لا يمكن لجهود السلام أن تنجح في تسوية النزاع الدموي في اليمن، قبل علاج حقيقي لجذور الأزمة الممتدة بين مكونات ذلك البلد السياسية والقبلية والجهوية، فبدون جبر الشروخ التي ضربت العمق اليمني- اليمني، لن ينتج عن التقارب السعودي الإيراني عملية سلام مستدامة بين أطراف الصراع، فما بين شركاء الفريق الواحد من تباين في الرؤى والتصورات على شكل المستقبل قد لا يقل عما بين أعضاء تلك الفريق وخصومهم من خلافات وتباينات.
ووفق تقدير معهد الشرق الأوسط للدراسات، فإن الاتفاق السعودي الإيراني الذي توسطت فيه الصين بهدف تذويب العداء طويل الأمد، ستكون له تداعيات متعددة الطبقات على اليمن.
التقرير الذي نشره المعهد الأمريكي المهتم بقضايا الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، الأسبوع الماضي، يقول "بالنسبة للسعودية، كان دور إيران ونفوذها في اليمن، الذي تشترك معها الرياض في حدود طولها 1458 كيلومترًا وساحل البحر الأحمر، غير قابل للتفاوض في السابق لكن يمكن التعامل معه الآن في إطار التوترات المُدارة". و"أما بالنسبة لإيران، فبعد أن حصلت على مكاسب استراتيجية كبيرة من خلال مساعدتها الأمنية والعسكرية والاستخباراتية والاقتصادية طويلة المدى للحوثيين، سيكون من غير المرجح أن تتنازل عنها لمجرد أن البلدين اتفقا على خارطة طريق أولية للتطبيع".
ويذهب المعهد في تحليله إلى أن الصيغة المطروحة الآن للتسوية، ستمنح السعودية مخرجًا من المرحلة العسكرية للصراع، وستمكّن إيران من الحفاظ على موقعها في اليمن، وتوفر عددًا من الفرص للحوثيين، "السعودية وإيران اتفقتا بشكل أو بآخر على تقاسم النفوذ في اليمن وتجميد الأوضاع على ما هي عليه".
وبالنسبة للحوثيين فيرى المركز أن "محاولة تفكيك الطبقة السعودية -الإيرانية من الصراع قد تعني أنه سيصبح محليًا بشكل متزايد في المستقبل، مما يمكّن الحوثيون من التركيز على هزيمة الأطراف المحلية واحدًا تلو الآخر". ويذهب المعهد إلى أن التقارب قد يعالج جزءًا من الصراع، لكنه لن يكون كافيًا لضمان جهود سلام تعيد الهدوء والاستقرار إلى البلاد بما يحقق تطلعات الشعب اليمني.
مسودة سلام
مساء الخميس الماضي، سربت أطراف يمنية ذات صلة ما وصفت بأنها "مسودة سلام شاملة" للتسوية السلمية للأزمة، وبحسب ما نقلته جريدة الشرق الأوسط السعودية، فإن الخطة المقترحة تبدأ بوقف شامل لإطلاق النار في البلاد وفتح جميع المنافذ البرية والجوية والبحرية، ودمج البنك المركزي، واستكمال تبادل الأسرى والمعتقلين "الكل مقابل الكل".
تسريب بنود المسودة جاء بعد ساعات من لقاء معلن جمع وزير الدفاع السعودي خالد بن سلمان مع رئيس وأعضاء مجلس القيادة الرئاسي اليمني. الوكالة اليمنية الرسمية للأنباء "سبأ" قالت إن الاجتماع ناقش مستجدات الجهود الرامية لإحياء مسار السلام في اليمن من خلال عملية سياسية شاملة برعاية الأمم المتحدة. ونشرت منصات إعلام يمنية قريبة من الحكومة الشرعية ما وصفته بأنه بنود خارطة الطريق السعودية للسلام في اليمن، بعد الحصول على موافقة جماعة الحوثي.
ونقلت وسائل الإعلام اليمنية عن مصادرها أن الأمير خالد أبلغ رئيس مجلس القيادة الرئاسي رشاد العليمي وأعضاء مجلسه بأن الهدنة ستكون موسعة ولمدة تمتد إلى ستة أشهر، وأن الخطة تشمل "إعادة تصدير النفط وصرف رواتب الموظفين في أرجاء اليمن، بما في ذلك المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين، إضافة إلى فتح مطار صنعاء الدولي لوجهات دولية أخرى"، وتوقع المصدر أن يُعلن عن هذا الاتفاق رسميًا خلال الأيام المقبلة.
وأكد مصدر يمني مطلع، مقرب من الحكومة المعترف بها دوليًا في صنعاء، أن مجلس القيادة الرئاسي وافق على الدخول مع الحوثيين في تسوية سياسية، مشيرًا إلى الاتفاق هو بالأساس نتائج مشاورات الحوثيين والسعوديين في العاصمة العمانية مسقط التي استمرت أشهر عدة، لافتًا إلى أن السفير السعودي لدى اليمن محمد آل الجابر، الذي زار صنعاء والتقى فيها بقيادات جماعة الحوثي، عرض على أعضاء مجلس القيادة ما توصلت إليه بلاده من تفاهمات مع الحوثي.
يصر الحوثيون على سداد رواتب موظفي الدولة بما فيها المناطق التي يسطرون عليها من عائدات النفط والغاز
وأضاف المصدر لكاتب هذه السطور أن بنود الاتفاق تنص على "صرف مرتبات الموظفين في مناطق سيطرتهم، وتوحيد البنك المركزي، مقابل وقف الحوثيين استهداف مواني النفط في مناطق الحكومة الشرعية، وبالطبع عدم استهداف الحدود السعودية".
ثم عقب ذلك يتم الانتقال إلى مرحلة مفاوضات بناء الثقة بين الطرفين، وتشمل تلك المرحلة، بحسب المصدر، تشكيل لجان تفاوض مشتركة بين الحوثيين والمجلس الرئاسي خلال الشهور الثلاثة الأولى من العملية السياسية، تنحصر مهامها في الإشراف على تنفيذ بنود التسوية خلال مرحلة انتقالية يعلِن خلالها التحالف بقيادة الرياض انسحابه الكامل من اليمن.
وأثناء التفاوض يتم التوافق على تصور مشترك لعدة ملفات على رأسها شكل الدولة، ودمج القوات في منظومة واحدة للجيش والأمن، وآلية إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في نهاية المرحلة الانتقالية، وترتيبات اقتسام السلطات حتى إجراء الانتخابات.
وفيما يصر الحوثيون على سداد رواتب موظفي الدولة بما فيها المناطق التي يسطرون عليها -وبينهم جنود وضباط جيش- من عائدات النفط والغاز، ترفض الحكومة الشرعية تقاسم عائد الواردات السيادية مع الحوثيين إلا بعد الوصول إلى تفاهمات عبر العملية السياسية تقضي بأن تدخل الضرائب التي يجمعها الحوثيون إلى خزينة الدولة وتوزيع كل الواردات وفق ما تفرضه الحاجة، وهي إشكالية لم يتوافق عليها بعد.
وكشف مصدر دبلوماسي يمني آخر أن الرياض أعربت عن استعدادها لدفع رواتب الموظفين الحكوميين سواء في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة أو الأخرى التي تخضع للحوثيين كحل مؤقت لحين الوصول إلى حل من خلال المفاوضات، وهو ما رفضه الحوثيون حتى كتابة تلك السطور.
من جهتها نقلت أسوشيتد برس عن دبلوماسي سعودي قوله إن سداد رواتب العسكريين مشروط بقبول الحوثيين لضمانات أمنية، من بينها إنشاء منطقة عازلة مع المناطق الخاضعة لجماعة الحوثي على طول الحدود اليمنية السعودية.
وقال مسؤول حوثي إن جماعته لم تقبل أجزاء من الاقتراح السعودي، خاصة ما يتعلق منها بالضمانات الأمنية، وترفض استئناف تصدير النفط من المناطق التي تسيطر عليها الحكومة قبل سداد الرواتب. وذكر أن الحوثيين اقترحوا توزيع عائدات النفط وفق "ميزانية ما قبل الحرب"، وهو ما يعني أن تتلقى المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون نحو 80% من الإيرادات لأنها الأكثر اكتظاظًا بالسكان، بحسب المسؤول.
عدن تبحث عن "جنتها"
يأتي هذا فيما يشهد "معسكر الشرعية" انقسامات داخلية. مسؤول حكومي يمني تحدث لأسوشيتد برس، قائلًا إن ما يجري حاليًا جعل الحكومة المعترف بها دوليًا "بلا صوت"، مضيفًا أن المجلس الرئاسي الحكومي يخشى أن تقدم السعودية "تنازلات غير مقبولة من أجل التوصل إلى اتفاق". مع ذلك يشير المصدر إلى أن جبهة الحكومة الشرعية ليس لديها خيار سوى "الانتظار حتى نرى ما ستسفر عنه هذه المفاوضات".
خارطة الطريق أو المسودة المقترحة من المنتظر أن تواجه لغمًا آخر، فأعضاء مجلس القيادة الذين يمثلون المجلس الانتقالي الجنوبي يرون أن الخطة لا تلبي مطلبهم المتمثل في أن "قضية الجنوب جزءٌ من أي مسار مستقبلي للعملية السياسية"، فيما لا تبدي القوى الممثلة للشرعية موقفًا واضحًا حيال هذا المطلب وتحاول تأجيل بحثه لحين حسم الصراع مع الحوثيين.
ويعتقد مراقبون جنوبيون أن تركيز الأطراف الدولية على حصر الأزمة اليمنية في صراع بين الحوثيين والسلطة الشرعية ومن خلفهم التحالف العربي يعكس قصورًا واضحًا في إدراك طبيعة الأزمة المركبة والمتعددة الأطراف والجوانب.
وأشار مصدر يمني جنوبي تحدث إلى كاتب هذه السطور، إلى أن عدم أخذ موقف الجنوبيين في الاعتبار يعني "استحالة تحقيق الاستقرار في هذا البلد، وإن تم التوصل إلى توافق مع الحوثيين".
ويرى أن تكرار ما وصفه بـ"الحلول الترقيعية" لن يؤدي إلى الاستقرار، وأن المطلب الرئيسي للمجلس الانتقالي الجنوبي هو أن تكون القضية الجنوبية جزءًا لا يتجزأ من الحل السياسي الشامل.
وأشار المصدر إلى أن المجلس الانتقالي يناقش تصورين لطرحهما على مائدة التسوية السياسية؛ "إما الانفصال والاستقلال بدولة جنوبية كما كان الأمر قبل مطلع تسعينيات القرن الماضي، أو تشكيل حكومة لإقليم الجنوب تحت مظلة دولة فدرالية يرأسها رئيس جنوبي وله نائب من الشمال"، على أن يعرض الأمر في استفتاء أو تقرير مصير على الشعب الجنوبي.
ويقول مصدر دبلوماسي يمني، إن ملف الأزمة اليمنية كان المحور الرئيسي في اجتماع وزير الخارجية السعودية فيصل بن فرحان ونظيره الإيراني حسين أمير عبد اللهيان في بكين الأسبوع الماضي، وتعهد الأخير بالضغط على الحوثيين حتى لا يستهدفوا الحدود السعودية.
ويرى المصدر أن أي حل يخص قضية الجنوب يجب أن تكون الإمارات طرفًا فيه باعتبارها القوة الإقليمية الداعمة للمجلس الانتقالي الجنوبي التي تملك أدوات ضغط على قادته.
الطريق إلى تسوية الصراع في اليمن لا يخلو من ألغام عدة، فمكونات الشرعية اليمنية قلقة من أن يضحي السعوديون بهم في سبيل تطبيع العلاقات مع إيران، والجنوبيون يضغطون لفرض تصورهم، بينما يسيطر الحوثيون على معظم محافظات ومدن الشمال وعينهم على إحياء النظام الإمامي مرة أخرى.