صفحة باسمها على فيسبوك
نيللي

أن تحب نيللي

منشور الاثنين 17 أبريل 2023

صادف أن عملت يومًا مترجمًا عن اللغة الروسية لأحد أهم مخرجي سينما الأطفال في الاتحاد السوفيتي ثم روسيا الاتحادية؛ من عينة نادرة من أولي الفن الذين تتذكرهم فتنطبع مواقفهم وأحاديثهم وكلماتهم ولفتاتهم، ثم تعود لتظهر لك فيما بعد طالما حييت. اسمه رولان بيكوف.

كان رئيسًا للجنة تحكيم مهرجان القاهرة لسينما الأطفال، وكان العام هو 1998. وفي خضم مناقشات التحكيم وقفت اللجنة أمام اختيار صعب، لم أكن أدرك حينها أنه سياسي بقدر ما أدهشتني حجته، بين فيلمين أحدهم أمريكي هوليوودي والآخر إيراني. وكان من بين أعضاء لجنة التحكيم ناقدة أمريكية تدافع عن الفيلم الأمريكي الذي كان بالفعل أكثر إبهارًا وأحدث تقنيًا، إلى جانب مضمون جاد وتربوي رصين، أمام الفيلم الإيراني، الذي دافع عنه صاحبنا الروسي، وهو بالفعل متواضع الإمكانيات المادية، لكنه رقيق نافذ رومانسي حالم، بطلته طفلة صغيرة تذهب لشراء الأرز لوالدتها أو شيء من هذا القبيل.

انبرت الناقدة الأمريكية تعدد مناقب الفيلم الأمريكي، وأوجه قوته وتميّزه، أما صاحبنا بيكوف، وهو ممثل مسرح عتويل، وله في المسرح والسينما أكثر من مئة دور مختلف، من بينها دور بارز في فيلم تاركوفسكي الشهير "أندريه روبليوف"، وقف يدافع عن الفيلم الإيراني.

التحليق عاليًا

أذكر خطبته وكأنه الأمس.. قال حينها: لا شك أن الفيلم الأمريكي ينتمي لمدرسة السينما الأمريكية المبهرة في عناصرها والمدهشة في تقنياتها، ولا شك أن الأطفال يسعدون بمثل تلك المكونات البصرية الخاطفة، لكنه فيلم دون أخطاء، ثابت على مستوى واحد "متوسط" في كل شيء، فلا هو طال القمة في سعيه نحوها، ولا ارتطم عفوًا بالقاع، فبدا بذلك وكأنه ماكينة لا روح فيها، ولم تشعر في أي لحظة على طول الفيلم بأن أحد أبطاله هو أحد أقربائك أو معارفك أو أصدقائك، خرجنا من الفيلم وأبطاله أغراب عنّا.

أما الفيلم الإيراني، وعلى الرغم من بعض السقطات التي وقع فيها مخرجه من حيث اللغة السينمائية، وعلى الرغم من تواضع إمكانياته المادية، فإن المشهد الفلاني، الذي تخرج فيه البطلة، والمشهد العلاني الذي حدث فيه كذا وكذا، يحلقان بالمشاهد عاليًا عاليًا، حيث لم يقترب الفيلم الأمريكي.

إنك لتخرج من الفيلم وتحسّ أن بطلته ابنتك أو ابنة أخيك، وتحس أن هذا البطل هو صديقك الحميم، وتحس أنك ستفتقد هؤلاء الأبطال، وستفكر فيهم حتمًا مساء اليوم، وربما فيما بعد، حينما تعيد أسئلة الفيلم لتطرح نفسها عليك. تلك هي السينما الناجحة، الرقيقة، النافذة إلى عمق المشاعر الإنسانية، والتي تتذكرها فيما بعد، وتنطبع في ذاكرتك ووعيك وإدراكك، وتحيل حياتك إلى "ما قبل وما بعد".

كانت تلك الواقعة مفتاحًا مهمًا جعلني أفهم حادثة وقعت لي في طفولتي، ولم أكن حتى تلك اللحظة أعيها ولا أدرك السبب فيما أصابني حينها من عاطفة جارفة حتى الدموع.

فراق نيللي

كنا نزور أقرباء لنا في آخر أيام رمضان سبعينيات القرن الماضي، وكنا ننتظر رؤية الهلال، ولم تكن حسابات الفلك حينها تتفوق على رؤية الهلال، فكانت الرؤية بحق تحمل نتائج مصيرية بشأن ما إذا كان يوم غد مكملًا لرمضان، أم آخر أيام الشهر الفضيل.

خرجت في تلك اللحظة إلى الشرفة، وسمعت من الداخل من يقول إن غدًا هو أول أيام عيد الفطر، ولم أتمالك نفسي، وانتابتني غصة في الحلق، وكدت أبكي، أو لربما بكيت بالفعل. كان السبب أنني لن أشاهد نيللي يوم غد، وسوف ينتهي ذلك الموعد اليومي للفوازير الذي كنت ألتقي فيه بفتاة أحلامي.


كانت فوازير رمضان جزءًا أساسيًا من طقوس رمضان بالنسبة لنا نحن الأطفال، كنا نشاهدها، ونعيش داخلها، وكانت، على الرغم مما نفهمه اليوم من تواضع وارد في مستواها ولغتها الفنية، مبهرة ومدهشة وعظيمة وأفضل ما نحصل عليه من جرعة فنية. بل إنني، وعلى المستوى الشخصي، كنت أحب نيللي حبًا حقيقيًا جارفًا. كانت فتاة أحلامي، وكنت أحلم أن أقابلها ذات يوم فأتزوجها. كانت فاتنة الجمال، وتغني وترقص وتمثل وفنانة معجزة.

حينما سمعت بيكوف وهو يتكلم عن الفيلم الإيراني، واستخدمت هذا المفتاح، اكتشفت أن ذلك بالتحديد هو ما كنت أشعر به تجاه نيللي، ثم تجاه شيريهان وسمير غانم فيما بعد، وتجاه كثير من أبطال السينما والتلفزيون الذين شاهدتهم من قبل في مسلسلات رمضان وعلى شاشة السينما.

وأعتقد أنني لم أكن وحدي في ذلك، كنّا جميعًا أسرى لذلك الفن الحميم، والرفيع الذي يربط المشاهد ببطله حتى يحس أنه أحد أقربائه، أو أصدقائه، أو معارفه، فيشعر ناحيته بمشاعر حقيقية من الحب والفقد والغضب والحزن.

إنها تلك الحالة التي "يتورط" فيها المشاهد في الدراما، على شاشة السينما أو التليفزيون أو على خشبة المسرح أو في قاعة الحفلات، أن يصبح المشاهد جزءًا من البطل والحكاية والحبكة، حتى أنه يتأثر أحيانا بالبكاء أو بالفرح، وكلاهما صادق حقيقي.

تلك مهنة، وحرفة، وليست فقط مجرد موهبة. وأنا على يقين أن كل من تحدثت عنهم مارسوا تلك المهنة بكل إخلاص، وطوّروا في أدواتهم الفنية حتى تمكنوا من تحرير أرواحهم الفنية من عوائق الجسد. فممارسة الفن، أو ما نقول عنه "الاستذكار" في كار الفنون، هو أن تحرر روحك المطلقة من جسدك النسبي، فلا يعيق تعبير الروح عن نفسها بشتى الطرق.


كلنا يرى عازف الكمان أو التشيللو أو البيانو فيظن أن الأمر مجرد "عزف" أو "دندنة"، دون أن نعرف أن هذا العازف يهب حياته لآلته فيذاكر ويتدرب عليها ساعات طويلة كل يوم من كل أسبوع من كل شهر من كل سنة، وقد يصل عدد هذه الساعات إلى الثمانية والعشرة يوميًا. تلك حقيقة قد لا يعرفها كثيرون.

هو الأمر بالنسبة للممثل المحترف، الذي يحترم مهنته ويحضر أدواره ويتقمص شخصياته ويحترم مشاهده، لأنها مرة أخرى حرفة ومهنة من أصعب المهن على الإطلاق، وليست مجرد "إفيهات" أو "بكاء ودموع أمام عدسة الكاميرا". إنها حركة وصوت ومشاعر داخلية دفينة تراها العدسة في طرفة العين وإيقاع الكلام ونبراته ونسيج الصوت وعشرات الأدوات التي يطوّرها الممثل خلال مشواره الفني.

مهنة الحواة

اليوم، وبعد أن أصبح التمثيل في أحيان كثيرة مهنة الهواة والحواة، وبعدما أصبحت التكنولوجيا قادرة على إخفاء العيوب في الصوت والصورة، وبعدما تدخل الطب وعمليات التجميل فصبغ أشكال البشر ليصبحوا قوالب مكررة بنفس تعبيرات الوجه، وبعدما أصبح الممثل المحترف قادرًا على أن يبكي على الشاشة، لم نعد نحن المشاهدين نبكي أمام الشاشة، لأننا أصبحنا ندرك أنه "يمثّل"، وأصبح هو وكاتبه ومخرجه ومصوّره عاجزين عن "توريطنا" في الدراما. أصبح الممثلون بعيدين عنّا، لم نعد نفتقدهم حين يغيبون، ولم يعد المسلسل أو الفوازير بالنسبة لنا تمثل ذلك الحدث الجلل الذي ننتظره في رمضان، ونفتقده بعد أن ينتهي الشهر.

بالطبع هناك أسباب أخرى لا علاقة لها بالفن، اجتماعية واقتصادية وسياسية، أو حتى متعلقة بزمن غير الزمن، وتكنولوجيا غير التكنولوجيا، إلا أن الفن يظل هو الفن في كل مكان وزمان، ولا زلنا قادرين على تمييز أعمال فنية بارزة تظهر بين الحين والآخر، ولكن على نحو أقل مما كان عليه الأمر في السابق، على الرغم من التطور التكنولوجي المذهل في مجال التصوير ومعدات الصوت والمونتاج وغيرها من أدوات العمل السينمائي والتلفزيوني.

قال لي أحد الأساتذة ذات مرة إنه ليس المهم أن تبكي على المسرح، المهم أن يبكي المشاهد في القاعة، حتى ولو كنت باردًا على خشبة المسرح كلوح من الثلج، المهم قدرتك على توصيل العاطفة وجوهر المشهد إلي المشاهد، فهو الحكم النهائي على عملك وأدائك.

في زيارة عائلية مؤخرًا، وجدتهم يضعون الطعام لنفطر في إحدى الأمسيات الرمضانية، بينما كان التلفزيون يعمل كخلفية. لا طاقة ولا معلومة ولا أي شيء أصبح يخرج من هذا الجهاز سوى الإعلانات وأصوات عابرة من عالم لا علاقة لنا به، ولا علاقة له بنا.. تمامًا كما المسلسلات الرمضانية، التي أصبحت لا تمسّنا فلا نحس بأبطالها، ولا يحس أبطالها بنا.

لو حكيت لابني أنني في يوم من الأيام وقعت في حب نيللي.. ترى هل يفهمني؟!