أصدر 145 من قادة الجالية اليهودية الأمريكية بيانًا غير مسبوق في مطلع الشهر الحالي عنوانه "يجب ألا يُمنح سموتريتش منبرًا في مجتمعنا"، وذلك قبل زيارة لوزير المالية الإسرائيلي اليميني المتطرف بيزاليل سموتريتش إلى الولايات المتحدة، بعد أيام فقط من تصريحه العنصري الداعي إلى "محو" مدينة "حوارة" الفلسطينية عقابًا لسكانها على قتل مواطن فلسطيني لاثنين من المستوطنين.
وكان المئات من المستوطنين المسلحين المتطرفين هاجموا بالفعل سكان القرية وقتلوا فلسطينيًا وأحدثوا دمارًا واسعًا بعد حرق المنازل والسيارات.
وأثناء حضوره لأحد المناسبات في واشنطن في 12 مارس/ آذار الجاري، تظاهر المئات من اليهود الأمريكيين والإسرائيليين المقيمين في أمريكا خارج الفندق الذي تواجد به، ولم يستقبله أي مسؤول في الإدارة الأمريكية الحالية، كما ألغى صندوق النقد الدولي وأعضاء غرفة التجارة الأمريكية اجتماعات كان من المقرر عقدها معه، بسبب تصريحاته العنصرية بشأن حوارة، التي وصفها المتحدث باسم الخارجية الأمريكية بـ "المقززة".
حدث غير مسبوق
هذه التظاهرات والاحتجاجات ضد الحكومة الإسرائيلية التي يصفها الإعلام الليبرالي الأمريكي بـ"الأكثر تطرفًا في تاريخ إسرائيل" تعد حدثًا غير مسبوق في العلاقات الأمريكية-الإسرائيلية المتينة والعميقة، وتخطيًا لخط أحمر سابق يتمثل في أنه أيًا كان موقف واشنطن من الحكومة الإسرائيلية، فلا بد من استقبال ممثليها واحترام قرارات الناخبين الإسرائيليين في إطار العلاقة الخاصة بين البلدين، المبنية على وجود مشتركات بين البلدين في تاريخهما وتطور نشأتهما.
وأشار البيان، الذي أصدره قادة الحركات اليهودية الأمريكية الليبرالية والمعتدلة، إلى هذه النقطة تحديدًا بالقول "نحن نرفض الموقف القائم على أنه من الضروري منح الاحترام لشخص ما لمجرد شغله لمنصب رسمي في الحكومة الإسرائيلة. وأن وجوده في الولايات المتحدة لمخاطبة جمهور يهودي بشكل أساس سيمثل إهانة للقيم الأمريكية اليهودية، ولا يجب منحه منبرًا في مجتمعنا، خاصة في ضوء تصريحاته الأخيرة بشأن حوارة".
لم توقع كل المنظمات اليهودية الأمريكية على البيان، ولكن غالبية المنظمات الكبيرة والمؤثرة تقريبًا قاطعت سموتريتش
وقال البيان "إننا كيهود أمريكيين ملتزمين بمستقبل إسرائيل كدولة آمنة ويهودية وديمقراطية، وبعلاقة متينة بين أمريكا وإسرائيل، ولأمة يهودية تشمل بشكل كامل الجاليات اليهودية في إسرائيل والمنفى، فإننا نعارض زيارة بيزاليل سموتريتش لأمريكا بصفته وزيرًا لمالية إسرائيل، وندعو كل الأمريكيين المؤيدين لإسرائيل أن يتفهموا أن الترحيب بسموتريتش سيضر، بدلًا من أي يساعد، الدعم المطلوب لإسرئيل".
لم توقع كل المنظمات اليهودية الأمريكية على البيان، ولكن غالبية المنظمات الكبيرة والمؤثرة تقريبًا قاطعت سموتريتش ولم تستضفه، بما في ذلك منظمة "إيباك" اليهودية-الأمريكية المعروفة بتوجهاتها اليمينية وذات التأثير النافذ في الكونجرس، والداعية للدعم غير المشروط لإسرائيل، وكذلك منظمة "عصبة مكافحة التشهير" و"مجلس الاتحادات اليهودية في أمريكا الشمالية".
مؤشر مهم
هذا أمر كان من الصعب أو المستحيل تخيله قبل سنوات عدة، ومؤشر آخر على التحول المهم في العلاقات الأمريكية-الإسرائيلية، بعد أن كان من المحرمات تقريبًا توجيه أي انتقاد للحليف الإسرائيلي، باعتباره مساهمة في موجة معاداة السامية التي تهدد الدولة اليهودية.
على المستوى الشخصي، لم أكن أدرك مدى عمق هذه العلاقة بين أمريكا وإسرائيل حتى كُلفت بالعمل مراسلًا صحفيًا في الولايات المتحدة على مدى تسع سنوات.
قبل إقامتي هناك، كنت أعتقد أن التحالف الأمريكي-الإسرائيلي هو خدمة بشكل أساسي لمصالح الطرفين، ولم أكن أرى مبررًا منطقيًا لما نصفه في عالمنا العربي بـ"التحيز الأمريكي الأعمى" لصالح إسرائيل. ولكن تدريجيًا أدركت أن ذلك الدعم هو جزء من التراث السياسي الأمريكي، يدعمه التواجد التاريخي للجالية اليهودية وتأثيرها، تمامًا كما هو دعم فلسطين وعداء إسرائيل أمر تقليدي ومسلّم به في العالمين العربي والإسلامي في إطار رؤيتنا للصراع مع إسرائيل، وأنه احتلال غير مشروع لأراضي فلسطينية بمبررات عنصرية.
تتجاوز أوجه التغلغل في العلاقات الأمريكية-الإسرائيلية التأثير على الكونجرس والمساهمة بسخاء في الحملات الانتخابية لأعضاء مجلسي النواب والشيوخ وكذلك رئاسة الجمهورية، لتشمل الإعلام وصناعة الفن والتعاون في المجالات العلمية والتكنولوجية والثقافية. ويتلقى طلبة الجامعات الأمريكية دعوات مجانية لزيارة إسرائيل والتعرف على تجربتها "المبهرة".
ويعتبر أغلب الشباب الأمريكي اليهودي زيارة إسرائيل والعمل بالمستوطنات بمثابة "خدمة عامة" للوطن الحلم، إلى جانب حصول الكثير منهم على جنسية أمريكية-إسرائيلية مزدوجة.
وفي الرواية الصهيونية الراسخة في الولايات المتحدة، فإن أمريكا ملتزمة بالدفاع عن إسرائيل وتقديم نحو 4 مليارات دولار سنويًا لمساعدتها، ليس بصفتها فقط دولة لليهود، ولكن باعتبارها دولة تمكنت من تحقيق معجزة قريبة لمعجزة إنشاء الدولة الفيدرالية الأمريكية قبل نحو 250 عامًا.
وفي تلك الرواية، بدأ المستوطنون اليهود في بناء دولة وسط محيط شديد العداء من "العرب" بعد كل ما تعرضوا له من اضطهاد ومعاناة بلغت قمتها في الحرب العالمية الثانية ومذابح الهولوكوست، تمامًا كما فعل الأمريكيون الأوائل عندما وصلوا أمريكا الشمالية وبنوا الدولة بسواعدهم، وجعلوا منها خلال سنوات قلائل قوة اقتصادية وتكنولوجية هائلة تتبنى قيم العمل والمساواة والديمقراطية.
وفي تلك الرواية أيضًا اضطر الأمريكيون الأوائل إلى إبادة قبائل من السكان الأصليين لتحقيق هدفهم ونشر الحضارة وبناء الأمة الحديثة. وإذا كانت أمريكا وعاء لصهر المهاجرين من دول العالم، فإن إسرائيل كذلك صهرت المهاجرين اليهود من أرجاء العالم ليشكلوا تلك الدولة الحديثة القوية التي لا تمانع من استخدام القوة لحماية أمنها. ولذلك يصبح قمع الفلسطينيين ونفي وجودهم كشعب مستقل أمرًا مفهومًا بشكل نسبي في العقلية الأمريكية البسيطة.
القشة التي قصمت ظهر البعير
ولكن الخلاف القائم بين إدارة الرئيس بايدن وحكومة نتنياهو حاليًا تجاوز كل الحدود والروايات والمحرمات التقليدية. وفور إعلان فوز الحكومة المتطرفة الحالية في إسرائيل، صرح المسؤولون الأمريكيون أنهم لن يلتقوا بأعضاء محددين في تلك الحكومة، على رأسهم سموتريتش، ووزير الأمن الداخلي ايتمار بن غفير، في ضوء الأفكار العنصرية المتطرفة التي يتبناها الوزيرين وعضويتهما السابقة في منظمات تعتبرها الولايات المتحدة رسميًا "إرهابية".
ولكن القشة التي قصمت ظهر البعير تمثلت في إصرار نتنياهو على المضي قدمًا فيما يعرف بقوانين "الإصلاح القضائي" التي تهدف عمليًا إلى وضع المحكمة العليا في إسرائيل تحت سيطرة حكومته، ومنحه سلطات تسمح له بتعيين قضاتها وعدم تنفيذ قرارتها بموجب قوانين مضادة تصدر من الكنيست/مجلس النواب، حيث يتمتع تحالفه اليميني بأغلبية مريحة.
كما تقضي تلك القوانين بمنع عزل رئيس الوزراء المنتخب من منصبه بقرار من المحكمة العليا، وأن يتم ذلك فقط عن طريق مجلس النواب، خاصة وأنه يواجه محاكمة تتضمن عدة اتهامات بالفساد والرشوة.
في المظاهرات التي تعقبت سموتريتش أثناء زيارته الأخيرة للولايات المتحدة، لم تكن القضية المهيمنة بين المحتجين تعامل حكومة نتنياهو مع الفلسطينيين وزيادة عدد القتلى منهم بشكل غير مسبوق على مدى الشهور الثلاثة الماضية، ولكن قضية الإصلاح القضائي، والتي تمس ما وصفه البيان الرافض لزيارته بـ"القيم المشتركة" بين البلدين وتمسك كلاهما بنظام ديمقراطي يحترم استقلال مؤسسات القضاء.
ولكن نتننياهو، الخبير في السياسة الأمريكية الداخلية، لم يعد يعول لا على الجالية اليهودية الأمريكية، ولا على إدارة بايدن الديمقراطية الحالية أو الحزب الديمقراطي الذي تراجع تأييد إسرائيل بين أنصاره بشكل كبير، خاصة في صفوف الشباب وفقًا لآخر الإحصاءات. فكلاهما "ليبرالي" يعارض نمو النفوذ اليميني في إسرائيل ورغبة الناخبين الإسرائيليين، وهما مؤيدين لحل الدولتين الذي يرفضه ويسعى لوأده. وربما يكون أكثر ما يخشاه نتانياهو هو أن تسعى إدارة بايدن لإسقاطه من خلال أذرعها الممتدة داخل إسرائيل.
وبالتالي، فإن رهانه هو على الحزب الجمهوري، والتيار اليميني المحافظ وما يعرف بالصهيونية المسيحية، وأنصار المرشح الرئاسي المحتمل دونالد ترامب الذي يتمنى نتنياهو عودته للبيت الأبيض في 2024 لمواصلة ما حققوه من "إنجازات"، على رأسها الاتفاقيات الإبراهيمية التي تقوم على التطبيع الكامل للعلاقات بين إسرائيل والدول العربية، بغض النظر عن تحقيق أي تقدم في السلام مع الفلسطينيين وإنشاء دولتهم.
ورغم أن إسرائيل ودعمها قد تحولا إلى قضية انتخابية في إطار التنافس المحموم بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، فإنه مما لا شك فيه أن إسرائيل لم تعد البقرة المقدسة التي لم يكن من المسموح مناقشة التحالف معها في السياسة الأمريكية الخارجية. وهو أمر يجب أن تستفيد منه الأطراف المؤيدة للفلسطينيين، على الأقل بالتوقف عن ترديد الجمل التقليدية من قبيل أن السياسة الأمريكية لا تتغير تجاه إسرائيل، وأنه لا فرق بين حكم الديمقراطيين والجمهوريين في الولايات المتحدة.