خلال العقود الأخيرة استطاع مفهوم "الاقتصاد الإسلامي" أن يتأقلم مع كل التنويعات الرأسمالية و"تقاليعها"؛ ففي مجال تطبيقات البورصة الالكترونية يمكنك ملاحظة أن العديد منها تضع وزنًا كبيرًا لما يعرف بـ "المعاملات الإسلامية". على سبيل المثال تُخصص منصة أولمب تريد لتداول الأصول، التي يتابعها 1.3 مليون على فيسبوك، نسخة من التطبيق للتعاملات الإسلامية يتم الترويج لها فى المنطقة العربية.
ولا يقتصر الأمر على التطبيقات؛ لكن هناك مكاتب استشارة مالية متخصصة فى توفيق أوضاع الشركات لتناسب مبادئ الاقتصاد الاسلامي، وهناك مشاريع صغيرة رائدة/start ups قائمة بشكل أساسي على الاقتصاد الإسلامي، وفي بورصات الأوراق المالية توجد أسهم تسمى إسلامية.
في قلب كل نشاط اقتصادي أو استهلاكي هنالك ما يمكن نعته بوصف"إسلامي" أو "حلال"؛ من التسويق الإسلامي إلى السياحة الحلال، ناهيك عن البنوك.
المثير للانتباه أن ما آلت إليه مشروعات الاقتصاد الإسلامي حاليًا يختلف بشكل كبير عن التصورات التي سادت وقت نشأته. حين بزغت هذه الفلسفة كانت تهدف إلى إيجاد نظرية اقتصادية تختلف عن النظريات الرأسمالية والاشتراكية. لكن من الواضح أن تلك المحاولات قد فشلت، وأصبحت النظرية الاقتصادية الإسلامية والممارسات الناتجة عنها مجرد ملحقات بالاقتصاد الرأسمالي السائد في عالمنا اليوم.
ولكي نكتشف الأسباب التي ربطت الاقتصاد الاسلامي بالرأسمالية سنتحدث عن كتاب دراسات في المفاهيم الاقتصادية عند المفكرين الإسلاميين، للمفكر الماركسي أحمد صادق سعد، الصادر عن دار الفرابي، سنة 1990.
ولا أقوم هنا بمراجعة شاملة للكتاب، لكن بمحاولة لفهم حالة الاقتصاد الإسلامي الراهنة في ضوء القراءة المتميزة التي نشرها الكاتب عامة.
الاقتصاد منتج حداثي
واحدة من المفاتيح التي تناولها سعد في فهم حالة الاقتصاد الإسلامي هي أنه لا يتعامل مع علم الاقتصاد كعلم حديث نشأ نتيجة ظهور ظروف اجتماعية معينة في المجتمع الغربي خلال مرحلة التحول لنمط الإنتاج الرأسمالي. لذلك تم إنتاج خطاب الاقتصاد الإسلامي كمجال معرفي عابر للتاريخ، نشأ من قلب أفكار ذات أصل ديني تعود إلى مئات السنين، مع الاقتناع بأن تلك الافكار قادرة على حل المشاكل التي يواجهها علم الاقتصاد في وقتنا الحالي.
وبطبيعة الحال، كان الصوت الرئيسي الناقد لتناقضات نمط الإنتاج الرأسمالي نابع من فكر حديث أيضًا متمثلًا في المنهج الماركسي. وبالتالي يمكننا القول إن الحداثة هي الأساس؛ بينما نجد أن معظم المفكرين يدورون فى فلك الأحكام القرآنية والأحاديث وتفسير الأئمة والفقهاء الأقدمين.
في الحقبة نفسها كان هناك صوتًا أكثر أصولية رفض الفائدة بشكل مطلق وهؤلاء مثلوا الطبقة الوسطى الريفية
لم يحاول الكثير من الكُتاب الإسلاميين المعاصرين تقديم رؤيتهم للنصوص الدينية بناء على الواقع المعاصر، ولم يحاولوا حتى وضع التفاسير فى سياقها التاريخي واستنباط أحكام يمكن تطبيقها فى الواقع المعاصر، بل اهتموا فقط بتجميع التفاسير وتطبيقها عنوة على الواقع العربي. ونتج عن ذلك تحريم فائدة البنوك التجارية لتشابهها مع الربا، من دون النظر إلى السياق الموضوعي المختلف تمامًا لتحريم الربا في الماضي.
ليس المقصود هنا أن النصوص الدينية مناسبة فقط للماضي دون الحاضر في العموم، فهذا ليس موضوعنا، ولكن عندما نتحدث عن "الاقتصاد" يجب أن نتبنى مناهج حداثية، وخصوصًا إن أردنا إيجاد علاقة تأويلية عابرة للزمن بين النص الديني والواقع المعاصر.
الضرورات التي أباحت المحظورات
يُصدر الفكر الاقتصادي الإسلامي خطابًا يرتبط ظاهريًا بالماضي بينما يرجع سياقه وبنيته الأيديولوجية إلى تناقضات الحاضر، وخصوصًا في بلدان العالم الثالث العربية التي نشأ فيها هذا الفكر. ولذلك تفاوتت نظرة الاقتصاد الإسلامي للحياة الاقتصادية بين حقبة وأخرى، كان النظام الاجتماعي فيها يتغير داخل المجتمعات النامية، بل وتفاوتت أيضًا حسب الطبقة التي خرج منها كل خطاب.
في أعقاب الحقبة التحررية (ما قبل التحرر من الاستعمار، قبل 1952) كانت الإسهامات متهاونة نسبيًا مع فائدة البنوك، خصوصًا بعد إعلان قيام بنك مصر. واعتبر البعض أنها تقع تحت بند "الضرورات تبيح المحظورات"، وهؤلاء مثلوا شرائح الرأسماليين المسلمين في الحقبة التحررية.
وفي الحقبة نفسها، كان هناك صوتًا أكثر أصولية رفض الفائدة بشكل مطلق، وهؤلاء مثلوا الطبقة الوسطى الريفية المحافظة، وكان منهم الإخوان المسلمون. وفريق ثالث كان ذو توجه يساري، وكان ينتمي للمد الاشتراكي في الأربعينيات الذي ركز على الدور الاجتماعي للدولة والحاكم فى الإسلام، وكيف أن ملكية المال ترجع في النهاية إلى الله، وأن الإنسان مجرد وكيل على المال، فإن أساء استخدامه وشاع الفقر والعوز في أرجاء الأمة وجب على الحاكم إعادة توزيع الثروة.
وخلال الحقبة الناصرية شاعت التبريرات الشرعية لعمليات التأميم الواسعة، والتأكيد على تميز نظام الاشتراكية العربية الإسلامية عن النظم الشيوعية الكافرة والنظم الرأسمالية الجشعة.
ثم كانت السبعينيات هي الحقبة الذهبية للاقتصاد الاسلامي، وحتى يتجلى لنا أسباب هذا الازدهار، الذي يعد أساسًا لكل ما جاء بعده، سنناقش تاليًا مشروع صادق سعد بصورة أكثر شمولًا مما طرحه في كتابه.
مشروع صادق سعد
رغم موضوع الكتاب المميز إلا أنه لا ينفصل عن مجمل أعمال سعد، بل يمكن اعتباره دراسة متخصصة لموضوع محدد استخدم فيه المنهجية التي تحدث عنها فى كتابيه دراسات في الاشتراكية المصرية، ودراسات في الثقافة العضوية.
ففي الكتاب الأول كشف لنا سعد عن الارتباط العضوي بين الفكرية الشعبية في مصر وكيفية تشكلها عبر آلاف السنين، واستمراريتها الأيديولوجية حتى مع ظهور الرأسمالية، وبين التوجه الشعبوي في مصر (الناصرية، والحركات الإسلامية السياسية كأمثلة).
الفكر الشعبوي في نظر سعد هو المُعبِّر السياسي والأيديولوجي عن التراث الشعبي بكل ثنائياته المتناقضة وتوفيق هذا الفكر بين العناصر الدينية والبيئية والبرجماتية وتوتره الدائم مع السلطة. إن الشعبوية هي التي تعطي التراث فاعليته السياسية.
ولكن كما نعلم، لا توجد فاعلية سياسية من دون طبقة توظف تلك الفاعلية لتمثيل مصالحها وتعبير أيديولوجيتها عن تلك المصالح. وفي حالة الاقتصاد الإسلامي يركز سعد على دور الطبقة الوسطى أو البرجوازية الصغيرة في إنتاج هذا الخطاب، ويرى أن هذه الطبقة مدفوعة بالتناقض الناشئ عن موقعها الوسطي بين رأس المال والعمل، وبالتوتر مع السلطة والاحتياج إليها في الوقت ذاته.
قديمًا لعب التراث الشعبي الدور الأيديولوجي؛ حيث كان عاملًا للتوازن بين السلطة والشعب، وكان في الأغلب يصب في مصلحة أصحاب الثروات والقمم العليا فى الدولة مع الإبقاء على بعض المنافع والفُتات للطبقات الشعبية، وإن كان لا يمكن إغفال أن الفكر الشعبي في بعض الأحيان كان راديكاليًا متحديًا للسلطة.
يتوجه الفكر الاقتصادي الإسلامي نحو المزيد من الليبرالية والنيوكلاسيكية
ونفس الأمر ينطبق على الفكر الشعبوي في العصر الحديث، الذي يستقطب الطبقة الوسطى بهدف تمثيل المصالح طويلة الأمد للبرجوازية الاحتكارية، حتى وإن مثل لوقت قصير مصالح الطبقة الوسطى.
في هذا السياق، يجب مناقشة مفاهيم الاقتصاد الإسلامي، فهي كما ذكرنا نشأت في تناقض وتوتر مع الحداثة والرأسمالية، ولكن هذا التوتر لم يُترجَم إلى منهج علمي لتجاوز الرأسمالية، أو حتى تأويل موضوعي للإسلام للارتباط مع مسيرة الحداثة.
من الاشتراكية العربية إلى الانفتاح الخليجي
المتتبع لخطاب الاقتصاد الإسلامي سيلاحظ تحولات كبيرة جرت في بنيته منذ الستينيات، تُعبر عن الطبيعة الإصلاحية لهذا المشروع ورغبته في التكيف مع التحولات التي تدور من حوله.
خلال الستينيات كان المشروع الناصري في حاجة إلى قطب أيديولوجي إسلامي، بجانب الأقطاب الأخرى، ولهذا نجد التشابه بين التحليلات النظرية للمفكرين الإسلاميين، والتي من المفترض أنها عابرة للزمن والتاريخ أو هكذا يُصدرونها، وبين التوجهات الناصرية في الاقتصاد والسياسة. وهو ما تؤكده أحداث تاريخية، من أهمها انعقاد أولى المؤتمرات المهتمة بالاقتصاد الإسلامي وظهور الأشكال الأولى للبنوك الإسلامية كبنوك الإدخار الزراعية.
وليس ذلك فقط، بل يوجد تشابه بين الاقتصاد الإسلامي في هذه الحقبة وبين المفاهيم الرأسمالية الكينزية والرأسمالية الإصلاحية.
وبعدما انتهت الحقبة الناصرية واخترق رأس المال الخليجي السوق المصري، تفشت التصورات الخليجية الإسلامية بين المصريين ومعها الانفتاح الاقتصادي الذي لم يجلب رؤوس الأموال والسلع فقط، بل طُرْق التفكير أيضًا.
في هذا السياق، توجه الفكر الاقتصادي الإسلامي نحو المزيد من الليبرالية، ونلاحظ تيمات نيوليبرالية ونيوكلاسيكية واضحة، كرفض تدخل الدولة في الاقتصاد وضبط الأسواق والتسعير، استرشادًا بحديث للرسول يرفض فيه التسعير للناس عندما جاءوا إليه طالبين تدخله إثر أزمة اقتصادية.
وكانت شعلة "تحريم الفائدة المصرفية" هي التي بدأت كل ممارسات الاقتصاد الإسلامي، لأنها وضعت الرأسماليين المسلمين بشكل خاص في مأزق مفاده أن مشاريعهم تحتاج إلى تمويلات كبرى حتى تنمو وتتوسع، والحل المتاح، وهو الاقتراض من البنوك ورأس المال المالي، قد تم تحريمه. فما العمل؟
تمثلت الحلول المطروحة خلال حقبة السبعينيات في البنوك الإسلامية، التي وظفت العوائد الهائلة للبترول الخليجي من جهة، ومن أخرى استقبلت أموال أسر الطبقة الوسطى التي كانت تخشى الوقوع في حرمانية الربا، وكانت من قبل تؤثر الاحتفاظ بالمال "تحت البلاطة" فثأصبح لديها سبيل حلال للاستثمار.
في هذا السياق، ارتبط التوسع الهائل في إنشاء البنوك الإسلامية في مصر بمصالح الطبقة الوسطى التجارية غير الإنتاجية، وتماشت أهداف تلك البنوك مع التمويلات الغربية الهادفة لدعم المشروعات الصغيرة، ليشكلا بذلك رأس حربة لضرب الرسملة والتصنيع الثقيل والتقدم التقنوي في مصر وتفتيت رأس المال القومي.
ومع الاندماج المتزايد لمصر داخل دائرة العولمة، منذ التسعينيات وإلى الآن، تشابك التراث، خصوصًا الإسلامي، مع الحداثة؛ مرة بشكل عدائي وأخرى بشكل توافقي، ليلِد لنا مشاريع فكرية منقوصة، وفي كثير من الأحيان مشوهة، تصب في النهاية في مصلحة الرأسمالية الريعية التابعة في العالم الثالث، كالمضاربات المالية والأنشطة التجارية والاقتصاد الترفيهي والخدمي، كما أشرنا في البداية.