن لقائنا الأخير بصحبة ألفونسو كان في قاعة مسرح كبيرة لنشاهد معًا عرضًا لأحد سحرته المفضلين.
كان عرض السحر الاحترافي الأول الذي أحضره، وكان العرض المناسب كي يحضره أمثالي. فلم يكن سحرًا فقط، بل سحر ضمن استعراض ومونولوجهات كوميدية ونقد سياسي واجتماعي. وبعد العرض تذكرنا خيبتنا في مشروع التعاونية التي لم نؤسسها، وخيبات أخرى مشتركة. وبينما يشرح لي بعض حيل السحر التي رأيناها توًا، حاول بكرمه وحماسه المعتادين، إقناعي بأن أصابعي ستتعلم المرونة والخفة إن التحقت بمدرسة لهواة السحر.
اكتشفت لحظتها أن منطقة السحر كانت من الممكن أن تجمعنا أكثر من منطقة السينما والكاميرات.
صعد برناردو للمنصة بعد أحد العروض المزدحمة لمناقشة فيلم قصة جان مع جمهوره، مستندًا على عكاز ومصطحبًا لجان. حكى لجمهوره عن فيلمه الجديد وعلاقته بمرض السرطان، وحاول تحفيز طفله على الإمساك بالميكروفون ليتحدث، أو ليقول ولو كلمة واحدة. لكن جان كان مرتبكًا وعصبيًا، يتحرك طيلة الوقت، يمسك بالميكروفون كلعبة، وإن أراد أن يقول شيئًا قاله خافتًا في أذن أبيه.
كنت جالسًا في تلك القاعة، انزعجت من أن برناردو اصطحب جان معه للمنصة. لكنني انتبهت سريعًا أنه ليس استعراضًا، بل أن برناردو هو هذا الشخص تحديدًا، يقول لنا، للجميع، ألا نخجل من أبنائنا أيًا كانت طبيعتهم. كان معنيًا لحظتها بأن يشعر هو وجان بالحياة التي يعيشونها، وأن ندرك جميعنا أن علينا أن ننغمس في حيواتنا بكل ما فيها، وأن نتمسك بها ببساطة وبشجاعة. وألا نتوقف أبدًا عن البحث عن المتعة، أو البحث عن حلم جديد.