ظنت مؤسسة قضايا المرأة المصرية أن تخصيص الرئيس عبد الفتاح السيسي عام 2017، "عامًا للمرأة"، كفيل بتذليل العقبات، خصوصًا بعد إطلاق الاستراتيجية الوطنية لتمكين المرأة 2030، التي يأتي في محورها الرابع حديث عن الحماية. من هنا، فكرت المؤسسة في أن "تخلق جسرًا من الحماية والثقة بين النساء وأقسام الشرطة"، بحسب رئيسة مجلس أمناء المؤسسة المحامية عزة سليمان.
لكنَّ بناء جسر الثقة تعثر قبل أن يبدأ. إذ أشارت سليمان في كلمة افتتاحية ألقتها خلال مؤتمر "توفير بيئة آمنة للنساء"، أمس الثلاثاء، إلى عدم تعاون وزارة الداخلية معهم حتى الآن، وإن كان "عندنا أمل التعاون ده يحصل في مرحلة لاحقة".
وكان تصور تدشين جسر الثقة قائمًا على بحث أسباب إحجام النساء عن الإبلاغ عن العنف، عبر لقاءات ميدانية مع ثلاث مجموعات: النساء، والمحاميات والمحامين، وأفراد الأمن، ومن ثم وضع حلول بهدف تشجيع النساء على الإفصاح، وتوفير "بيئة آمنة" لهن.
اختارت المؤسسة منطقة إمبابة كنموذج للدراسة "تعاونّا مع النائبة نشوى الديب فيها، وهي من دائرة إمبابة، ولأن المنطقة ديموغرافيًا تمثل بيئة مناسبة للدراسة" وفق ما أوضحته سليمان خلال المؤتمر، الذي عقد بالتعاون مع هيئة فريدريش إيبرت الألمانية.
وخلال العمل الميداني، التقت باحثة الدراسة الرئيسية شيماء سامي، بـ "60 امرأة في فئات عمرية متنوعة، و40 محامية ومحامي وإن كانت الغلبة للمحاميات، لكن لم يتعاون قسم شرطة إمبابة" بحسب قولها للمنصة.
وتشرح "كان المفترض إن النائبة هتوصلنا بالقسم وهيتعاونوا معانا، ويشاركوا في مجموعات الحوار عشان نعرف إيه الإشكاليات اللي عندهم، ما يمكن يكون فيه حاجات إحنا مش عارفينها، كان مهم قوي نسمع منهم".
وتضيف سامي "النائبة مقدرتش توصلنا بيهم، اتقال إنهم مش فاضيين ومش هيقدروا يخرّجوا مجموعات من الضباط والأمناء يقعدوا مع باحثين، ولما اقترحنا نروح إحنا، برضه اترفض المقترح على أساس إن ده محتاج موافقات كتير من الوزارة"، وتداركت "يعني ممكن نقول إن إجراءات لوجستية عطلت الموضوع".
خلصت دراسة الباحثة والمعنونة بـ"إشكاليات الإبلاغ عن قضايا العنف" إلى أن 10% فقط من أفراد العينة، لجأن إلى تقديم بلاغ عند تعرضهن لعنف، بعضهن بادرن بالتوجه للإبلاغ، وأخريات حضر أمين شرطة إليهن عندما تعرضن للتعنيف والضرب في الشارع، وفق ما أوضحته سامي للمنصة.
ولم تنشر المؤسسة الدراسة حتى الآن، بينما عجّلوا بعرضها أمس في المؤتمر لـ"الحضور بفاعلية في شهر المرأة من جهة، وكذلك جمع توصيات وإجراء حوار حولها" بحسب الباحثة، التي رجّحت أن تصدر دراستها نهاية الشهر المقبل.
لسن آمنات هنا
جمعت سامي أسباب الإحجام من أفواه النساء والمحاميات، وكان أبرزها شعورهن أنهن "مش هياخدوا حقهم لو بلغوا، بل بالعكس هيتعرضوا لمضايقات في القسم". وعند سؤالها عن نوع المضايقات قالت "بعض النساء قالولي أنهم اتعرضوا للتحرش أو سمعوا عن غيرهم اتعرضوا للتحرش فيه".
أما المحاميات فأضفن بعدًا آخر حين تحدثن عن التقليل منهن أمام المعنفات، لإفقادهن الثقة فيما يمكن أن يقدمنه لهن، ومن ثم يتنازلن عن شكواهم "بيقولولهم سيبكم من المحاميات دول مش هيعملولكم حاجة"، بحسب ما قالت سامي للمنصة.
وخلال المؤتمر استعرضت الباحثة ما تتعرض له النساء من عنف، وقالت إنه تم تسجيل 813 جريمة عنف ضد المرأة في عام 2021 مقارنة بـ 415 واقعة خلال 2020. كما تم رصد 296 حالة قتل على أساس النوع ضد نساء وفتيات في مختلف الأعمار، فضلًا عن 78 حالة شروع في قتل، و54 حالة اغتصاب، بخلاف حالات هتك العرض التي لا يتم توصيفها كاغتصاب وفقًا للقانون المصري، و100 حالة أغلبهن انتحرن بسبب التعرض لعنف أسري أو ابتزاز وتهديد.
وفيما يتعلق بموضوع الدراسة، إشكالية إبلاغ النساء عن العنف، فأشارت إلى أنه وعلى الرغم من صدور قرار سابق بتدشين وحدات لمناهضة العنف ضد المرأة في أقسام الشرطة، فإن "الوحدات دي موجودة بس في المديريات والجامعات، ومش مفعلة. وعلى الرغم من وجودها في الجامعات، شفنا قضايا قتل على أساس النوع"، في إشارة إلى قتل الطالبة نيرة أشرف على يد زميلها أمام جامعة المنصورة في يونيو/حزيران الماضي.
أما بخصوص مكاتب حقوق الإنسان في أقسام الشرطة، فأشارت إلى أنها "فاضية أو مش موجودة"، وإحدى حالات الدراسة قالت "كان في أوضة فاضية كده وفيها ورق كنت فكراها حمام طلعت أوضة حقوق الإنسان".
واعتبرت سامي أن غياب مثل تلك الوحدات من أسباب إحجام النساء عن الإبلاغ "لو فيه ست بتسمع للستات اللي بيقدموا الشكوى هيبقى أفضل بالنسبة لهم". خصوصًا وأنها أشارت إلى أنه من الأسباب الرئيسية للإحجام "الخبرة السيئة مع أحد أفراد الشرطة، أو أنهم يكونوا سمعوا عن خبرات سيئة، الست بتسأل نفسها هروح القسم ممكن أتعرض لإيه؟ وفيه مساجين في القسم فهسمع ألفاظ أو هيتم مضايقتي".
بينما أرجع إيهاب يوسف، أمين عام جمعية الشرطة والشعب لمصر، الإحجام عن الإبلاغ إلى المعتقدات والقيم المصرية "فيه حاجز نفسي مع قسم الشرطة، وإحساسها إن وجودها في القسم مش هيحل المشكلة"، وذلك خلال جلسة بعنوان "دور السلطات التنفيذية في حماية الضحايا وأهمية وجود مساحات آمنة لتلقي الشكاوى والبلاغات".
البلاغ ليس نهاية المطاف
وبعد استعراض أسباب قلق النساء من أقسام الشرطة، نبّه المحامي في النقض محمود عبد الفتاح، خلال المؤتمر، أن النساء يتعرضن للكثير من الضغوط عند وبعد تقديم البلاغات، فـ"ثقافة متلقي الشكوى عائق أمام تقديم البلاغات، في ظل الثقافة الذكورية، ويعتبر أن اعتداء الزوج أو الأب على المرأة نوعٌ من تصحيح السلوك"، أما النيابة فـ"كثيرًا ما تعيد المحضر إلى القسم لإعادة التحريات، وغالبًا ما يجري حفظ المحاضر بدعوى عدم وجود شهود أو الاستدلال على الواقعة" على حد قوله.
ونبّه المحامي الحقوقي، إلى أنه على الرغم من التقدم في قوانين دعم المرأة، مثل تغليظ عقوبة التحرش أكثر من مرة، لكن لا تزال القوانين والعقوبات التمييزية قائمة، وفي مقدمتها المادة 60 من قانون العقوبات التي تنص على أنه "لا تسري أحكام قانون العقوبات على كل فعل أرتُكب بنية سليمة عملًا بحق مقدر بمقتضى الشريعة"، وهي المادة التي تسمح على نطاق واسع بإفلات مرتكبي جرائم العنف الأسري من العقاب.
وعلق أن "وجود نص بهذه العمومية في المنظومة الجنائية يمثل مخرج في كثير من قضايا العنف ضد المرأة"، ووصفه بـ"الباب الآمن لضرب النساء، وملاذ آمن للإفلات من العقاب، وغل ليد التشريع".
كما نبه إلى وجود المادة 17 في قانون العقوبات، التي تتيح للقاضي استخدام الرأفة دون إبداء أسباب، وتستخدم عادة فيما يعرف بـ"قضايا الشرف".
وعلى الأرض، لفت إلى إشكاليات عدة تواجه المبلغات، منها "تكدس أقسام الشرطة، والتلاعب بعدم وعي النساء، ومحاولة إثنائهن عن التبليغ، بتخويفهن، وبيقولهم هيعمل محضر (المعتدي) ويبقى محضر قصاد محضر"، مع طول أمد التحقيقات.
وأوضحت سامي أن البلاغات التي تصل لأقسام الشرطة "بتتفلتر كتير بعد كده. مش كل الستات بتقدر تقدم البلاغ، أو يتحرك البلاغ بتاعها للنيابة، وجزء من ده له علاقة بكلفة التقاضي، لإن غالبية النساء بيروحوا القسم من غير محامي، لإنهم مش قادرين يكلفوا محامي".
وأشارت الباحثة إلى أن الكلفة الاقتصادية "كانت في بالي من البداية، وعشان كده في نهاية الدراسة هنصدر قايمة بالأماكن اللي النساء ممكن يتوجهولها للدعم القانوني المجاني لو اتعرضوا لعنف، وكان جزء من كلامنا معاهم قايم على التوعية دي".
لن يصرخن
كان لافتًا منذ بداية المؤتمر الذي شارك فيه العشرات بين محامين وصحفيين وناشطين في المجتمع المدني، وجود مترجمة إشارة تنقل كل ما يدور.
شارك في المؤتمر نساء من الصم، نقلن معانتهن المضاعفة، فمن جهة لا يستطعن الصراخ لوقف ما يتعرضن له، ما يجعل من يعنفهن يزيد من عنفه، ولا يستطعن الذهاب إلى قسم شرطة لتقديم بلاغ، وهي خطوة تحتاج إلى مترجم إشارة بالإضافة إلى المحامي، أي كلفة إضافية، بحسب المحامية وعضوة مجلس أمناء في المؤسسة المصرية لحقوق الصم إسراء عماد.
وقالت امرأة صماء، عبر إشارات نطقتها المترجمة، "المفروض يكون فيه تعامل أحسن مع ذوي الإعاقة. فيه محاولات عنف كتير واضحة جدًا، والست مبتروحش تبلغ خايفة لإن مفيش مترجم، لازم يكون فيه مترجم ويوصلوا صوتهم".
وكانت رئيسة مؤسسة الصم بدأت المداخلات خلال المؤتمر بالإشارة إلى أن الأبحاث لا تشمل النساء من ذوي الإعاقة السمعية، وهو ما أقرت به الباحثة شيماء سامي مشيرة إلى أنها تناولت ذوو الإعاقة الحركية والإعاقة الذهنية، وليس الصم، وهو أمر مهم الالتفات له.
انتهى اليوم بتفاؤل من قبل مؤسسة قضايا المرأة، التي أكدت رئيستها عزة سليمان أن بناء "جسر الثقة" أمر ممكن، وأن المصلحة مشتركة، حتى في ظل عدم وجود مؤشرات على إمكانية تدشينه قريبًا، وربما يقرر قسم إمبابة، أو وزارة الداخلية، أو الحكومة المشاركة مستقبًلا، ويخرج المجتمع المدني من دائرة التحدث لذاته.