يُحكى أنه في العام 75 للهجرة، في عصر الدولة الأموية أثناء حُكم عبد الملك بن مروان، بلغه أن هناك قلاقل هزت أمن العراق وكدَّرت صفوه، فما كان منه إلا أن جمع أولي الحكمة من جنده في قصره، وبعد حمده الله والصلاة على رسوله؛ ألقى خطابًا مفوَّهًا.
قال ابن مروان: أيها الناس، إنَّ العراق قد كدر ماؤه، وكثر غوغاؤه، واملوْلَح عذبه، وعظُم خطبه، وظهر ضرامه، وعَسِر إخمادُ نيرانه، فهل من ممهد له بسيف قاطع، وذهن جامع، وقلبٍ ذكي، وأنفٍ حمي، فيخمد نيرانه، ويردع غليانه، وينصف مظلومه، ويداوي الجرح حتى يندمل، فتصفو البلاد، وتأمن العباد؟
فسكت القوم، ولم يتكلم أحد، حتى قام الحجاج وقال: يا أمير المؤمنين، أنا للعراق، فرد عليه أمير المؤمنين: لست له يا حجاج، وأردف: من للعراق؟ فردها عليه الحجاج مرةً أخرى: أنا للعراق، وبعد عدة مداولات وأمارات رد عليه بن مروان قائلًا: إذن أظنك صاحبه.
ومن هنا بدأ فصل ملحمي في التاريخ، لا تزال تحوم حوله الأساطير إلى يومنا هذا.
**
والآن أطلبُ منك أن تأخذ هذه القصة كنقطة انطلاق أيضًا، مع تبديل الأسماء والظروف؛ عبد الملك بن مروان سيتحول إلى دانييل ليفي، رئيس نادي توتنهام، والحجاج بن يوسف سيصبح جوليان ناجلسمان، المدرب الألماني الشهير، وديوان الحكم سيتحول إلى غرفة اجتماعاتٍ في لندن.
نحن الآن في عام 2021، دانييل ليفي يقرر إقالة جوزيه مورينيو من تدريب النادي نظرًا لسوء النتائج، يجتمع بِثُلة من المدربين في قاعة الاجتماعات المذكورة ويصيح في وجوههم: من لهذه الوظيفة؟ يظهر ناجلسمان من العدم ويقول: أنا لها، يرد عليه الرئيس: لستَ لها فانزل يدك.
وبعد سنتين، يقرر دانييل ليفي إقالة أنطونيو كونتي من تدريب النادي نظرًا لسوء النتائج، يعقد الاجتماع نفسه ويكررها على الحاضرين: من لهذه الوظيفة؟ ليردها عليه ناجلسمان: أنا لها.
في حقيقة الأمر؛ لم يأتِ ردُّ الرئيس على المدرب الشابِ حتى الآن، ولكن من وجهة نظرٍ مغايرة؛ قد تبدو اللحظة مناسبة ليطلق فيها ليفي عبارته: أنتَ لها، علَّنا نشهد فصلًا ملحميًا آخر.
عقلية ألمانية
في عام 2018، وبعد خمسةِ أيام من فوز ريال مدريد بدوري أبطال أوروبا للمرة الثالثة تواليًا، خرج زين الدين زيدان المدير الفني للفريق في مؤتمر صحفي بجانب الرئيس فلورنتينو بيريز، ليعلن أمام الكاميرات استقالته من تدريب الفريق في مفاجأة هزت الأوساط الرياضية.
بعض الصحفيين فسّروا هذه الاستقالة بـ"فقدان الشغف والدوافع". فما الذي يمكن أن يضيفه الفرنسي بعد حصوله على ثلاثية متتالية في دوري أبطال أوروبا؟ آخرون أشاروا إلى خلافات بدأت في تطفو على السطح بين المدرب والرئيس حول موسم الانتقالات.
لكن أسئلة الصحفيين الأكثر أهمية في ذلك الوقت، كانت تلك المتعلقة بمن سيقود الفريق في المرحلة المقبلة.
زين الدين زيدان يعلن استقالته من تدريب ريال مدريد
بعض التقارير رجحت عودة مورينيو، والبعض الآخر أقر بضرورة استقدام ماسيميليانو أليجري، لكن وعلى هامشٍ صغير بدأت بعض المعلوماتِ في الطفو؛ مدرب هوفنهايم والمدعو جوليان ناجلسمان هو مدرب ريال مدريد المقبل.
وقتها تبادر تساؤل منطقي في أذهان الجميع؛ ماذا قدم هذا الشاب البالغ من العمر 31 سنة، ليصبح مدربًا لنادٍ مثل ريال مدريد؟، ولكن قبل أن يحاول أحد تقديم إجابة، كانت المفاجأة؛ جوليان ناجلسمان يرفض تدريب ريال مدريد مفضلًا عليهم ريد بول لايبزيج، في جلبت الحيرة للعديد من الناس.
لاحقًا فسّر الرجل الأمر في حوار مع صحيفة الماركا؛ "رأيتُ أن الذهاب إلى ريال مدريد ليست الخطوة الصحيحة في ذلك الوقت، كنت أحد المرشحين والقائمة لم تكن طويلة، وبالفعل جرت محادثة جيدة مع خوسيه أنخيل سانشيز قررنا فيها أن الوقت ليس مناسبًا لخطوة كبيرة مثل تلك الخطوة خاصة مع مدرب في بداية حياته، واتفقنا أننا قد نتحدث مستقبلا إذا أراد ريال مدريد مدربًا".
النموذج التكتيكي
اليوم، أصبح ناجلسمان أحد أكثر المدربين إثارةً في كرة القدم، وذلك بفضل مرونته التكتيكية والاهتمام القوي بالتفاصيل، مع الاعتماد على التمريرات السريعة والعمودية للخروج من الضغط، مع تبديل الشكل الخططي بين ثلاثة وأربعة في الخط الخلفي اعتمادًا على نقاط قوة وضعف الخصم.
إحصائياته مع نادي لايبزيج تظهر أنه بدأ بتشكيل مكون من ثلاثة مدافعين في رسم 3-4-2-1 وتنويعاته المختلفة في دقائق لعب تقترب من 1652 دقيقة، أي ما يقرب من 18 مباراة، أما الخط الرباعي فقد ظهر به الفريق بدقائق لعب تقترب من 1113 دقيقة أي ما يقرب من 12 مباراة.
خلال فترته مع بايرن ميونخ لاحقًا تغير الأمر بعض الشيء، حيث بدأ معظم الوقت برباعي في خط الدفاع، ورغم ذلك بقيت المفاهيم الأساسية للفريق ثابتة.
المرجع الأساسي بين هذه الخطط هي فكرة التدوير السريع الهادف للكرة والعمودية. ببساطة شديدة؛ عند بداية الهجمة عادة ما يميل الظهير أو الجناح إلى التحرك عاليًا نسبيًا في اللحظات الأولى من مرحلة البناء، وذلك لتوفير الاتساع وإجبار الخصم على الدفاع في مساحة أوسع لتغطية هذا التهديد.
وهذا بدوره يخلق المساحة للاعب آخر، عادة ما يكون المدافع، ليتحرك عموديًا بالكرة، مع تحرك لاعب من وسط الملعب إلى المساحة الفارغة بين المدافع والظهير، لتنتقل الكرة بصورة سلسة. وبالطبع عندما يستلم لاعب الوسط الكرة فإن أول قرار سيكون اللعب عموديًا للظهير أو الجناح، أو في حالاتٍ أخرى للمهاجم الهارب من الرقابة.
إحدى قناعات المدرب أيضًا تكمن في عدم الحاجة لفرض الاستحواذ طيلة فترات المباراة، بل يكمن مفتاح الهجوم في التحول السريع من الدفاع للهجوم، فعلى الرغم من أن نسب الاستحواذ في آخر مواسمه رفقة لايبزيج، لم تتعدَّ 55%، إلا أن الفريق حقق متوسط تسديدات بلغ 15.3 تسديدة في المباراة، أما معدل أهدافه فوصل إلى 2.63 هدف في كل 90 دقيقة، بالإضافة إلى 85.41 تمريرة تقدمية كل مباراة.
رفقة بايرن ميونخ اختلفت الأرقام، وأصبحت معدلات الاستحواذ أعلى لفارق المستوى بين البافاري وبقية المنافسين، إلى حدٍّ يجعل موسم ناجلسمان الأخير مع لايبزيج أكثر تعبيرًا عن أفكاره.
ومنه تتبين لنا إحدى المشكلات، فعند المقارنة بين نسبة الأهداف المتوقع تسجيلها والأهداف المسجلة بالفعل يتضح أن الفريق سجل في نفس الموسم 40 هدفًا من لعب مفتوح، بينما كان المتوقع تسجيله هو 46.87 هدفًا، أي بفارق 6.87 هدف.
فارق ليس بالضخم، ولكن الأصل في المسألة أن الفرق الأولى في ترتيب الجدول عادةً ما تسجل أكثر من المتوقع تسجيله وليس العكس.
أن تكون مؤهلًا للخلافة
هل لاحظت أننا نتحدث كثيرًا عن "اللعب العمودي وعدم الاحتفاظ بالكرة كثيرًا"، ضع هذه الجملة نصب عينيك، واسمح لي أن أطوف بك حول فكرةٍ ما. مع الصعود السريع للألماني في سن صغيرة، بدأت الصحافة حول العالم مقارنته بمهووس آخر وهو البرتغالي جوزيه مورينيو. ما أكد تلك المقارنات هو ناجلسمان نفسه، حين صرح لعدد من الصحف أن جوزيه لعب دورًا كبيرًا في تكوين أسلوبه، وتغير نظرته عن كرة القدم، وبالتالي لقبته الصحافة بـ "ميني مورينيو".
فكر إذًا في هذه الصيغة: أمامنا نادٍ إنجليزي دربه ولمدة أربع مواسم مدربٌ له باع في طريقة اللعب المعتمدة على الضغط السريع والقوي على مناطق الخصم لافتكاك الكرة قبل ضرب الخصم بالمرتدة، هو ماوريسيو بوتشيتينو، خلفه بعد ذلك مدرب يعطيه جوليان صفة الأب الروحي. ولكن الأخير رحل إلى روما تاركًا النادي والأسلوب بين يدي الإيطالي أنطونيو كونتي، قبل إقالته حديثًا.
على الجانب الآخر، أمامنا مدربٌ شاب طموح يبحث عن تجربة ممتدة مع نادٍ لديه الأرض الخصبة للعمل عليها؛ من لاعبين يمكنهم تطبيق الأفكار وجمهور لديه الشغف ليرى ناديه كبيرًا مرةً أخرى.
لكن يتبقى تحدٍ أخير؛ هل يستطيع جوليان السيطرة على غرفة خلع الملابس وإعادة الاستقرار؟ سؤال أجاب عنه بنفسه حين قال "30% من كرة القدم تكتيكات و 70% منها تعاون اللاعبين على أرضية الملعب" وهو ما يوضح لنا أنّ المدرب الألماني يهتم جيدًا بإدارة اللاعبين في الغرف المغلقة قبل إدارتهم في الملعب وأمام الكاميرات، بالتأكيد فالأمر نسبي ويتوقف على الحالة الذهنية للمدرب وطبيعة اللاعبين، لكن في العموم قد يصبح هذا التحدي هو الأصعب، كيف يجمع رضا الإدارة واللاعبين في سلة واحدة لتمرير أفكاره بسلاسة.
قبل موسمين رفض توتنهام جلب "ميني مورينيو"، وتدخل نادي بايرن ميونخ ليحصل على تعاقده، وتمامًا مثلما حدث مع الحجاج، توتنهام يبحث عن مدرب مرةً أخرى، وناجلسمان يقف برأس منفتحة للتعاقد مجددًا، يتبقى شيء وحيد؛ أن يخرج لنا ليفي من مكتبه صائحًا: أنت لها يا جوليان.