"الكورة اجوال". هكذا أخبرنا الكابتن لطيف دائمًا، وبإلحاح لا ينقطع، رغم أصوات من اعترضوا من أقطاب كرة القدم وقتها، لكنه لم يلتفت، وظل يكررها حتى توفاه الله.
لماذا اعترضت الأصوات؟ ولما كان هو مُصرًّا؟
محمد لطيف، كشيخٍ عاصر فترات مبكرة جدًا من عمر الكرة المصرية والعالمية، وقُدِّر له الاحتراف في المملكة المتحدة، مهد كرة القدم، ثلاثينيات القرن الماضي في نادي رينجرز الأسكتلندي، يُمثِّل حسًا أصوليًا يقلقه اهتزاز الثوابت في عالمٍ يحتفي بالثورات والجديد من حيث هو جديد، في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، فلم يكن يمل من استخدام الجمل الاسمية المباشرة، التي تؤكد ما يبدو بديهيات.
من أقواله مثلًا "الحكم حكم، واللاعب لاعب، والجمهور جمهور"، في انزعاج من تداخل ما للأمور، الأمر هنا ليس أخلاقيًا بقدر ما هو سلفي بمعنى ما؛ فلا يصح أن يناطح اللاعب سلطة الحكم، ولا ينبغي للجمهور تجاوز دوره في التشجيع، كل شيء يجب أن يبقى مكانه، وللحدود أن تظل بارزة، وأن تظل حدودًا.
دعك من تتبع أقواله ولنعد إلى القول المركزي: الكورة اجوال، مناط المنافسة هو سعي الفريقين المتباريين أولًا وأخيرًا لوضع الكرة في الشباك. هذه هي اللعبة في جوهرها، وأي منافسة أخرى لا قيمة لها، داخل الملعب أو خارجه، لوحة الاستاد تشير مثلًا إلى 2-1، هذا هو كل ما في الأمر، وما عداه نغض الطرف عنه، فهو لا يستحق الذكر.
الاعتراضات على هذا، كما فهمتها من نقاشات مع شيوخنا، لم تكن موسعة ولا صاخبة. كان للطيف كامل التقدير كأبٍ للكرة المصرية بمعنى ما، غير أن هذا لم يمنع شابًا مثل صالح سليم أن يتعامل مع الكرة كلعبة تشمل مستويات مختلفة من المنافسة والصراع، صحيح أنَّ تسجيل الأهداف يبقى الأكثر أهمية في المنافسة، لكنَّ ذلك لا يعني تجاهل الصراع برمته لصالحه.
مكانة لطيف وهيمنة خطابه لم تمنعا حركة التاريخ. خارج مصر؛ شهد العالم في الخمسينيات توسعًا في منافسات مختلفة، لا علاقة لها بمن أحرز أهدافًا أكثر من منافسه ففاز بلقاء، أو حتى بطولة.
مثلًا، انطلقت عام 1956 مسابقة البالون دور؛ جائزة تقدمها صحيفة فرانس فوتبول الفرنسية لأفضل لاعب أوروبي! أي أنَّ مقدم الجائزة من خارج المستطيل الأخضر، ولا سلطان له على المستطيل، ولا سلطان للمستطيل عليه، والجائزة نفسها معاييرها متحررة من منافسات الكرة التي هي "اجوال"، فأفضل لاعب ليس هو الهداف، ولا ينتمي بالضرورة للفريق البطل. نحن هنا أمام منافسة تتحدى مقولة الكابتن لطيف، بل تحطمها.
في تلك الفترة، الخمسينيات والعقدان التاليان، بدأ أيضًا الاهتمام "بالأرقام"، سواء أكانت قياسية أو فقط مميزة، وقد تكون مميزة بلا ميزة، مثل الاحتفال بالهدف الألف في كأس العالم، ما أهمية هذا الرقم؟ في الواقع لا شيء.
كأس العالم بطولة منتظمة تقام كل أربع سنوات، ولم تتوقف إلا أثناء الحرب العالمية الثانية، بعدها عادت لانتظامها في المواعيد نفسها، وكل نسخة تشهد عشرات اللقاءات، وكل هدف يسجل في البطولة له رقم ما، الهدف 526، 527، 634، فما دلالة الرقم ألف؟
الواقع أنَّ كرة القدم سارت عكس ما كان الكابتن لطيف يتمنى. ومع توالي السنوات والعقود، أضحت المنافسات محمومة على كلِّ شيء وأيِّ شيء وأحيانًا على لا شيء، مثل قصة "نادي القرن" في إفريقيا، والصراع الجماهيري المحتدم بشأنها منذ ما يقرب من ربع قرن. وكنت دائمًا أقول، ولا أزال، لم يكن هناك قرن في إفريقيا ليكون له نادٍ.
لن أناقش قضية نادي القرن الآن، فقط أشير إلى مشاحنات تدور من دون أن يكون لها علاقة بلبِّ كرة القدم، الذي هو إحراز الأهداف والفوز بلقاء ما ومسابقة ما، لها قواعدها ومعاييرها ومعروف أولها من آخرها، ولها نقطة بداية ونهاية، ثم نفكر في المسابقة التالية.
كما نعلم.. "البالون دور" صارت أهم حتى من الحصول على دوري الأبطال
ما حدث هو تداخل واسع في عدة أمور يفترض ألّا تختلط كما لا يختلط الماء بالزيت. مثلًا، أضحت الأرقام مصمتة، والناس يتداولونها كأنها "حقائق تنبئ عن حقائق"، فصارت كل الألقاب سواء، السوبر الإفريقي مثل دوري أبطال أوروبا، لنجد من يقول إن اللاعب الفلاني هو الأكثر تتويجًا بالبطولات، وهذا هذر مهما مرَّت السنين.
اختلطت الأمور، فلم يعد هناك تمييز بين الفوز بمسابقة، والحصول على جائزة، وتحقيق رقم قياسي، وتحقيق رقم غير قياسي. صارت كلُّ الأمور كأنها الشيء نفسه، رغم أنَّ الجائزة مثلًا حدث تكريمي لا ينبغي أن يتجاوز طرفيه: مانحها وحاصدها. وفوز ميسي بالبالون دور لا يختلف عن حصول كابتن الدسوقي البسطاوي على جائزة أحسن لاعب من مجلة صوت بلبيس. لكن كما نعلم، البالون دور صارت أهم حتى من الحصول على دوري الأبطال.
كذلك الأرقام، لم يعد هناك أدنى تمييز بين رقم رسمي ورقم فني. رقم قياسي ورقم مميز. رقم ذو دلالة ورقم طريف. مثلًا، اللاعب الفلاني هو أكثر المدافعين تسجيلًا للأهداف، هذا ليس رقمًا رسميًا ولا قياسيًا، بل إحصائية فنية تصلح كمادة للدراسة والفهم، وهي ليست مناطًا للتنافس بين اللاعبين. فتوصيف مدافع توصيف فني، أما بالنسبة لكرة القدم فكلُّ من يحاول التسديد على مرمى المنافس هو مهاجم، هكذا يسميه قانون اللعبة، بغض النظر عن مركزه الفني.
إجمالًا، كان التوسع في مجالات التنافس مُعبرًا عن ثورة، وعن محاولة تفسير أعمق وأكثر تركيبًا لكرة القدم، غير أنها سارت في اتجاهات لا تضيف سوى المزيد من الهيستريا واختلاق معايير تميز، فلا تندهش عندما تسمع مذيع المباراة يخبرك أنَّ هذا الفريق فاز في أغلب مبارياته التي لعبها يوم الاثنين.