خلال أقل من عام، اختبرت جانيت فوزي حرية الاستقلال عن منزل عائلتها في كفر الشيخ، قبل أن تضطر إلى العودة محتملة "المعايرة والعنف الأسري"، بعد عجزها عن سداد احتياجاتها أمام الزيادات المستمرة في الأسعار.
تقول جانيت للمنصة، وهي خريجة كلية العلوم وتعمل في إحدى المعامل، إن قرار استقلالها لم يكن سهلًا، خاضت من أجله نقاشات طويلة مع عائلتها منذ 2021 هربًا من العنف الأسري الذي تتعرض له، حتى أدركت ضرورة الاستقلال المادي أولًا، "بدأت أدرس اللي محتاجاه وتكلفة المعيشة كشخص مستقل".
بحثت جانيت عن شقة واستقرت فيها في منطقة السيدة زينب في القاهرة في مطلع عام 2022، لكن الأسعار قضت على محاولتها "تغيرت أسعار السلع والمواد الغذائية وارتفعت أسعار الوقود، وفضلت أقاوم وأشتغل عشان مخسرش المكسب اللي حققته".
تشرح "بقيت بصرف أكتر من مرتبي، وأحيانًا بستغنى عن الأكل ما عدا القليل خالص، ومع ذلك استلفت وتراكمت عليا ديون، ومع بداية السنة دي (2023) ووصول الدولار 30 جنيه لقيتني مش قادرة أكمل؛ مبقاش حد معاه يسلفني ولا عارفة هاقدر أدفع اللي عليا إمتى".
وهنا اضطرت جانيت العودة إلى منزل عائلتها بعد 11 شهرًا من مغادرته، و3 أشهر من التعويم الأخير في أكتوبر/تشرين الأول الماضي "الرجوع لبيت أهلي بمشاعر الانكسار والهزيمة صعب أوي، أنا كنت بكره البيت بسبب الضرب والتنمر، ما صدقت اتنفست لما مشيت".
المجتمع بيوصف الراجل المستقل بأنه متحمل المسؤولية ومكافح، لكن البنت موصومة
وما حدث مع جانيت ليس استثناءً، الأمر نفسه واجهته سعاد سليم(*) التي اضطرت إلى العودة لمنزل عائلتها بعد 8 أعوام من الاستقلال بحياتها.
عودة قسرية
تتذكر سعاد في حديثها للمنصة، حين حمل أحد أخوتها قاعدة معدنية مخصصة للثلاجة ونزل بها على رأسها فسقطت مغشيًا عليها، "كنت هاموت فيها، ولما ربنا نجاني، خدت شنطتي ومشيت"، كان ذلك في 2014.
تضيف "كانوا سبب إني مكملش تعليمي بشكل مباشر، وفضلت منقطعة بعد ما واحد فيهم قطع لي ورقي".
ومثل كافة رحلات استقلال النساء في مصر، استغرقت سعاد وقتًا للعثور على سكن، "محدش كان راضي يأجرلي عشان بنت ولوحدي، فاضطريت أسكن مع بنات معرفهمش ومرتحتش واتسرقت، بعدها دورت على أصغر شقة في منطقة الطوابق في فيصل؛ لأنها قريبة من شركة العقارات اللي اشتغلت فيها في وظيفة إدارية".
وعلى مدار سنوات استقرت حياة سعاد نوعًا ما، تنقلت من عمل ﻵخر، وأكملت دراستها في التعليم المفتوح "كنت بدرس وبشتغل وبعافر عشان مرجعش بيت أهلي، وفي الفترة دي حاولت أظبط أموري على قد دخلي"، لكن جاء التعويم الأول للجنيه في 2016 ليوجه ضربته إليها.
في نوفمبر/تشرين الثاني من ذلك العام انخفض الجنيه من 8.88 جنيه للدولار إلى 15.77 جنيه للدولار، بتراجع 78%، تصف تلك المرحلة "كنت عايشة عيشة قاسية جدًا، كنت بلطم على وشي وبدور على أي شغل بسبب تخفيض مرتبي في شغلي الأساسي، فبقيت اشتغل كاشير ومندوب، وكنت بجيب منتجات تجميل وأبيعها عشان أقدر أصرف على نفسي".
وبينما نجت سعاد من التعويم الأول، لم تستطع الصمود بعد التعويم الأخير وعادت في نفس الشهر "الأمور ساءت بما يكفي، الأسعار بقت تريبل (ثلاثة أضعاف) مهما كان مرتبك مستحيل يكفي، وخلاص مبقتش قادرة أعافر فرجعت البيت واتحججت بإني جيت أراعي أمي المريضة".
ليس الذكر كالأنثى
يعاني الجميع من آثار التضخم سواء نساء أو رجال، لكن تظل معاناة النساء المستقلات وخسائرهن أكبر مقارنة بالرجال المستقلين، بحسب عضوة مجلس أمناء مؤسسة المرأة الجديدة مي صالح.
تقول مي للمنصة أن هناك عدة فوارق لابد من أخذها في الاعتبار، فالمقاومة المجتمعية لقرار الاستقلال ليست واحدة بالنسبة للفتاة التي تعاني وتدفع ضريبة قرارها، فيما تساند الأسرة الشاب المستقل وتدعمه بالمؤن والمال إن لزم الأمر.
وتضيف "المجتمع بيوصف الراجل المستقل بأنه متحمل المسؤولية ومكافح، لكن البنت موصومة أكتر منه وتتحمل تبعات قرارها على كل الأصعدة؛ زي لو تعبت واحتاجت علاج بتكون لوحدها، ولو هاتتجوز بتشيل مسؤولية جهازها، لأن أغلب الأسر بتقاطع بناتها كجزء من العقاب أو الضغط عليهم وإجبارهم على العودة".
سجن العيلة
ولا يقتصر دفع المرأة حريتها ضريبة للظروف الاقتصادية الصعبة على المستقلات، فبعض المتزوجات اضطررن للعيش مع أهالي أزواجهن بسبب الأسعار.
إحدى هؤلاء نجلاء غريب، التي بذلت مجهودًا في أول سنوات زواجها للاستقلال عن عائلة زوجها في الأكل وتفاصيل المعيشة، خصوصًا أنها تسكن نفس العمارة "مكنش ليا حق أقرر عايزة أطبخ إيه ولا أقعد بلبس براحتي، جوزي طول اليوم في الشغل وأنا تحت بخدمهم، ولما أخيرًا بعدت عنهم، ارتحت".
بيوت الأهالي في مصر عاملة زي السجون للبنات، بنحاول بكل جهدنا منرجعش
أنجبت نجلاء ثلاثة أطفال "كنت بعيش على قد ظروف جوزي، لكن مع غلاء الأسعار مرتبه مبقاش يقضي لبن وبامبرز ويادوب فواتير مية وكهرباء وغاز"، ومع القفزات الكبيرة للأسعار، اقترح زوجها العودة إلى نمط الحياة الأول "عرفته إني مش موافقة حتى لو أكلت عيش حاف في شقتي أكرم لي. لكن القرار كان غصب عني".
أما هبة علي، فكان قرار زوجها بالانتقال للعيش في منزل عائلته أصعب، فهي صاحبة قصة تراجيدية لم تتوقع أن تأخذها الأحداث إلى منزل من "اتهموني في شرفي"، بحسب تعبيرها.
تقول للمنصة،"في البداية حماتي كانت رافضة جوازي من ابنها، وحرمته من شقته اللي في بيتهم، وجت يوم الفرح بليل تقول عني كلام يسوّء سمعتي في الشارع". وبعد سنوات تحسنت العلاقات مع أهل زوجها وتقبلوها.
عملت هبة في بيع الملابس أون لاين، لمساعدة زوجها على المعيشة، ورغم ذلك "جوزي قرر بعد الزيادات الأخيرة إننا هانروح نعيش مع أمه ونسي إهانتي. كل الحلول مش نافعة لأن فعلًا الفلوس مبقاش لها قيمة، طلبت الطلاق لو مفيش حل غير إني أعيش معاها، بس أهلي كمان رفضوا عشان ولادي".
تشاركت كلًا من نجلاء وهبة وجانيت، في دفع فاتورة التعويم من راحتهن، بينما يحاولن التعايش مع أوضاعهن الجديدة.
تقول جانيت "رجوعي دلوقتي أمر واقع ولازم أتعايش وأشوف حلول بديلة، مش محتاجة أوصف الشماتة والمعاملة السيئة لما عرفوا إني راجعة مجبرة بسبب الظروف المادية".
منتصف الطريق
تشهد الأسعار قفزات متتالية، اعترف بها الرئيس بنفسه، إذ قال في أكتوبر الماضي خلال كلمته بالجلسة الختامية للمؤتمر الاقتصادي "والله العظيم أنا بكلمكم من قلبي، أقل من 10 آلاف جنيه لأي حد بيشتغل، مش هيعيش، ما أنت هتقولي إديهم، هقولك يا ريت"، وقتها كان معدل التضخم 19%، بينما تجاوز التضخم في مايو/أيار الماضي 40%.
يعني ذلك أن مصير جانيت ليس بعيد عن أخريات يحاولن الصمود ومن بينهن دينا رجب، وهي في منتصف الثلاثينات. تعمل دينا محاسبة، ومنذ عام 2020 استقلت عن منزل عائلتها في الصف، إحدى قرى الجيزة، وانتقلت إلى منطقة الهرم حيث تتشارك السكن مع زميلتها في العمل.
تقول دينا للمنصة، إن مرتبها هي وزميلتها لا يكفي الإيجار والفواتير فضلًا عن الطعام الذي استغنوا عن إحضاره جاهزًا، "حتى المناديل بنجيب يادوب نوع واحد نستخدمه للحمام والمطبخ والوجه، وكمان بشرتنا مش لاقيين نجيب لها منتجات حماية من الشمس والحبوب".
ورغم أن قائمة الاستغناء قابلة للزيادة، تؤكد دينا أنها أهون عليها من العودة "بيوت الأهالي في مصر عاملة زي السجون للبنات، إحنا بنتعذب والله ولا كأننا معتقلين، بنحاول بكل جهدنا منرجعش"، قبل أن تتدارك بأسى "لكن واضح إن الخطوة قربت جدًا للأسف".
دوائر الدعم
تسعى العديد من المبادرات والمؤسسات الحقوقية إلى مساعدة المستقلات كي لا يعدن إلى التعنيف، من بينها مبادرة سوبر وومن. تقول آية منير، صاحبة المبادرة للمنصة، إنها تقدم حملات لدعم المستقلات نفسيًا إلى جانب تدريبهن على مهن لتزويد دخلهن "لكن البنات عندها مخاوف شديدة حاليًا بسبب إن الفلوس بتقل والالتزامات بتكتر، خايفين من الرجوع لبيوت أهاليهم وتغيير نمط حياتهم؛ فمثلًا اللي بترجع بتضطر تسافر كل يوم من قريتها للقاهرة يا إما يتضغط عليها تسيب الشغل".
وترى آية أن مركزية القاهرة سبب أساسي في معاناة الفتيات المستقلات؛ إذ توضع شروط قاسية للعودة وتفرض عليهن المزيد من القيود، وغالبًا تنتهي بخسارة العمل، بالإضافة إلى الخصوصية التي اعتدن عليها،"صحيح المواصلات من إقليم لآخر أو للقاهرة أرخص من الإيجار، لكن السفر بردو مرهق ليهم وعائلاتهم بيتحكموا في مواعيدهم".
بيشغلوا الستات عشان يدوهم مرتب قليل، شايفين الست بتصرف على المكياج
وبحسب صاحبة مبادرة سوبروومن، هناك ارتباط وثيق بين الأزمة الاقتصادية والعنف ضد المرأة، فتلجأ النساء إلى الجمعيات المختصة للدفاع عنهن "الحالات اللي مش قادرة تكمل في سكن لوحدها بسبب الفلوس بندور لها على دار استضافة تابعة لوزارة التضامن، ودي مش كتير في مصر وبتحتاج واسطة كمان، أو بنتواصل مع مؤسسات زي المرأة الجديدة ونقولهم إن البنات مهددات يتطردوا من سكنهم، وبيستجيبوا للاستغاثة أسرع من دور الضيافة".
وترى آية أزمة المستقلات ضمن سياق أكبر من التمييز ضد النساء في الأجر، "بيشغلوا الستات أصلًا عشان يدوهم مرتب قليل، شايفين الست بتصرف على المكياج لكن الرجالة فاتحين بيوت. ومحدش بيساعد واحدة مسؤولة بردو وفاتحة بيت".
فيما تقول شيماء طنطاوي، عضو مؤسس بجمعية براح آمن، لمناهضة العنف الأسري في مصر، إن الوضع الاقتصادي بالغ الصعوبة على الجميع، لكن أثره على المستقلات أصبح غير محتمل، خاصة في ظل الأجور المتدنية للنساء، والتي بالكاد تكفي دفع إيجار غرفة.
وتشير شيماء إلى أن المجموعات المغلقة على مواقع التواصل الاجتماعي باتت ملجأً لكثيرات يشتكين من عدم قدرتهن على الاستمرار كمستقلات، وهنا يمكن أن تتوسط الجمعية لإيصال تبرعات تُخصص لدفع إيجار شهر مثلًا لحين تعديل أوضاعهن.
وتابعت الناشطة في حقوق المرأة "من البداية بنحط خطة استقلال مادي تتناسب مع قدرات ومؤهلات الحالة، وبنساعدهم يلاقوا سكن معقول، لكن الفترة الأخيرة بقى يتواصل معانا بنات عايزين نوفر أكل بس لأن يادوب مرتبهم بيدفع الإيجار".
ولفتت شيماء أن اللاجئات المنتميات إلى دول أفريقية يعانين كمستقلات أيضًا، نظرًا لتعرضهن للتنمر والتمييز في العمل، وتشغيلهن برواتب هزيلة "جات لنا حالات سودانيات وغيرهم خايفين يرجعوا لأهاليهم وطلبوا ندفع لهم شهرين إيجار أو نوفر لهم أكل يعيشهم فترة لحد ما يقفوا على رجليهم".
لكن جانيت لم تلجأ لأي من تلك الجمعيات رغم علمها بها، تقول "محدش هيعملي حاجة، لو ساعدوني شهر مش هيساعدوني التاني".
(*)اسم مستعار للحفاظ على سلامة المصدر.