ِABC News
لقطة من فيديو عن تأثير فرض ترامب لرسوم جمركية جديدة على السلع الواردة من عدة دول، 4 أبريل 2025

حرب ترامب "المجنونة" على التجارة.. فتش عن النظرية

منشور الثلاثاء 8 أبريل 2025

صورة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حاملًا لوحةَ تعريفاته الجمركية الجديدة، يوم الخميس الماضي، ربما ستبقى شاهدةً على لحظة فاصلة في التاريخ الحديث، على غرار صور الاقتصادي البريطاني جون مينارد كينز والموظف البارز في وزارة الخزانة الأمريكية هاري دكستر وايت، وهما يعيدان في أربعينيات القرن الماضي تشكيل الاقتصاد العالمي بعد الحرب العالمية الثانية في بريتون وودز الأمريكية، ليمنحا الدولة دورًا أكبر في الاقتصاد، وأيضًا صور رئيسة الوزراء البريطانية الشهيرة مارجريت ثاتشر وهي تعلن نهاية السياسة الكينزية بقولها "لا يوجد شيء اسمه المال العام".(*)

لنفهم كيف وصلنا إلى هذا المشهد علينا البحث أكثر في مبررات الإدارة الأمريكية الحالية، التي تستند إليها في ضرب واحد من صميم مبادئ الليبرالية الاقتصادية؛ حرية التجارة. وقبل الخوض في التفاصيل علينا التنبيه إلى أن هذا التحليل لا يستند إلى أننا أمام رئيس طائش لا يدري ما يفعل، أو ما دُرج على التعبير عنه بمقولة "معانا مجنون في الأسانسير"، ولكن ثمة طبقة حاكمة تدافع عن مصالحها في عالم يشهد تحولات كبيرة عن الصورة التي كان يتخيلها الاقتصاديون في تسعينيات القرن الماضي.

داخل عقل المستشار الاقتصادي 

قد يبدو ترامب ساذجًا بعض الشيء وهو يعرض لوحة تشرح الرسوم الجمركية التي تُفرض لأول مرة على كل السلع التي تستوردها بلاده، ويقول لمستمعيه إنه كان يود إحضار لوحة أكبر، لكن الرياح شديدة، كأنه يخشى أن تسقط اللوحة الضخمة على جمهوره في مشهد أشبه بالأفلام الهزلية. 

لكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحديث الهزلي، فوراء الإجراءات التي أعلنها ترامب الخميس الماضي، مطلقًا عليها "يوم التحرير"، جدل عنيف بين نخبة من ألمع الاقتصاديين الأمريكيين، وربما لو تحدثنا عن ستيفن ميران سيبدو "يوم التحرير" مسألة أكثر جدية مما يبدو عليه الأمر ونحن نسمعه من ترامب.

لقطة من فيديو لمقابلة مع ستفن ميران المستشار الاقتصادي لترامب، للحديث عن حالة الاقتصاد ومؤشر ثقة المستهلك، 25 مارس 2025

ميران اقتصادي وجيه، حاصل على الدكتوراه من جامعة هارفارد الشهيرة، ويتقلد حاليًا منصب رئيس مجلس الاستشاريين الاقتصاديين لترامب، وهو العقل المُنظر للحرب التجارية الحالية، ويبدو ثابتًا أمام منتقديه بصورة لافتة للنظر.

شاهده مثلًا وهو يواجه عاصفةً من الهجوم من مذيعي شبكة بلومبرج الأمريكية بسبب المخاوف من أن تؤدي هذه الإجراءات لدخول الولايات المتحدة في موجة من الركود والتضخم، ليرد في ثقة بأن الرسوم على الواردات لن تُحدث تأثيرًا كبيرًا، لأن الاستيراد لا يمثل أكثر من 14% من الاقتصاد الأمريكي.

في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي كتب ميران ورقة بحثية، بعد انتخاب ترامب لفترة ثانية بأيام قليلة، فند فيها حججه للدفاع عن فرض رسوم جمركية على واردات أمريكا. تدور هذه الحجج بين عالمين يشغلان عقل النخبة الحاكمة في الولايات المتحدة في الوقت الراهن، بين رغبتها في تعزيز نمو الوظائف محليًا وقلقها من تهديد الصين وروسيا لأمنها القومي.

تريفين يعود للحياة 

لنفهم حجج ميران، علينا بالعودة في التاريخ أكثر، لإحدى جلسات الكونجرس في عام 1960 حين استُدعي الاقتصادي الأمريكي روبرت تريفين للشهادة أمام النواب الأمريكيين بشأن نبوءة متشائمة روج لها عن مستقبل الاقتصاد الأمريكي، أشعرت الكثيرين بالقلق، وعُرفت فيما بعد بـ"معضلة تريفين". 

في هذا الوقت، أي بعد الحرب العالمية الثانية بنحو عقدين، كان الدولار بدأ يتبوأ مكانته عالميًا كعملة احتياطي دولية، بعد أن تراجع الإسترليني عن القيام بهذا الدور منذ الحرب العالمية الأولى وخلَّف وراءه فوضى عارمة في الاقتصاد العالمي، تريفين كان يقول باختصار إن لهذه المكانة ثمنًا، فلكي توفِّر الولايات المتحدة الدولار للعالم، عليها أن تكون مقترضًا كبيرًا، فالدول الصغيرة تذهب للولايات المتحدة وتشتري السندات والأذون لتضعها في بنوكها المركزية. 

هذه القروض (أو استثمارات العالم في السندات والأذون الأمريكية) تستخدمها الولايات المتحدة بالتبعية لشراء الواردات من العالم الخارجي، بتعبير آخر لكي تحافظ أمريكا على دورها كعملة احتياطي يجب أن تظل مستوردًا كبيرًا من الخارج، وهنا تكمن المعضلة، فدولة تقترض من العالم كثيرًا لتشتري وارداتها ستكون ذات سمعة سيئة، وبالتدريج سيفقد الناس الثقة في الدولار. 

الصين ثالث أكبر مُصدر لأمريكا وهي في الوقت ثاني أكبر مستثمر في الأدوات المالية الأمريكية

لكن ما حدث عمليًا كان عكس ذلك، فقد استمر عجز الميزان التجاري الأمريكي في التفاقم، ولم يتخلَّ العالم عن الدولار، بل إن هذه التركيبة الغريبة؛ أي اعتماد أكبر اقتصاد في العالم بشكل مفرط على الاستيراد، صارت الفلسفة الأساسية للنظام الاقتصادي العالمي منذ التسعينيات. 

بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وتراجع شعبية نظرية التبعية الاقتصادية التي كانت تشجع كل دولة على الانغلاق وتصنيع احتياجاتها من الإبرة إلى الصاروخ، اندمج العالم النامي كله في العولمة، وصارت الولايات المتحدة تعتمد بشكل أكبر على الصين لتصنع لها احتياجاتها، أو أجزاءً من بعض مكونات السلع التي تستهلكها، استغلالًا للعمالة الرخيصة هناك، وهكذا صارت الصين ثالث أكبر مُصدِّر لأمريكا، وهي في الوقت نفسه ثاني أكبر مستثمر في الأدوات المالية الأمريكية.

في هذا السياق، نسي الكثيرون معضلة تريفين، واعتبر البعض أن ظروف عصرنا الراهن تثبت أنها نظرية غير صحيحة، لكن ميران جاء قبل أشهر ليدافع عنها بشدة. 

الدولار يهدد الأمن القومي

حسنًا، كيف أعاد ميران "معضلة تريفين" إلى قلب الجدل الأمريكي؟ يقول ميران إن نصيب الولايات المتحدة من الاقتصاد العالمي انخفض بشكل واضح من 40% في الستينيات إلى 21% في الوقت الراهن، لا يعني ذلك أن الولايات المتحدة مهددةٌ بتحقق نبوءة تريفين، لكنها تعيش ضغوطًا كبيرة بسبب دورها العالمي، كما يقول مستشار ترامب.

واحد من أبرز هذه الضغوط هو حجم الوظائف الصناعية التي فقدتها الولايات المتحدة منذ بداية الألفية الجديدة، وقت انفتاح علاقاتها التجارية مع الصين، التي يقول إنها تتراوح من 600 ألف إلى مليون وظيفة، والأهم أنه يشعر بالقلق من اعتماد بلاده على استيراد منتجات صينية قد تتمكن بكين من التحكم فيها عن بعد، ما يجعلها تشكل خطرًا على الأمن القومي من وجهة نظره.

فقدان الدولار جزءًا من قيمته بالانغلاق التجاري سيجذب الاستثمارات الصناعية لأمريكا

والمتهم الأساسي في كل هذه المشكلات في نظره هو الوضع الحالي للدولار، فالعملة الأمريكية بلا شك مقومة بأعلى من قيمتها الحقيقية. في بلد يعاني من عجز تجاري هائل يبدو الدولار راسخًا ولا يتغير، والسر في ذلك هو الطلب المصطنع على هذه العملة من العالم، بسبب احتياج كل بنك مركزي لمراكمة احتياطات دولارية في خزائنه، هنا ينبهنا ميران إلى أن دولارًا مرتفعًا هو ما يعوق بلاده عن التصدير ويجعلها تعتمد بشدة على الاستيراد.

لا يريد ميران للدولار الأمريكي أن يفقد مكانته الحالية، ولكن أن تتم التضحية ببعضها فقط، من خلال بعض الانغلاق التجاري الذي يسمح ببعض الضعف في الدولار، ويساعد ذلك على جذب الاستثمارات الصناعية لأمريكا والعودة للتصدير بقوة.

في هذا السياق نستطيع أن نفهم لماذا بادر ترامب منذ وصوله للرئاسة بإعلان تعريفات على أكبر شركاء بلاده التجاريين، الصين والمكسيك وكندا، ثم وسع نطاق حربه التجارية لتشمل الاتحاد الأوروبي وحدًا أدنى من الرسوم على كل السلع المستوردة.

عودة لزمن الميركنتيلية

رغم رصانة تحليل ميران، فإن تصوراته الاقتصادية أثارت عاصفةً من ردود الفعل في الأوساط الأمريكية، من أهمها تصريحات محافظ بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي جيروم باول عن أن الرسوم الجديدة ستساهم في إبطاء النمو الاقتصادي للبلاد ورفع التضخم، ولا تنبع أهمية تصريحاته من نفوذ منصبه فقط، ولكن لأن العالم ينتظر منذ عامين أن يخفض البنك الفيدرالي سعر الفائدة، ليتخلص من أعباء رفع تكاليف الاستدانة على دول نامية مثل مصر.

أيضًا يوجد تيار اقتصادي معارض لتصورات ميران، لعل أبرز ممثليه الاقتصادي البارز بول كروجمان، الحاصل على جائزة نوبل، إذ اتهم ترامب بالجنون في أول تعليق له على إعلان الخميس الماضي، ثم في تعليق أكثر هدوءًا شرح أن هذه الرسوم تعصف بنظام التجارة العالمي الذي يحكم العالم منذ 1947، وأن تصرفات ترامب ستشجع دولًا أخرى على خرق هذا النظام.

يمكننا أن نتفهم هلع كروجمان مما يجري، إذ إن مَيل الولايات المتحدة إلى الانغلاق التجاري، أو ما يسمى بالميركنتيلية، طعنة غائرة في قلب الفلسفة الليبرالية. لقد كان الإيمان بحرية التجارة مسألةً مُسَلَّمًا بها منذ عهد الاقتصاديين البارزين آدم سميث وديفيد ريكاردو، وقت أن كانا بصدد تأسيس علم الاقتصاد الذي نعرفه بشكله الحالي.(**)

ويمكن أن نفهم غضب كروجمان أيضًا في سياق حالة التوتر التي سبقت إعلان الثاني من أبريل/نيسان الماضي، فقد كان الجميع يخمن هل سيفعلها ترامب وكم النسبة؟ هذه الحالة رسخت انطباعًا بأن أحوال الاقتصاد باتت تتركز في يد الرئيس، كما يقول كروجمان.

كما أن ادعاء مستشار ترامب الاقتصادي بأن تقييد حرية التجارة يدعم الصناعة والتوظيف الصناعي ليس محل إجماع، إذ يقول الاقتصادي جاسون فورمان، وهو أستاذ من هارفارد أيضًا، إن ترامب يفرض رسومًا على كل السلع بينما من المستبعد أن تتوسع أمريكا في إنتاج الموز والأفوكادو مثلًا، أو أن تعمل على جذب وظائف مثل التي يقوم بها العمال في فيتنام كصناعة الملابس والأحذية؟

ولا يبدو مستقبل الاقتصاد الأمريكي مبشرًا في نظر البعض، على عكس ما يظهر في حديث ميران، مثلًا يقول مارك زاندي، الاقتصادي في وكالة موديز، إن هذه الإجراءات قد تُدخل الاقتصاد الأمريكي في ركود يرفع معدلات البطالة من 4.1% إلى 7.5%.

ما تأثير كل ذلك على مصر؟

قد تكون هذه اللحظة تاريخية فعلًا إذا استمر ترامب على موقفه ولم يتراجع عن سياسات الحماية التجارية لبلاده، وقد تتحول لبداية حقبة طويلة من الانغلاق التجاري، على غرار ما رأيناه في الكساد الكبير في الثلاثينيات، إذا ما اندفع شركاء الولايات المتحدة التجاريون في الرد برسوم انتقامية على ترامب، ورد هو عليهم مرة جديدة، ثم دخلنا في دائرة مفرغة من الانتقام. لكن هل علينا أن نقلق في مصر من ذلك؟

دار نقاش واسع حول هذا الأمر  في مصر، بين من يقلل من الضرر المتوقع بالنظر إلى أن الرسوم المفروضة على بلادنا 10%، وهناك من يتفاءل أيضًا بأن إعادة ترتيب الاقتصاد العالمي قد تمنحنا موقعًا أفضل. 

لكن ما رأيناه خلال الأيام الماضية يوحي بأننا نعاني من هشاشة شديدة قد تستجوب أن نكون حذرين إذا ما أردنا التفاؤل، مثلًا أدى انهيار البورصات الأمريكية الخميس والجمعة الماضيين لخفض الجنيه أمام الدولار، بسبب خروج الأموال الساخنة، فلنا أن نتخيل كم سنعاني إذا دخل العالم في ركود طويل بسبب الحرب التجارية. 

للأسف هذه الهشاشة تنبع من ضعف اقتصادنا المحلي، وهو أمر يستدعي الانتباه أكثر في أوقات إعادة تشكل الاقتصاد العالمي، فوسط حروب الكبار، على الدول الناشئة مثل مصر أن تكون أكثر جدية في التنمية والاستقلال الاقتصادي، حتى لا يكون مصيرنا على غرار التعبير القرآني "لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون".


(*)لعب كينز ودكستر وايت دورًا رئيسيًا في صياغة نظام بريتون وودز بعد الحرب العالمية الثانية، الذي تأسس على أساسه صندوق النقد والبنك الدوليان، ومالت فلسفة بريتون وودز لتقييد حركة رؤوس الأموال ودعم قدرة الحكومات على التخطيط الاقتصادي.

(**) آدم سميث وديفيد ريكاردو هما من أبرز المفكرين الاقتصاديين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، حيث وضع سميث أسس نظرية الاقتصاد الكلاسيكي في كتابه ثروة الأمم، بينما طور ريكاردو نظرية الميزة النسبية في التجارة الدولية، مما ساهم في فهم الديناميكيات الاقتصادية والتجارة العالمية.