استقبل ياسين خليل تسعيرة مجموعات الدعم المدرسية التي أعلنتها وزارة التربية والتعليم مؤخرًا، باستياء وتذمر لم يخلوان من ابتسامة ساخرة، بعدما بددت آماله في توفير دروس بسعر جيد لأولاده الأربعة في مراحل التعليم المختلفة، قائلًا "بيسموها مجموعات دعم، مع أنها مفهاش أي دعم".
وتتراوح أسعار المجموعات المدرسية بين 20 جنيهًا للحصة كحد أدنى، و80 كحد أقصى، بالنسبة للشهادتين الإعدادية والثانوية في المدارس الحكومية العربية، بينما يقفز السعر إلى 30 جنيهًا كحد أدنى في المدارس التجريبية وحتى 100 جنيه.
وتنطبق تلك التسعيرة على اثنين من أبناء خليل يدرسان في الشهادتين الإعدادية والثانوية العامة حكومية، ما يعني أنه سيحتاج نحو 1000 جنيه للابن الواحد في الشهر نظير مجموعات في خمسة مواد، إذا كان سعرها بمتوسط 50 جنيهًا، متسائلًا "طيب فين الدعم في كدة. وإيه الفرق بينها وبين الدروس الخصوصية، طب أنا لو مش قادر، يبقى كده خلاص ولادي ميتعلموش؟".
يأتي ذلك في وقت تعاني الأسر المصرية من ارتفاع الأسعار في ظل تضخم غير مسبوق، سجل الشهر الماضي نسبة 31.2%.
وبالنسبة لخليل الذي يعمل في زراعة ستة قراريط في البحيرة ورثها عن والده، وتعمل زوجته في تربية الطيور وبيعها بالأسواق، يعد التعليم المخلص المنتظر من الفقر "لما لقيت ولادي كويسين في التعليم، قلت أنا ومراتي نساعدهم يمكن واحد فيهم يدخل كلية كويسة وينقلنا من مرحلة الفقر اللي عايشين فيها، وبقى أغلب مصاريفنا رايحة على التعليم، إشي كتب، وإشي مصاريف، وإشي دروس، بس أدينا بنستثمر في ولادنا".
ويضيف "كنت كل شوية أسأل عن المجموعات، هتتعمل أمتى، وفلوسها كام. كان عندي أمل تكون موجهة لأبناء الفقراء اللي مش لاقيين يتعلموا، واتصدمت لما عرفت إن الحصة الواحدة ممكن توصل 80 جنيه، طب مين معاه يدفع المبلغ ده في حصة واحدة، لمادة واحدة".
ولا يستطيع الأب دفع أبنائه للاعتماد على المدرسة فقط "مفيهاش تعليم، ولا فيها معلمين، وولادي زيهم زي باقي الطلاب، بيتعلموا بالفلوس في مراكز الدروس الخصوصية، ومش عايز من الدنيا غير إني أوفر لهم أقل احتياجاتهم.. التعليم".
أسعار "الدعم" تتضاعف
وتعد التسعيرة الجديدة قفزة، بعدما كانت تبدأ في عهد الوزير السابق طارق شوقي من عشرة جنيهات وتصل إلى 85 جنيهًا، فضلًا عن تقلص مدة الحصة من ساعتين إلى ساعة ونصف الساعة.
وتركت الوزارة مؤخرًا تحديد السعر بين حدوده الدنيا والقصوى إلى مديري المدارس وفق الطبيعة الجغرافية، وبعد التشاور مع مجالس الآباء والأمناء والمعلمين بكل مدرسة.
لكن مصدرًا رفيعًا مقربًا من وزير التربية والتعليم رضا حجازي، قال للمنصة إن المقصود بالطبيعة الجغرافية "ما يدفعه الطالب في السناتر الخصوصية"، معقبًا "لو المدير عايزها بعشرين أو تلاتين جنيه هو حر، بس يقولي الأسباب ويقنعني بالسعر الرخيص اللي هيحطه".
وحددت التسعيرة أيضًا سعر من 20 إلى 50 جنيهًا لصفوف النقل في الحصة الواحدة لكل مادة، بينما تكون من 30 إلى 60 جنيهًا، لطلاب المدارس التجريبية، على أن يحصل المعلم على 85% من إجمالي ما يتم تحصيله يوميًا، بعد خصم نسبة 15% من المبلغ الإجمالي أولًا، لتذهب إلى وزارة المالية في صورة ضرائب.
وعمليًا فإن من مصلحة إدارات المدارس تحديد أسعار مرتفعة، لأنها مستفيدة، إذ نص القرار أيضًا على تحصيل 20% من إيرادات مجموعات الدعم، لصالح جهات تعليمية ومسؤولين عدة، منهم مدير المدرسة الذي يحصل على 1.5%.
بعد فشل ترخيص الدروس
واعتبر أستاذ التربية بجامعة حلوان وائل كامل، أن تلك الأسعار هي محاولة أخيرة لتحصيل أي مستحقات مالية من الدروس، بعد أن كان الوزير يرغب في تقنين أوضاع السناتر.
وسبق واقترح الوزير في مجلس النواب في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، تقنين السناتر الخصوصية، لتحصيل مستحقات الدولة منها، كضرائب ورسوم، غير أن توجه الحكومة قوبل بموجة من الغضب العام، باعتباره إضفاء للشرعية على السناتر، ما دفعه للتراجع.
ولفت كامل إلى أن أسعار المجموعات المدرسية يمكن أن تؤدي إلى ارتفاعات جديدة لأسعار الدروس الخصوصية والسناتر، قائلًا للمنصة "لما يجي صاحب سنتر أو معلم خصوصي يرفع السعر بتاعه، هيقولك ما هي وزارة التعليم نفسها عاملة أسعار عالية، فأنا كمان هنافسها، وللأسف الطالب وأهله هم اللي هيدفعوا التمن غالي".
وأضاف كامل "في الماضي القريب، كانت مجموعات التقوية المدرسية ملاذًا لأبناء الفقراء ومحدودي الدخل للهروب من السناتر الخصوصية، مثل عيادات المستشفيات الحكومية مقارنة بالكشف الخاص، لكن الآن يجري تسليع التعليم ضمن محاولات كثيرة لاستقطاع جزء من العائد لصيانات المدارس وتحسين رواتب المعلمين".
المعلمون متضررون أيضًا
للوهلة الأولى، يبدو أن المدرسين مستفيدين من ذلك التوجه الوزاري، لكن هذا ما نفته سعاد* مدرسة اللغة الإنجليزية في إحدى المدارس الإعدادية في حلمية الزيتون، مشيرة إلى أن الوزارة لم تحدد ضوابط بعينها لاختيار المعلمين المشاركين في مجموعات التقوية، واشترطت "الكفاءة فقط"، دون أن تضع معايير صارمة لذلك "الوصف المطاط".
وأضافت سعاد للمنصة، "طبعًا وارد كل مدير مدرسة يجيب المعلمين المقربين منه علشان يستفيدوا من نسبة المتحصلات المالية اللي بياخدها كل معلم من مجموعة الدعم".
وأشارت المدرسة إلى ما كان يحدث من "خروقات"، بحسب وصفها، "كان ممكن يحضر 20 طالب في المجموعة، ومدير المدرسة يبلغ الإدارة التعليمية إنه حضر عنده 10 طلاب بس، ويقسم الباقي مع المدرس، ومتعرفش على أساس إيه المعلم ده يشارك، وده لأ، ودي ثغرة كبيرة الوزارة متعرفش عنها حاجة".
ويرفض بعض المعلمين المشاركة في مجموعات الدعم الرسمية، وفق ما نقلته سعاد "قالولي الفلوس في السناتر أحلى، وبعدين ليه وزارة المالية تاخد ضرائب أصلًا من مجموعات الدعم، لو الوزارة عايزة المصلحة فعلًا، يبقى العائد كله يروح للمدرسين اللي مرتباتهم هزيلة، لكن الوزارة بتوزع فلوس المجموعة، شوية لمدير المدرسة، وشوية لمدير الإدارة، وشوية للصيانة، ودي حاجة مستفزة".
ويبدو توجه الوزارة من البداية في السعي لاجتذاب مشاهير المدرسين، دون التقيد بمعلمي الوزارة، فسمحت بالاستعانة بغير المعينين، شريطة ألا يزيد عددهم عن 40% من إجمالي من يتم اختيارهم للتدريس بهذه المجموعات، وبناء على اختيار الطلاب لهم، لاسيما وأن الكثير من العاملين في السناتر ليسوا معلمين معينين في المدارس من الأساس.
وأرجع المصدر القيادي نفسه، ذلك التوجه إلى محاولة إنجاح مجموعات الدعم "المراكز الخصوصية بها أشهر المعلمين، وغالبيتهم خرج على المعاش، أو طلب الخروج على المعاش المبكر للتفرغ إلى الدروس، قلنا لمديري المدارس يتفاوضوا معاهم طالما الطلاب عايزينهم ومتمسكين بيهم".
تكريس للطبقية
وسواء نجحت الوزارة في اجتذاب هؤلاء المدرسين أم لا، فقد بتنا أمام واقع جديد لا يبدو مريحًا للباحث والخبير التربوي كمال مغيث، لكونه يتعارض مع أحلام لأسر البسيطة، سواء أسرة خليل أو غيره، ممن تتعامل مع تعليم الأبناء كمشروع للاستثمار للانتقال من دوامة الفقر والعوز إلى منطقة أوفر حظًا وأكثر إنسانية.
يقول مغيث للمنصة، إن المجموعات تبدو في ظاهرها مدعومة، لكنها في حقيقة "تكرس للطبقية وتسليع التعليم، وهذا مؤشر بالغ الخطورة، فالكثير من الذين دفعوا أولادهم للتسرب ليس لديهم تكلفة الدروس بعدما أصبحت هي أساس التعليم، في ظل انهيار قيمة المدارس، وهذا يقود لمزيد من التسرب والأمية والطبقية والتمييز".
وفقًا للأرقام الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، في أبريل/ نيسان من العام الماضي، فإن إجمالي المتسربين من المرحلتين الابتدائية والإعدادية عن عام واحد (2020)، بلغ 150 ألف طالب، بينهم 28 ألفًا في المرحلة الابتدائية، و121 ألفًا في المرحلة الإعدادية، دون أن يحدِّد الجهاز الأسباب التي دفعت كل هؤلاء لترك الدراسة.
ولدى مغيث شعور متصاعد بأن الحكومة ترغب في تحميل أولياء الأمور تكلفة تعليم أولادهم بعيدًا عن أي شيء مرتبط بدستورية المجانية، "المصروفات مرتفعة، ورسوم الدروس مبالغ فيها، وتوزيع الكتب مقابل المصاريف، والامتحانات برسوم، حتى رواتب المعلمين يتم تحسينها من جيوب الناس، عبر مجموعات التقوية، ما يقود إلى وجود شريحة لن تستطيع استكمال تعليم أولادها أمام ارتفاع الغلاء لمستويات قياسية".
وينص الدستور في المادة 19 على أن "التعليم حق لكل مواطن، هدفه بناء الشخصية المصرية، والحفاظ على الهوية الوطنية، وتأصيل المنهج العلمى فى التفكير، وتنمية المواهب وتشجيع الابتكار..".
وعلى أرض الواقع، يعد مصطلح "مجانية التعليم" محل شك، فوفق إحصاء عن أوجه الإنفاق الأسري في العام 2019-2020، بلغت حصة التعليم 482 مليارا و247 مليون جنيه، من بينهم 136 مليار جنيه للدروس الخصوصية. بينما بلغ متوسط الإنفاق السنوي للأسرة الواحدة على التعليم 18 ألفًا و549 جنيه سنويًا، وفق الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
لا ينوي الأب خليل الاستسلام لفكرة إخراج أيّ من أولاده من الدراسة، لمجرد أنه عاجز عن توفير احتياجاتهم، على أمل أن ينجحوا في المستقبل وينتشلوا أسرتهم من الفقر، معتبرًا أنه يعوم عكس تيار الحكومة التي "تعتبر تعليم أبناء البسطاء عبئًا على قلبها، ومهما أوهمت الناس بالدعم، كفاية نشوف تسعيرة المجموعات".