تصميم سيف الدين أحمد، المنصة، 2025
شركاؤنا الإسرائيليون ضد عنصرية إسرائيل

جدران بيننا| خيال العدو ووجدانه

منشور الأربعاء 7 مايو 2025

لإدوارد سعيد عبارة مقلقة لبعض من يتأملونها جيدًا "يجب أن لا نستحوذ على خيال شعبنا فحسب، بل ينبغي أن نستحوذ على خيال مضطهِدينا أيضًا".

تُثير هذه العبارة القلق لأنها تدعونا لعملٍ ما، غير محدد. عمل مرتبط بالعدو وموجه إليه، أو بكيفية التعامل معه، أو على الأقل مع بعض قطاعاته. يتعاظم القلق لأن هذا الشيء المدعوون لفعله يبدو كبيرًا، يتجاوز حدود الأنا، ليشتبك مع مناطق الآخر/العدو/المضطهِد. وتتعقد المسألة أكثر لما يمكن أن يستدعيه تعبير "الخيال" في هذا السياق. فربما يكون الاستحواذ على الخيال، وقد أكون مخطئًا، مقصودًا به كسب وجدان وتعاطف، بل وانحياز، قطاعات من مجتمع دولة العدو لنا.

تمتعت أغلب أطروحات إدوارد سعيد بالحصانة بين العرب، مثلما حظيت بكل محاولات التشويه من جهة العدو. حصانته بين صفوفنا طبيعية ومستحقة؛ كونه أحد أهم مفكري القرن العشرين، من ذلك النوع الذي يصعب التشكيك في انحيازه ونزاهته. وتشويه العدو له مبرَّر بدوره، فهو النموذج النقيض لتلك الصورة التي روجها الإسرائيليون عن الفلسطينيين في الغرب.

من لا يتمتعون بحصانة إدوارد سعيد، يتجنبون عادةً الدخول لمنطقة الأسئلة الملغمة المتعلقة بأفعالنا تجاه الآخر/العدو، ومناقشتها بطريقة عملية/براجماتية. فهي من ضمن التابوهات التي يواجه من يناقشها الاتهامات المتنوعة، الواصلة أحيانًا لوصفه، فردًا أو جهةً، بالمُطبِّع الخارج عن الإجماع العربي.

كما أن هناك حالةً حقيقيةً حاضرةً في واقعنا الآني، تمنح هذا التابو قوة إضافية وتُعقِّد عملية النقاش حوله وتزيد ما فيها من مخاطر؛ وهي لهفة العديد من الأفراد والجهات العربية للتطبيع مع العدو الإسرائيلي. تُحمِّل هذه اللهفة فتح ملف "العمل" لكسب خيال الآخر، أو عقله أو وجدانه أو تعاطفه، في حد ذاته، بمخاطر فتح الأبواب أمام البعض ليرتموا في أحضان هذا الآخر، أن يَكسبهم، وأن يُصوِّر التطبيع مع العدو وكأنه ضمن عملية كسب خياله.

أسئلة الحصانة والأسماء اللامعة

إيليا سليمان أثناء استلام جائزة النقاد في مهرجان كان عن فيلمه "إن شئت كما في السماء" (2019)

ماذا لو كان المخرج الفلسطيني الذي تعاون مع مخرج إسرائيلي لإخراج لا أرض أخرى (2024)، هو إيليا سليمان أو ميشيل خليفي أو رشيد مشهراوي أو آن ماري جاسر، أو أي من السينمائيين الفلسطينيين المشهورين هل كان استقبال الفيلم وجوائزه سيختلف؟

يبدو سؤالًا خبيثًا، لكنه ضروري، لا ينفصل عمَّا دار في أذهان بعض المهتمين والمتابعين للسينما الفلسطينية. إنه سؤال عن مفارقة أن جائزة الأوسكار، التي تداعب أحلام أغلب سينمائيي العالم وضمنهم العرب الذين لم يفوزوا بها أبدًا، حين سقطت في حجرنا نحن العرب، تلقاها شاب فلسطيني، مجهول، من خارج الوسط السينمائي الاحترافي. فباسل عدرا ليس من مدينة الناصرة المصدِّرة للسينمائيين، ولا ينتسب لأي من الأوساط الثقافية والفنية في غرب أوروبا، أو أمريكا، أو حتى رام الله أو بيروت أو دبي. بل إنه لم يدرس السينما أصلًا، ويعيش في بيت فقير مهدد بالهدم في قرية فلسطينية مجهولة لأغلبنا.

نعم، هناك شبهة طبقية ونخبوية في التعامل ببرود، في أفضل الأحوال، مع فوز باسل عدرا بالجائزة، وفي أسوأها استسهال في اتهام فيلمه بأنه مطبع، لمجرد أننا لا نعرف عنه مسبقًا، ولا نعرف كذلك عن شريكه يوفال أبراهام. فكلاهما ليس ضيفًا ثابتًا في أسواق تمويل الأفلام في المهرجانات الكبرى، التي تمنح المترددين عليها صفة "السينمائيين" حتى وإن لم ينجزوا أفلامًا. كلاهما لم يملك رصيدًا من هذا النوع من تصريحات وتأملات المثقفين "المهمومة" عن حال الثقافة والشأن العام، وعن السينما كباب للاشتباك مع العالم، حتى وإن صدرت هذه التصريحات تحت سقف أحد المحافل الخليجية الترفيهية/الاستهلاكية المستجدة.

ليس مريحًا للكثيرين أن يحوز على كل هذا الاهتمام والتقدير شاب مجهول، آتٍ من خارج الوسط السينمائي، النخبوي والانتقائي بامتياز، ليفوز بجائزة الأوسكار، وقبلها جائزة برلين. وغياب الشعور بالراحة عند البعض يقابله فتح صندوق الشكوك، المبرَّر، عند البعض الآخر، لمجرد أننا لا نعرفه مسبقًا، ونرى بجوار اسمه اسمًا إسرائيليًا.

إنه الفرق نفسه بين أن يحاور محمود درويش، الشاعر الأيقوني، صحفية إسرائيلية، أو طرفًا ثقافيًا إسرائيليًا، أو أن يكون الطرف العربي في هذا الحوار شاعر شاب في بدايات مساره. ففي الحالة الثانية تُثار الشكوك والاتهامات. وكأننا نحتاج اسمًا لامعًا ليتصدر المواقف الملتبسة، ليطمئننا تجاه ما هو إشكالي. وهي المعادلة نفسها حين يقول إدوارد سعيد، الأستاذ في جامعة كولومبيا، أن علينا الاستحواذ على خيال مضطهدينا، أو أن يقولها باحث عربي شاب ومجهول يدرس في جامعة أمريكية، ولا يملك كل السيرة الذاتية الحافلة والغنية لإدوارد سعيد.

حصانة الأسماء اللامعة، والثقة فيها، بناءً على تاريخها، طبيعية. يحتاجها البشر للشعور بالأمان، ولانتقاء وجوه ليتماهوا معها، وتمثلهم وتعبر عنهم. لكنها تمتد أحيانًا لمنطقة مغايرة، نخبوية وانتقائية، وتكاد تصل للوقاحة حين يُطلب من يوفال أبراهام أن يقدم للعرب أوراق اعتماده نضاليًا. أن يقدم كشف حساب لدرجة معاناته ونبذه داخل مجتمعه الإسرائيلي بسبب انحيازه لأهل مسافر يطا في الضفة الغربية. بينما الغالبية الكاسحة ممن ينتظرون منه أوراق الاعتماد تلك، ربما لم يفعلوا أي شيء لصالح أهل مسافر يطا، أو لصالح أهل أي قرية فلسطينية محتلة 1948 أو 1967.

الجدار العازل كما يظهر في فيلم "الطريق 181" (2003)، إخراج ميشيل خليفي وإيال سيفان

استحواذ الآخر على خيالنا

بالعودة لأسماء المخرجين الفلسطينيين، ودون الخوض بالرأي في أفلامهم بما فيها لا أرض أخرى، لا بد من التذكير بعامل أساسي ضمن العوامل المفسرة لرحلة نجاح "لا أرض أخرى" مهرجانيًا، والمشار إليها في مقالين سابقين؛ خروجه عن تخمة "سينما التلصص على الواقع"، التي أصابت السينما التسجيلية عالميًا.

هناك عامل آخر مهم، لا يمكن إغفاله، أن الفيلم، ورغم انفصاله عن أكاذيب التعايش بين الفلسطيني والإسرائيلي تحت مظلة السلام، وتسليطه الضوء على اضطهاد الفلسطينيين لأنهم فلسطينيون، وإدراكنا كمشاهدين للفروق الحقيقية بين واقعي المخرجين، لا يصل لجذرية أفلام أخرى على مستوى الشكل والمضمون، فيصبح مقبولًا أكثر منها.

توجد على الأقل سابقة واحدة للتعاون بين مخرج فلسطيني وآخر إسرائيلي، لصناعة فيلم مشترك. وهي تجربة الفلسطيني ميشيل خليفي والإسرائيلي إيال سيفان لإخراج الطريق 181 (2003). كانت تجربة مقبولة لنا، نحن العرب والفلسطينيين، ومن قبل مشاهدة الفيلم وتأمله. لكنها هُمِّشت خارج عالمنا، وأغلب سينمائيي العالم لا يعرفون عنها شيئًا. وكُتب عليها أن تظل محصورة في نطاق العرب والمتمردين الإسرائيليين.

قبول التجربة لم يكن لغزًا، فميشيل خليفي نال الاعتراف به في الأوساط السينمائية العربية، بعد أن حقق عددًا من الأفلام. وانحياز إيال سيفان للحق الفلسطيني، وتجذر مواقفه ضد دولته إسرائيل، تحقق بدوره من قبل صناعة الفيلم. لكنه، وبسبب أسلوبه الفني، النازع لاستخدام "الشهادات الشخصية"، في زمن لم تعد فيه ضمن الموضة السينمائية، وبسبب أن مضمونه يكشف بوضوح زيف مجمل مشروع دولة إسرائيل، ومدى إجرامه وتدميره لشعب آخر، كُتب عليه أن ينتشر بيننا فقط، نحن المنحازين والمتبنين لخطابه من قبل أن نراه.

تكمن هنا مفارقة إضافية، أن إيال سيفان لم يولد معاديًا للصهيونية، وكذلك إيلان بابيه، أو إيله شوحاط، أو ميشيل شفارتز، أو غيرهم من الإسرائيليين المعادين للمشروع الصهيوني ودولة الاحتلال، من تحدثت عن بعضهم في مقال سابق مطلع الإبادة. فمواقف هؤلاء تشكلت تدريجيًا، ومر كل منهم بعملية تطور فكري وسياسي وأخلاقي باتجاه انفصاله عن الصهيونية مختلفة عن الآخر. وهو ما يجعلني أستعيد هنا السؤال الختامي للمقال السابق؛ لماذا لا نسمح بأن يكون "لا أرض أخرى" الخطوة الأهم في تحولات يوفال أبراهام، حتى تتجذر مواقفه أكثر فأكثر؟

يوفال أبراهام وغيره شركاء في النضال ضد العنصرية والاحتلال ليسوا أعداءً أو خصومًا

حالة يوفال أبراهام هي الحالة النموذجية لبداية انفصال الإسرائيلي عن دولته، ومن قبل أن يرتكب الجرم الأكبر من وجهة نظر هذه الدولة؛ تقديمه فيلمًا يصور بعض جرائم الاحتلال في الضفة الغربية. ربما يكون مؤهلًا لهذه التحولات والانفصال كونه منبوذًا من مجتمعه الإسرائيلي من قَبل الفيلم وجوائزه وشهرته العالمية.

بداية تحولات المخرج لم تقع مع الفيلم، بل سابقة له. وهي بداية نضالية تحديدًا، وليست ثقافية أو فنية. تبدأ من وقوفه فوق أرض فلسطينية، نهارًا وليلًا، في الحر والبرد، في مواجهة جرافات وآليات عسكرية إسرائيلية أتت لهدم بيوت الفلسطينيين، فيشاركهم في المواجهة والتصدي لها، بكل ما يحمله هذا التصدي من مخاطر.

أرضية النضال السياسي ضد الاحتلال، حتى وإن انحصر في الضفة الغربية، وليس داخل دولة إسرائيل العنصرية، تمنحه أفقًا واسعًا للتطور، وقدرة على مواجهة النبذ الذي سيزداد في المجتمع الإسرائيلي ضده، إن ظل على مواقفه. هذه الأرضية تسمح له، في حالة تطوير مواقفه تلك، أن يصل للحظة التي يرى فيها دولة إسرائيل بناءً مشوهًا ينبغي هدمه، لصالح بناء جديد، يضمه وصديقه باسل عدرا. بناء لا يستند إلى أي تفرقة عنصرية، أو لتفوق دين على آخر، أو لأحقية تاريخية فانتازية في مواجهة أخرى.

يوفال أبراهام وغيره شركاء في النضال ضد العنصرية والاحتلال. إنهم مِن هؤلاء الذين استطعنا الاستحواذ على خيالهم بتعبيرات إدوارد سعيد. ليسوا أعداءً أو خصومًا، وليسوا كذلك من نوعية مدعيي اليسارية من الصهاينة الطامحين في بعض التحسينات لتجميل ملامح دولتهم القبيحة.

وجود مخرج "لا أرض أخرى" فوق أرضية سياسية تقربه ولو قليلًا من إيلان بابيه وإيال سيفان وإيله شوحاط، وغيرهم، يحطم الأطروحة التبسيطية بأن كل مواطني دولة العدو متساوون، كلهم على الشاكلة نفسها، كلهم أعداء. تلك الأطروحة التي أنتجت كارثتين نقيضتين، الأولى الانسحاق أمام العدو الذي لا يُقهر ومحاولة التعايش معه. والثانية هذا الوهم بأننا قادرون على محو كل الأعداء، لأننا متفوقون قوميًا ودينيًا، لأن الله معنا.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.