تبدو الثقافة الآن، على أهميتها، معزولة، أو يراد لها أن تكون كذلك، فتنزع منها أدوارها الحقيقية في تعميق إدراك الفرد لذاته ومجتمعه والعالم حوله، بل الكون كله، عبر نشر المعرفة والوعي، وتعزيز القيم الإيجابية المطلوبة في البناء وتبصير الناس بالجمال والتعبير الفياض عن أشواقهم إلى البهجة والحرية والكرامة والكفاية والعدالة والنهوض والتقدم والانتماء.
هذا النزع الإجباري، وربما الاختياري أحيانًا، ساهمت فيه عدة جهات أو جبهات، منها السلطة السياسية، التي لا يخفى على الأفهام أن نظرتها إلى الثقافة، فيما قبل، كانت لا تتعدى كونها مجرد "قلادة زينة"، توضع في أعناق الخطابات والتدابير الأخرى، سياسية واقتصادية وأمنية واجتماعية، لكن حالها الآن تدهورت، بشكل واضح وفاضح، لتصبح عند كثير ممن بيدهم القرار، سقط متاع، بل معوق لا بد من تحييده، ووضعه في الهامش البارد، وقد ينزلق الأمر إلى محاربته بلا هوادة، ولا تردد.
سلطة فاقدة للشيء
افتقاد السلطة إلى تبني مشروع وطني جامع ساهم في التأثير سلبًا على مكانة الثقافة ودورها. إذ أن أي مشروع من هذا القبيل لابد أن تقع الثقافة في قلبه، فهي الدم الذي يسري في أوصاله، بحكم شمول مثل هذا المشروع واكتماله، سواء صيغ على هيئة استراتيجية أو كان خطة متوسطة الأمد.
وزاد من وطأة تلك الآفة تقديم السلطة المباني على المعاني، والخشن على الناعم، في ظل تبدد إدراك أهمية الثقافة في صناعة دور الدولة المصرية في المجال الإقليمي، والمحيط العالمي، وهي مسألة تتناقض مع طبيعة الأشياء وحكمة التاريخ، وما يستوجبه التقاط صورة حقيقية نلقيها في عيون الآخرين فيعرفون عنا ما هو أفضل، وتلقف الخيط الذي نتلمسه كي تكون لنا مكانة، على الأقل في العالم العربي، مثلما حدث في عقود سابقة.
وبالإضافة إلى السلطة كان هناك ضعف إدراك من المجتمع نفسه لقيمة الثقافة في ضوء اعتقاد الأغلبية الكاسحة أن التعلم أو تحصيل المعرفة العميقة، أمر يمكن تأجليه لحساب الانشغال بتحسين الأحوال الاقتصادية، أو إنعاش الأحوال السياسية، أو تلافي الأخطار المباشرة التي تحدق بالمجتمع. فاختيار أغلب الناس ذاهب إلى ما يملأ البطون، والذين يطلبون في السياسة انفتاحًا أو تحررًا يعتقدون أنها مسألة ترتبط أكثر بالدستور والقانون، أكثر من ارتباطها بالثقافة، أيًا كان خطابها أو مضمونه.
كذلك يفتقد مثقفون كثر إلى إدراك أهمية دورهم في صناعة النهضة الواجبة، وميلهم إلى الاكتفاء بصناعة الجمال، والتعبير عن مكنون النفوس المعذبة من تأثير سياقات اجتماعية مشبعة بالمشكلات والمعضلات الحياتية، التي تطالهم أنفسهم، وتطاردهم أينما ذهبوا، وتصيب أغلبهم بالشعور العام بالضعة، أو الخوف من المساءلة والملاحقة، أو الحرمان من المكاسب الطفيفة التي يحصلون عليها حين يتساوقون مع توجهات السلطة، أو على الأقل الفائدة التي يجنونها إن آثروا الصمت والهروب توخيًا للحذر، وطلبًا للسلامة.
وما زاد الطين بلة إن بعض المثقفين لا يعتبرون الثقافة موقفًا بالضرورة، إنما مجرد عملية إبداع معزولة، أو آلية لتحقيق مجد شخصي، أو شهرة محدودة، أو تحصيل مال شحيح، من نشر كتب أو اقتناص جوائز أو نيل عطايا ومكافآت صغيرة.
موت المثقف
وإذا كان رفض المثقف لأن يصبح بوقًا لأيديولوجية، أو أداة في يد صاحب مال وسطوة هو أمر مفهوم ومطلوب بالطبع، فإن ما لا يمكن فهمه هو توهم المثقف أنه منبت الصلة بواقعه، أو غريب على أهله، وأن ما في الواقع وعند الأهل، لا يصلح أن يكون مادة جيدة، يمكن التعامل معها بشكل فني أو أدبي.
كذلك فإن ثمة تساوق مع تصور واسع يؤمن بـ "موت المثقف" في ضوء مزاحمة آخرين له في قيادة الجمهور، أو صناعة محتوى يقدم إلى الرأي العام، لاسيما في ظل إقبال الناس على التافه والسطحي والعابر والغرائزي بشكل لافت. وفي المقابل تظهر نظرة الاستعلاء التي يلقيها بعض الأدباء على الثقافة الشعبية، باعتبارها أمرًا جانبيًا.
فخطابنا عن الثقافة يحصرها، في الغالب الأعم، فيما تنتجه النخبة من إبداعات، مهملًا ما تنتجه القريحة أو الذائقة الشعبية من ألوان إبداعية مثل الأساطير والحكايات والخرافات والسير والملاحم والمواويل والحكم والأمثال والألعاب والطقوس. كما يهمل كثيرون البصمة القوية، التي تتركها الثقافة الشعبية على ما تنتجه النخبة المثقفة من ألوان وأنواع عدة.
يحدث هذا، رغم أن الخطاب الثقافي الشعبي، هو الأوسع انتشارًا، والأقوى تأثيرًا، والقادر طوال الوقت على الاستمرار والتجدد.
أضف إلى ذلك توعك، وربما تهالك، الكثير من المؤسسات والهيئات الثقافية، تحت ضغط شح الميزانيات، وفساد الإدارات، ونشوب الصراعات بين القائمين عليها، الذي يتصرف أغلبهم على أنهم مجرد موظفين عليهم أن يدبروا أمورهم بطريقة آلية، تضمن لهم الترقي في أماكنهم، والحصول على مكاسب ضئيلة، شأنهم شأن أي موظفين آخرين يعملون ضمن الهياكل الإدارية، المنوط بها إنتاج شيء ما، أو تقديم خدمة ما.
كذلك لا يمكن أن نفصل ضعف الثقافة عن انحدار مستوى التعليم، الذي تحول إلى عملية آلية لقذف ملايين الخريجين إلى الشارع كل عام، دون أن تكون سوى قلة القلة منهم قد امتلكت مفاتيح التعاطي الإيجابي والخلاق مع الثقافة. فمن المفترض أن يعد التعليم الملتحق به، للتفاعل مع الحياة الثقافية، بعد تكوين منهجي يساعده على التفكير العلمي والجانبي والمختلف أو الإبداعي، بما يؤهله لفهم كل ما يدور حوله، واتخاذ موقف منه.
وما يزيد الأمر حدة أننا مجتمع لا يزال يعاني الأمية بشتى أنواعها: الأبجدية والثقافية والتقنية والمنهجية، ما يسهم في تدني القراءة، ويحاصر المثقفين الراغبين في لعب أدوارهم الطبيعية من خلال الكلمة المكتوبة، أو حتى التعبير الشفاهي الذي يحتفظ بتماسكه وقوة حجته، ويكون قادرًا على الوصول إلى القواعد الاجتماعية العريضة.
مجتمع فرد
أصيبت الثقافة، شأنها شأن غيرها، بافتقاد القدرة على العمل الجماعي. فالمثقف يتصرف كفرد، يدافع عن وجوده ودوره، وينظر إلى الآخرين على أنهم معه في صراع مفتوح على المنافع العابرة، من كسب مال، أو اقتناص شهرة، أو تحصيل مكانة.
نتيجة لذلك صارت المعارك الثقافية شجارًا بين أشخاص، وأصبحت التحديات الثقافية مشكلات تواجه أفرادًا، فتشتت الجهود وغرق الهم العام تحت أمواج عاتية من الانشغال بالذات، أو الأنانية، وغياب فريضة إنكار الذات، وفضيلة إعلاء المصلحة العامة، سواء على مستوى الصورة أو الواقع.
وفي خضم ذلك أهملت الثقافة التي تُنتج بعيدًا عن العاصمة، بوصفها الرأس الكاسح في جسد كسيح، على حد تعبير جمال حمدان، فلا نزال، رغم ثورة الاتصالات الرهيبة التي حولت العالم إلى قرية بل غرفة صغيرة، نتحدث عن "أدب الأقاليم"، وقصور وبيوت ثقافة مهملة في مدن خارج القاهرة، سواء في الصعيد أو الدلتا أو الصحراء، ودور نشر خاصة غائبة تمامًا عن تلك المدن، ومشكلة عويصة في توزيع الكتاب المطبوع، فيما نجد هروبًا من منابر الإعلام المحلية من أداء الدور المنوط بها، والذي قامت من أجله، وهو التعبير عن المجتمع المحلي وتنويره، إلى بحث عن انتشار متوهم من خلال تبني قضايا خارج اهتمام الناس في الأصقاع البعيدة.
هذا في الوقت الذي تنمو فيه آراء وأفكار مناهضة للثقافة الحقيقية، التي تنتصر للحرية والتنوير، في المجتمع المصري. ويُلقي تلك الأفكار في أوصال مجتمعنا أتباع وأنصار جماعات سياسية ذات إسناد ديني إسلامي أو آراء تتبناها المؤسسات الدينية المسيحية. فهؤلاء ينظرون إلى المثقفين نظرة ريبة، ويعملون على إعاقة دورهم، الذي يبصر الناس بما عليهم أن يفهموه ويتبنوه من آراء، حتى يخلو لهم الطريق إلى رؤوس الناس، فيحشونها بتصوراتهم التي تخدم مشروعهم السياسي.
في ركاب ذلك ينعت المتطرفون المثقفين بأنهم ملاحدة أو متغربين أو متفرنجين أو عملاء لثقافة تعادي الدين. وقد انطلى ذلك على كثيرين في ظل انسداد النوافذ التي يطل منها المثقفون على الناس، لا سيما مع استبداد سياسي، يحول دون تواصل المثقف المستقل أو المختلف أو المعارض مع الجمهور، اللهم إلا كان تابعًا يتبنى خطاب السلطة، ويروجه، لكنه خطاب متهافت، يحمل من الثقافة قشورها، فضلًا عن أنه يحرفها عن خطها الأصيل، وبالتالي لا يصمد في وجه خطاب المتطرفين.
وفي الوقت نفسه نجد ثمة حالة من الاستسلام النسبي للمثقف المصري أمام مشاريع أو تصورات ثقافية وافدة، عربية كانت أو أجنبية، بل تساوق بعض المثفقين، إن لم يكن جلهم، مع توجهات "الخارج"، وهي مسألة باتت واضحة للعيان، تغذيها دور نشر، ومنابر ثقافية وإعلامية.
بالطبع لا ضير من تعددية ثقافية، وتفاعل خلاق مع مشروعات أخرى إن كانت لا تسعى، وفق خطة ماكرة، إلى الخصم من دور مصر الثقافي، وجذب المثقف المصري بعيدًا عن دوره في نهضة مجتمعه، أي يجب ألا تتعارض مع ما يفترض أن يكون عليه مشروع ثقافي لنا، يساعدنا على الاستجابة للتحديات المفروضة علينا، وهي كثيرة ومتراكمة.
وإذا كانت هناك بعض مشتركات مع المشاريع الثقافية العربية، لأسباب عدة، فإن كثيرًا من المشاريع العالمية، لا تحمل تلك المشتركات بالضرورة، بل إن بعضها، وهذا لم يعد خافيًا، هي أشبه برؤوس حربة لاستراتيجيات للهمينة والتغلب، بما يجعل هدفها الأساسي هو تهيئة مجتمعاتنا لقبول شروط الآخر وتحكمه، أو جعلها "قابلة للاستغزاء" حسب تعبير المفكر الجزائري مالك بن نبي.
لا يعني هذا غياب تام لوجود مثقفين يكافحون من أجل القيام بأدوارهم الحقيقية، التي تتعامل مع الثقافة على أنها مسألة نقدية، ومنحازة للتقدم، ومعبرة عن الناس، ومخلصة لصناعة الجمال والوعي. فأمثال هؤلاء لا يخلو منهم وادينا الطيب، ويعضون بالنواجذ على قضيتهم أو موقفهم، لكن الضغوط عليهم تشتد، ليس من السلطة السياسية ولا الجماعات المتطرفة فحسب، بل أيضًا من مثقفين آخرين، لأسباب يطول شرحها.