بجوار بوابة أوبرا الإسكندرية المطلة على شارع فؤاد، حيث الزحام البصري لنسيج مخملي أحمر عُلِّقت عليه بوسترات حفلات دار الأوبرا دون نظام، يقع الزقاق الذي ربما لن تتبينه من اللحظة الأولى، فهو ممر ضيق لا يتسع لسيارة.
قبل أن تتوغل في الزقاق، ستجد على يسارك ساحة الأوبرا وفي مقابلها تقع سينما رويال، وهي إحدى أقدم دور العرض بالمدينة، المغلقة منذ سنوات قليلة للتجديد.
بجوار السينما لافتة لكافيه ومحل خردوات باسم "إيما وسيما"، مضاءة باللونين الأزرق والأحمر الداكن، وفي الداخل يدفعك ديكور المكان إلى العودة للماضي.
أحدث موضة في الأربعينات
في عام 1940 افتتح شاب يدعى ذكي العشري مع شريكه أحمد لبيب محل خردوات مجاور لسينما رويال مقابل مسرح سيد درويش، قبل أن يصبح دار أوبرا الإسكندرية، وأطلق عليه الشريكان اسم "عند لبيب" لجذب رواد السينما بفاترينة زجاجية تمتلئ بالشوكولاتة والبونبون، وفق ما حكى للمنصة هشام، نجل ذكي.
وخلال نفس السنة اشتريا ثلاجة شركة كوكاكولا بنظام "اخدم نفسك" حيث يضع الزبون العملة المعدنية ويستلم مشروبه ويرحل.
قضى العشري ولبيب سنوات في إدارة المحل حتى صار علامة مميزة للممر المؤدي للسينما، يعرفه كل زوارها وزوار مسرح الأوبرا أيضًا، والذي تدفق عليه فنانون مشهورون على مدار سنوات.
في عام 1995 توفي ذكي العشري، وبعده ظل المحل على نشاطه. لكن بسبب إغلاق السينما للتجديد بعدما اشترتها شركة رينيسانس، وتحويل المسرح إلى دار أوبرا الإسكندرية، فقد المحل معظم زبائنه.
سقط المحل في دائرة الإهمال عندما فقد أيضًا زبائنه الأجانب، الذين كانوا يرتادون ورشة تصليح البيانو المجاورة له، والتي كان يملكها رجل يوناني، أو الذين كانوا يعبرون من أمامه وهم في طريقهم إلى محل سيارات شركة "ليلاند" على الناصية.
إحياء المحل القديم
في تلك الفترة العصيبة، كان هشام العشري، أحد أبناء ذكي، يجوب أوروبا والولايات المتحدة للعمل، لكنه ظل مهتمًا بمتابعة أحوال المحل. وفور عودته إلى مصر اتفق مع أخوه هيمن، مهندس الديكور الذي سماه والده تيمنًا بشركة "هيمن" للإنتاج السينمائي، على تجديد محل الحلويات الخاص بوالده.
في نهاية التسعينيات كانت الإسكندرية في مرحلة ركود، كما يطلق عليها الروائي علاء خالد، لذا انتشرت لافتات "مغلق للتجديدات". لم ندرك آنذاك كنه ذلك التجديد، الذي بدأ بهدم كورنيش المدينة القديم ثم حلت المباني العالية مكان الفيلات والقصور التاريخية، وبدأت المحال القديمة تغيّر نشاطها.
وسط هذه التحولات، أصر هشام وهيمن على الاحتفاظ بطابع محل والدهما دون طمس تاريخه، فظلت كل مقتنيات المحل في مكانها، وأهمها ثلاجة الكوكاكولا التي صارت علامة مميزة للمكان.
احتفظ هيمن أثناء تجديد المحل بماكينة الكاش القديمة والتليفون والصور، مع برطمانات البونبون والحلوى. وغطى الحوائط بديكور الطوب الأحمر ليضفي على المحل ذلك الإحساس القديم.
وبسبب تجربة هشام في أوروبا، اقترح إدخال مشروبات جديدة للمحل مثل الاسبرسو والكابتشينو، اللذين لم يكونا شائعين في مصر آنذاك. وتخلى هيمن عن الفاترينات الزجاجية لينشئ مكانها بارًا بكراسي عالية، يجلس عليها الزبائن أثناء الشرب أو شراء الشيبسي والبسكويت.
عودة الروح للمكان العتيق
ما زلت أذكر تفاصيل ذلك اليوم جيدًا؛ كانت سينما رويال أعيد افتتاحها للتو وقسّمت لثلاث صالات عرض صغيرة تعرض ثلاثة أفلام. عقب الافتتاح اصطحبنا والدي للسينما، وبينما نعبر الممر لفت انتباهي المحل الذي لم يكن طلاء التجديدات على جدرانه قد جفَّ بعد، لكن بدا مستعدا لاستقبال رواد السينما الجديدة، الذين يختلفون كليًا عن جمهور السينما القديمة.
حدث ذلك في بداية الألفية، وبعدها بسنوات قليلة تمت إعادة افتتاح أوبرا الإسكندرية ليعود الزبائن للتدفق في الممر .
تعلق قلب هشام بالمكان، الذي كان السبب في أن يحظى في طفولته برؤية العديد من الفنانين المشهورين أثناء خروجهم من المسرح. ولم تنقطع صلته به، فعاد بعد ثورة يناير بعام واحد إلى مصر ليتابع المحل بنفسه، بعد أن تحول إلى كافيه ضيق بأماكن جلوس قليلة، وأصبح نشاط المحل الأصلي بيع الحلويات والشيبسي.
في نفس المنطقة التي يقع فيها المحل، امتدت الأيدي للتغيير وطالت كل شيء من العمائر التراثية والمحال والكافيهات الجديدة التي تتغير أساميها بسرعة، ليتبدل حال المدينة كل يوم .
شكل الحياة بعد الثورة
بعد ثورة يناير بدأ التغيير يتخذ وتيرة أسرع، فبين ليلة وضحاها أصبحت المباني التراثية في مرمى بلدوزرات الهدم، وتحولت منطقة شارع فؤاد نفسها لمنطقة كافيهات. بين كل ناصية وأخرى يطالعك عنوان بالإنجليزية لكافيه يختلف في طرازه عن الكافيه المجاور. تلك الأنشطة جلبت جمهورًا مختلفًا للشارع الهادئ. وفي وقت لاحق، بدأت تلك الكافيهات تغلق أبوابها واحدًا تلو الآخر، بسبب منافسة المطاعم والمحال المقامة على الكورنيش مباشرة.
من يتجول في شارع فؤاد الآن سيجد الكثير من اللافتات لمحال خاوية كانت في زمن آخر مطعمًا أو كافيه يعج بالزبائن، وأحدها مطعم روستري الشهير، المعروف بالتمثال الذهبي القائم خارجه والديكور الخشبي الداخلي. ورغم توسع المطعم لعدة فروع لكنه منذ شهور أغلق أبواب الفرع القديم للأبد، ليختفي معه طابع المحلات الهادئة التي ميَّزَت شارع فؤاد والأزقة المجاورة لسنوات طوال، ويتركنا مع إحساس بالاغتراب وسط شارع من الصخب.
نجا محل "إيما وسيما" من موجات فتح وإغلاق متعاقبة، وما زال زبائن المحل القدامى يزورونه حتى الآن، يتوقفون قليلًا لالتقاط الصور بجانب طابعه التاريخي المميز.
وبفضل محمد العشري، ابن هشام، أصبح للمكان حضور على السوشيال ميديا، حيث يتحدث الشباب عن مميزات المكان الذي تستطيع أن تشرب فيه القهوة مع أصدقائك في مساحة من الهدوء يتوافر فيها الواي فاي.
بعد سنوات كثيرة، لم يعد الناس يتعرفون على مدينتهم بسهولة، فحينما يسمعون مصطلح التغيير يشعرون بالضياع، المبني على خبرة طويلة من التغيير الذي تحول إلى تخريب.